أحمد المكتومي
لطالما كان الشغل الشاغل للولايات المتحدة الأمريكية هو التخلص من قوة الخطاب الإسلامي السياسي الذي يمثل قوة صمود للحركات السياسية. فقد كان طارق رمضان مثالاً عظيماً للتأثير على عامة المجتمع الإسلامي الأوروبي والعربي على حد سواء. لكن أن تقوم الولايات المتحدة بالترحيب بالسياسي الكبير طارق رمضان على أرضها عام 2010 بعد أن أعلنت أنه من كبار المُتطرفين فهذا يعني أن هناك تغيرا طرأ على الخطاب الديني السياسي الذي بحد ذاته يشهد تراجعا وتلاعبا في الساحة الدولية اليوم؛ فمثل هذه التغيرات دائمًا تبحث عنها الولايات المتحدة كي تزيد من حدة الضمور الإسلامي وتستحوذ هي على ما تريد ويتغاضى العالم العربي والإسلامي عن تلك الصحوة التي طالما غنى بها الفلاسفة والمفكرون الإسلاميون القدامى.
يطلعنا العالم السياسي مارك لينش في مقالة في مجلة التسامح عنونها بـ (الحقائق المحجبة: صعود الإسلامي في الغرب) على التغيرات التي طرأت على الجماعات الإسلامية وكيف أثرت تلك التغيرات على المجتمعات؟ وما هو قول بيرمان في كتابة هروب المثقفين حول جماعة الإخوان المسلمين؟
في يونيو عام 2009 تحدث الرئيس أوباما في القاهرة عن جهد ينبغي أن يبذل للتواصل مع المسلمين من طريق "الاهتمام المتبادل والاحترام المتبادل" ولذا فإن شخصيات إسلامية تعد رموزا للإسلامية غير العنيفة والتي - أدينت من قبل لاتهامها بالتطرف - يمكن أن ينظر إليها الآن بوصفها جسرا للتواصل بين ضفتين ما كان التقاؤهما متصورا من قبل. بيد أن بيرمان لا يعترف بخزعبلات أوباما والتي عرفت بأنها تدس السم في العسل حيث أوضح في كتابه "هروب المثقفين" أن الولايات المتحدة تخوض حرباً ضد العدو الخطأ؛ فالإسلاميون العنيفون ليسوا هم الذي يشكلون الخطر الأكبر بل إن أبناء عمهم المعروفين بأنهم معتدلون هم الذين يمثلون الخطر المضاعف لأنهم يستطيعون التغرير بالليبراليين السذج ودفعهم للمعانقة والود الزائد. فالمعتدلون هؤلاء الذين يرفضون العنف " وهو بطبيعة الحال رفض مجتزأ لأنه لا يشمل إسرائيل ولا القوات الأمريكية في العراق – لا يستحقون التصديق لأن هدفهم الأساسي هو تضليل المجتمعات حيث يقول بيرمان: إن أرادوا إنقاذ المسلمين من المعتدلين المضللين فعليهم بالليبراليين المنصفين الذين يتمتعون بالصفاء والصراحة.
إنَّ طريقة بيرمان لمعالجة هذه المسائل هي التصدي لها من خلال الشخصية المثيرة للجدل وهي شخصية طارق رمضان الشخصية المثقفة والمفكرة والنشطة جداً. ينحدر طارق رمضان من أسرة مصرية عريقة جدًا؛ فجده لأمة هو حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، ووالده سعيد رمضان وهو من كبار الجماعة ومن الذين فروا من مصر هربًا من ملاحقة نظام الرئيس جمال عبد الناصر. يدرس بيرمان شخصيته عن تتبع سيرة حسن البنا وسعيد رمضان كما يدرس بنيته الفكرية والأيديولوجية ومصادر التأثير فيه. فمن خلال هذه الدراسة يقول بيرمان إن طارق رمضان شخصية غامضة جدًا، فهو يذهب إلى أن رمضان يملك جدول أعمال سري وهو شخصيته الواقعية لكنه ما استطاع أن يرينا بندقية يتصاعد منها الدخان.
تكمن مصاعب وشكوك بيرمان في المفاهيم الموجودة والدائرة في مجتمعات الديمقراطية في الغرب والأخرى السائدة في بلدان الأكثرية الإسلامية ذات الأنظمة الشمولية في كيفية فهم مسائل الهوية والانتماء وممارسة شعائر الدين والمشاركة في العمل السياسي وهذا كله ينطبق على طارق رمضان؛ فهو رجل عملي يبحث عن المسلمين الأوروبيين عن طريقة يستطيعون من خلالها أن يكونوا أوروبيين تماماً وأن يبقوا مسلمين تماماً فهو بهذا يُريد تأسيس فكرة بناءة مضمونها تمكين المسلم من أن يكون مواطناً كاملاً مندمجًا في الدول التي يقيم فيها ويكون مسلماً محتفظاً بانتمائه الديني. فمثل هذه الأفكار يرفضها بيرمان رفضاً تامًا فهو يريد من المسلمين أن يكونوا علمانيين ولا يرى إمكانية لقيام ذلك الجسر الذي يقترحه رمضان.
