مقدمة في السلوك تاريخ العلم في مُحفزات الحيوان وكيفية فهمه

Picture1.png

بوريس جوكوف

فيكتوريا زاريتوفسكايا*

لطالما سعى الإنسان، وعلى مدار تاريخه، إلى فهم الكائنات الحية التي تساكنه المعمورة واستنباط الطرق المؤدية لتحقيق هدفه. ولكن، طالما أنّ الكائنات المستهدفة غير قادرة على النطق والتعريف بماهيتها بلغة العقل، فإنّ الأبواب جميعها ظلت موصدة لفهمها وإدراك عالمها إلا بابا واحدا بقي الأمل معلقا عليه ألا وهو باب السلوك. فمن خلال السلوك جرت، وما زالت تجري، مباحث العلماء لاستكناه طبائع الحيوان ورصد تصرفاته وكسر مغاليق عالمه الكبير.

 يرسم الكاتب الروسي في مجال الصحافة العلمية بوريس جوكوف خارطة للطريق التي اجتازتها البشرية في محاولاتها لفهم الظاهرة الحيوانية. وباتباعه المنطق التاريخي، بدءا من أساطير القرون الوسطى حول الحيوانات، يتأمل الكاتب الروسي في مختلف المناهج النظرية في دراسة سلوك الكائنات والعلاقات المعقدة التي احتوتها هذه المناهج، وعلاقتها بالتخصصات والعلوم ذات الصلة؛ كعلم وظائف الأعضاء وعلم النفس ونظرية التطور... إلخ، وذلك مع ربط الأفكار حول السلوك الحيواني بالمواقف العلمية الأساسية لكل عصر في التاريخ الإنساني.

 قد نعتقد من الوهلة الأولى أننا حيال عمل كلاسيكي في تاريخ العلم، بيد أنّ المؤلف يدلنا، ومنذ الصفحة الأولى، إلى أسلوبه الشعبي المبسّط والممهد لقطاعات واسعة من القرّاء، كما يستعير نبرة الروايات البوليسية في تقصيه للحقائق وحل شيفرات المسائل الملغزة، الأمر الذي أضفى على الكتاب عامل التشويق، أو رفع عنه – على أقل تقدير - الوعورة التي كثيرا ما تقترن بالبحوث العلمية التخصصية، وبهذا الأسلوب تمكن الكاتب من تقريب موضوعه إلى القارئ غير المختص، وفي الوقت نفسه لم يفرّط بالقرّاء من أصحاب الدراية بالموضوع. وهذه ميزة في التأليف تنبع من المزاوجة المثمرة بين مهنة الصحافة وبين الحقول العلمية. ففي حين يستغرق الباحث العلمي المتخصص في موضوع دراسته ويتلمّسه بطريقة مباشرة وعمودية، يتحرك الصحفي بحرية أكبر وينظر من زوايا مختلفة، ما يسمح له رسم صورة أوسع للموضوع ورصد مسار تطوره التاريخي وعلاقته بالمجالات المعرفية الأخرى.

 ومن النافل القول إنّ طبيعة الموضوع العلمي تلعب دورا محوريا في منح الكتاب جواز عبور إلى أيدي القرّاء؛ من هذا المنطلق فإن دراسة ترتكز على السلوك عند الحيوان، مستحقة ومغرية للمطالعة، تماما مثلما هو مغر زيارة حديقة للحيوان، ليس لمشاهدة الحيوانات من خلف الأسيجة وإنما لمعايشتها ومراودة عالمها الغامض.

يرتكز موضوع الكتاب على إخضاع مختلف التيارات السائدة في تطور العلوم السلوكية، إخضاعها لدراسة واحدة وجدل مساقاتها في ضفيرة بعينها. نجد – على سبيل المثال – تجاورا بين مدارس علمية مختلفة كالمدرسة السلوكية الأمريكية ذات المنزع النفسي والمدرسة الإثولوجية (إيثولوجيا: علم سلوك الحيوان) الكلاسيكية بقيادة العالم النمساوي كونراد لورنتس والهولندي نيكولاس تينبرغن، ونظرية العالم الروسي إيفان بافلوف ودراسته الفسيولوجية للسلوك وردود الفعل المشروطة وغير المشروطة. ومما تميز به هذا الكتاب أنّ المؤلف قام باستخلاص النتائج التي أراد التوصل إليها من خلال محاورات ونقاشات أجراها بين مختلف التيارات العلمية.

ينطلق مؤلف الكتاب، بوريس جوكوف، من مبدأ أنّ تطور العلم ليس مجرد تراكم للمعرفة وإنّما هو "دراما الأفكار المعقدة"، فالعلم لا يتطور ضمن خط واحد موصول، بل إنّ تطوّره، وفي كثير من الأحيان، يحدث ضمن اتجاهات متناقضة، وذلك حينما تناقض الاستنتاجاتُ النهائية المسلماتِ الأصلية، وحينما تغدو الاكتشافاتُ الفذة، تربةً خِصبة لأخطاء لاحقة. وجلي في هذا الكتاب قيام المؤلف بعرض آراء العلماء في مسألة سلوك الحيوان، ليقوم بعدها باستخلاص أوجه اختلاف متعددة لهذه المسألة العلمية الواحدة. علاوة على ذلك، وبسبب اختلاف المصطلحات بين مدسة وأخرى، بدى من المستحيل الإعراب عن أجهزة للمفاهيم تكون جامعة لهذا العلم وواضعة لقاموس عالمي خاص به. وفي هذا الصدد ينحت الكاتب مثالا دالا على الاختلاف في علم السلوك الحيواني بقوله: عندما يرى عالم من المدرسة السلوكية الأمريكية سيارة تمر من أمامه فإن السؤال الذي يتبادر إلى ذهنه يتعلق بكيفية توجيه السيارة وتغيير مسارها عند الضرورة (الوازع تقني هنا)، ومن جانبه يرى الإيثولوجي السيارة نفسها فيتساءل: من أين جاءت السيارة وإلى أين تذهب ولماذا؟ (الوازع نفسي هنا).

