أمجد سعيد
إنَّ السؤال المطروح على مر العصور والذي يناقش النشأة الدينية لازال قائماً إلى الآن، وما يزيد هذا التساؤل الجوهري هو ارتباطه بنهوض آخر يتزامن مع تفشي الظاهرة الدينية، وهذا ما ناقشه الباحث التونسي محمد حداد في مقالته: الدين والقومية وثقافة التفاهم، تأملات تاريخية. فالمحور الأساسي يستند على السؤال التالي: ما هو السبب الذي دفع الإنسان إلى إنشاء المدن، وممارسة الأعمال المادية المصاحبة لبقائه، أهو الدين؟ أم الذي حدث هو العكس تماما؟
في سبعينيات القرن العشرين أصدر المؤرخ جاك كوفن كتابا بعنوان: نشأة الآلهة، نشأة الزراعة. وافترض فيه أنَّ الدين هو الذي دفع البشر إلى إنشاء المدن وهو ما حقق نشأة الثورة النيوليتية، ولكن مع بقاء السؤال مطروحًا، بقيت التفسيرات المناقضة لجاك كوفن حاضرة. فما قاله الألماني كلاوس شميدت يناقض تماماً ما جاء به كوفن في كتابه؛ إذ يقول: "حاجة الإنسان إلى الإيمان الديني هي التي دفعت الإنسانية إلى الثورة النيوليتية وليس العكس"، ويستدل بذلك على الحفريات التي تكشفت عن أقدم المعابد على الحدود السورية التركية بمنطقة تدعى بغوبكلي.
انطلاقًا من مجمل هذه التصورات والمعتقدات نجد أنَّ الدين هو حركة التيسير الاجتماعي للإنسانية، على أسس روحانية واجتماعية، ولكن لابد من توافر الروحانية بشكل أكبر من خلال انتشار الدين وتثبيته على المجتمع ككل.
إن العلاقة الجدلية قامت على عاملين أساسين وهما تطور التمثلات الدينية وتطور الاجتماع الإنساني، فمن المراحل الأولى نرى أن المدن تطورت من الناحية الدينية مع الالتزام بالمُحافظة على الاجتماع الإنساني، فمثلاً في الديانات المصرية القديمة نرى أنَّ الإنسان كون تجمعات مائية حول الأنهار وبذلك جابه بقوة قسوة الطبيعة ولكن في الجانب الآخر من هذه الحياة الأولية نرى أنَّ تشييده للمعابد قد تطلب الجهد والإتقان، على عكس البيوت الطينية التي بناها الإنسان لنفسه فقد شيد المعابد من خامات قد تعد نادرة وثمينة في تلك العصور.
وبالانتقال إلى عصر الأنوار نجد أن ظهور المدارس الفكرية في فرنسا وألمانيا قد أعادتا صياغة مفهوم تواجد الدين في المجتمع والحاجة إليه، فالأولى تنص على أن النظر إلى الماضي متأثر بحاضرهم هم؛ أي وضع التجربة القومية الفرنسية التي تطورت منذ عصر الملك لويس الرابع عشر، وكان من أبرز سماتها: قيام علاقة عضوية بين المؤسسة الملكية (الدولة) والمؤسسة الدينية (الكنيسة)، فبدا لهؤلاء المفكرين الذين لم تتوافر لهم المعطيات التاريخية والأركيولوجية المتوفرة اليوم -فضلاً عن خلفيتهم النضالية ضد الاستبداد الديني لعصرهم- أن الماضي كان صورة لحاضرهم؛ أي أنَّ الدين قد قام بوظيفة تهيئة الأذهان للخضوع للأمر القائم في أبعاده السياسية والاجتماعية والثقافية. وقد تجذرت هذه الأطروحة في القرن الموالي -القرن التاسع عشر- مع فيورباخ وماركس (وهما ألمانيان) وجسدتها المقولة المشهورة: "الدين أفيون الشعوب"، وهذا وجه من المسألة لا يستوعبها كلها، فإذا ما حصل أن وظف الدين لتبرير الأوضاع القائمة -خاصة في العصور القديمة التي لا تتوافر فيها وسائل إعلام ولا تعليم عمومي- فذلك لا يعني أنَّ هذه الوظيفة الاجتماعية هي الوحيدة التي اضطلعت بها الأديان في كل مكان وزمان.
أما الوجه الآخر الألماني، ومثال عليه الفيلسوف ليسنغ، ينص على أنَّ الإنسان لم ينجح في الخروج من حالة التوحش ويدخل مرحلة التمدن إلا بفضل ما اضطلعت به الأديان من مهام تهذيب الجنس البشري على مدى تاريخه الطويل. ومع أن الأديان لم تكن الوحيدة في الاضطلاع بهذه المهمة فقد تعاضد حولها الفن والفلسفة والفكر والأدب، فإنَّ دور الأديان كان أساسيًا خاصة في مرحلة معينة من تاريخ البشرية؛ أي المرحلة السابقة لانبثاق العقل ليواصل مهمة إرشاد التمدن البشري. وعلى هذا الأساس فإنَّ تدخل الأديان في الاجتماع الإنساني لم ينظر إليه أصحاب الطرح الثاني من نظرة قومية ضيقة؛ بل هم غلبوا نظرة كونيه اعتبرته أمرًا محمودًا. وينبغي أن نؤكد مجددًا أننا نتحدث عن تفسيرين طرحا في إطار الفلسفة نفسه أي فلسفة الأنوار، في علاقة بقضية التفاهم الإنساني ودور الأديان فيه، ولكن أيضًا في إطار مناخ سياسي مختلف من جهة علاقته بالفكرة القومية، فالألمان لا يمثلون في ذلك العصر وحدة قومية بل كانوا منقسمين سياسياً إلى عدة إمارات ومنقسمين دينياً إلى كنيستين الكاثوليكية والبروتستانتية، فربما كان الانفتاح والتفاهم في روح التفسير الألماني في القرن الثامن عشر نتيجة ضعف الضغط القومي على مفكريه آنذاك.
ولكن ما يرجح الكفة الأولى(الفرنسية) على الثانية (الألمانية) هو الشهرة التي وصل لها الاعتقاد الفرنسي الذي ارتبط ارتباطاً وثيقا بالنموذج السياسي القومي الذي انعرجت نحوه فرنسا وأبهر العالم بعد الثورة الفرنسية 1789.
هكذا تجددت أوروبا بصفة جذرية تماماً، وأعادت رسم حدودها وتأسيس أنظمتها، بدون أي تكلفة مُربكة ومنهكة كالحروب الثورية، والتي قد تعرقل التطور التقني والعلمي لديها، وبهذه المحافظة والحرص بهرت أوروبا العالم، ليس فقط في المجال العلمي والتقني بل في الميادين السياسية والاجتماعية أيضًا.
وقد أغرى هذا النموذج الكوني الأوروبي العديد من الشعوب غير الأوروبية، منها الشعوب العربية التي ناضلت ولا زالت تناضل من أجل خلق النظام الكوني من الأساس لينتشر محدثا نماذج كونية عربية متقدمة، وهذا ما يعيدنا للتساؤل المطروح: هل تمدن العرب قبل التدين أم تدينوا قبل التمدن؟.