في الحقيقة أن بيرمان يصور نضال رمضان بصورة عكسية فخصوم رمضان ليسوا الليبراليين في الغرب بل هم السلفيون المتشددون الذين تزداد حركتهم في مصر والخليج وحتى في أوروبا الغربية. وهؤلاء السلفيون يرون أن حركة الإخوان المسلمين هي شديدة التسييس بحيث تتقبل المجتمعات المدنية وتبدو أكثر حماسة وإظهارا لشعائر الإسلام وأشكاله في المجال العام. لقد شجع الإخوان المسلمون النساء على ارتداء الحجاب وذلك من أجل أن يظهروا تمسكهم بالأحكام في السوق وأمكنة العمل والجامعات. وأما السلفيون فيريدون أن تبقى النساء في البيوت وأن يظللن في عزلة عن الرجال. فيجب على الليبراليين المنصفين أن يدعموا مقاربة طارق رمضان لأنه يعرض على المسلمين المهاجرين نموذجاً للاندماج بعيداً عن الانعزال والتبعية.
إذا أردنا أن نفهم النزعة الإسلامية الجديدة فيمكن أن نعتنق إحدى المقاربتين: أولاهما تذهب إلى أنَّ النزعة الإسلامية تيار واحد له فروع متعددة والمتشابهات في داخله أكثر من المفرقات وبحسب هذه النظرية فإنّ الإخوان المسلمين والقاعدة يمثلون فرعين لتيار واحد، والاختلاف بينهما هو في التكتيك وليس في الهدف. وفهم كهذا يجعل من أسامة بن لادن يطل من سحنة طارق رمضان.
أما المقاربة الثانية فترى المفارقات والتمايزات في الأيديولوجيات والسلوك بين الجماعات الإسلامية المختلفة. وخلال العقد الماضي منذ أحداث 11/9 رأينا الولايات المتحدة تتحرك من معسكر إلى آخر فتجربة الولايات المتحدة في التعاون مع المواطنين العراقيين ضد القاعدة في العراق دفعت صناع القرار السياسي لتفضيل استراتيجية تعترف بالاختلافات بين الإسلاميين وتعمد لاستخدام هذه الخلافات من أجل المضي في تهميش القاعدة، وفي الوقت نفسه كان هناك مراقبون في الولايات المتحدة يراقبون حركة الإخوان المسلمين في الانتخابات والمشاركة في الديمقراطية في مصر. حيث يتهم بيرمان أن من قتل المخرج الهولندي تيوفون هو ذلك المسلم المتظاهر بالوداعة واللطف، وهنا يشير إلى طارق رمضان. صحيح أن رمضان أدان أسامة بن لادن واتهم جماعته بالإرهاب إلا أن بيرمان لم يتأثر بهذا لأنه يرى أن العنف هو مظهر لمشكلة أعمق في المشروع الإسلامي.
إن كثيرا من نقاشات بول بيرمان في كتابه "هروب المثقفين" والتي يمكن استقبالها بجدية قد غرقت في المساعي الحثيثة لاصطناع نسب يربط الإسلاميين المعاصرين بالنازية الألمان ويشكل إصراره على مصطلح النازية الإسلامية دليلا على رغبته عن الواقع الإسلامي لصالح النخبوية الفكرية المتلاعبة؛ فقد استدل بكتاب الدعاية النازية في العالم العربي بأن حسن البنا والمفتي أمين الحسيني كانا شديدي الإعجاب بالقادة الألمان مثل أدولف هتلر وجوزيف غوبلز. بالإضافة إلى ذلك كله فإن بيرمان يتجاهل جوانب تاريخية جمة هي التي أسهمت في صناعة الإسلامية المعاصرة ففي الخمسينيات اضطهد نظام الرئيس جمال عبد الناصر الإخوان المسلمين وانتشرت كتابات الأيديولوجي البارز سيد قطب وقد أسهم الأمران في إحداث انشقاق أدى إلى صعود الإسلامية الجديدة وكان البنّا ينافس على مقاعد البرلمان ويحتفظ في نفس الوقت بتنظيم عسكري سري مثل معظم الأحزاب في مصر آنذاك. أما في فترة سيد قطب فقد كان على الإسلاميين إما الهرب من مصر أو أن يقاسوا الإرهاب في غياهب السجن.
في نهاية المطاف ينصح بيرمان بإيجاد طريقة أو طرق لإشراك المواطنين الجُدد في حضارة الغرب وإذا كانت الديمقراطية تعني شيئاً فهو التسليم لمواطنيها بالتصرف والحركة بحرية، وربما ينفرد رمضان بالآراء التي ذكرناها لكنه ما زال واحدا من كبار دعاتها، وبيرمان شديد السخط على الغربيين الذين يدعمون رمضان لكنه يعترف أخيراً بأنَّ هؤلاء قد لا يجدون طريقة أفضل لدعم الديمقراطية في العالم العربي.