 من المناسب هنا سرد الحكاية الشهيرة عن العميان اللذين وقفوا أمام فيل وشرعوا يتلمسون أعضاءه. فمن وقعت يده على جذع الفيل حسبه كائنا طويل القامة مفتول العضل. ومن أمسك بأذن الفيل ظنه رقيقا وهشا. أمّا الذي امتدت يده إلى القدم فاعتبر أنّ الفيل حيوان على هيئة عمود. ثمة تشابه عجيب بين أبطال هذه الحكاية وأنصار المناهج العلمية المذكورة. السلوكيون ركزوا على مسألة "الحافز والاستجابة" لدى الحيوان، وتجاربهم المختبرية في هذا السياق تلتزم الصرامة المجردة. ونتيجة لذلك يخرج عن مدار اهتمام هذا الرهط من العلماء، السلوكيات الفطرية للحيوان. إنهم – مثلا – لا ينظرون البتة إلى غريزة اللعب العابث عند الحيوان. من جهة أخرى نرى تجارب العالم الروسي بافلوف أشد صرامة من زملائه من السلوكيين الأمريكان، ففي نهجه يُستبعد من الدراسة أي سلوك عفوي يصدر عن الحيوان. أما نهج السلوكية الكلاسيكية فنجده محشورا في الزاوية حين يتعلق الأمر بالعمليات الإدراكية عند الحيوان. توجد أيضا النظريات الحديثة مثل السيسيوبيولوجيا والسلوكية المعرفية التي تستكشف السلوك والنشاط العصبي العالي لدى الحيوان.

 يستنتج الكاتب أنّ علم السلوك قد انتظم تاريخيا على شكل حلقات منفصلة ولم يقيض له إتمام العملية التراكمية التي تحتاجها العلوم لترسيخ أفكارها وإثبات نتائجها. يقول في هذا الصدد: "مع البيولوجي الإنجليزي جورج رومانز حاولنا أن نحكم على العالم الداخلي للحيوان وذلك قياسًا لدوافع السلوك عند الإنسان فخاب ظننا وتأكدنا أنّ هذا الأسلوب غير قابل للتطبيق. فذهبنا إلى الأمريكي جيمس واتسون الذي يتجاهل العالم الداخلي للحيوان ويستمر في دراساته بمعزل عنه، فيأتي لنا عالم النفس الأمريكي إدوارد سي تولمان ليؤكد استحالة العمل بهذا المنهج" (ص 168) ومع ذلك لا يكف المؤلف عن التفاؤل في مستقبل مشرق لعلوم السلوك.

لم يقتصر المؤلف على سرد تفاصيل من تاريخ علم السلوك ومناقشة الصعوبات التي واجهتها البحوث العلمية في هذا المجال، فأضاف أبعادًا أخرى لكتابه ساهمت في تعميق اشتغاله وتوسيع رؤيته وصوغها بصيغة إنسانية. ثمة مساحة في الكتاب للقضايا العلمية الأساسية وأهمها شرح ماهية السلوك بإطاره العام. ويعرّف الكاتب مصطلح السلوك بقوله: "من أجل الإشارة إلى سلسلة من الحركات أو المواقف بوصفها سلوكا، يجب أن نرى في ذلك معنى معينا" (ص 14).

يميّز جوكوف بين العلوم الإنسانية والطبيعية، متوقفا عند عامل خطير لا يمكن التنبؤ به ألا وهو مستوى الذاتية والموضوعية في دراسة السلوك. يقول: "الحقيقة إنّ العلاقة بين الباحث والموضوع فيما يتعلق بالعلوم الإنسانية تتسم بالثنائية وهي سمة غير موجودة في العلوم الطبيعية (...) في الدراسة التاريخية - مثلا - يعمل عاملان اثنان بأقل تقدير: المؤرخ "المُحدث" الذي يقوم بدراسة التاريخ من مصادره والمؤرخ "الأثر" الذي هو الواضعُ لتلك المصادر. وبكلمة أخرى فالمؤرخ الأثر (السابق) هو موضوع وذات في الوقت نفسه، وعلى المؤرخ المحدث (اللاحق) أن يعتمد في دراسته، بما فيها من أحداث وشخصيات، على الرؤية التي صاغها القدماء". (ص 162). إذن، وإن كان حال الدراسات الإنسانية بهذا القدر من التعقيد فكيف هو الحال في دراسة الحيوان!. فلننظر إلى الطبيب النفسي وهو يتعامل مع مريضه الذي يعاني من خلل عقلي ونفسي، فبرغم الغموض الذي ينتاب عمله والوسائل التي يلجأ إليها مثل التنويم المغناطيسي وقراءة الأحلام، بالرغم من كل ذلك إلا أنّ عمله هذا، وفي نهاية المطاف، يتمخض عن كلمات يستطيع أن يقيم منها دراسته ويستنبط نتائجه. أمّا عالم الحيوان والباحث في سلوكيات الحيوان فمحروم من كل ذلك. إنّ موضوعه في الأساس كائن أخرس. وحتى وإن كانت بعض تصرفات الحيوانات تدل على معنى ما، فكيف السبيل إلى التأكد من صحة ذلك المعنى واعتباره سلوكا، إن كانت الكلمة مفقودة بين الذات والموضوع؟!

 يتطرق الكاتب إلى ناحية من الظروف التي عاشها علماء السلوك الحيواني، ويتتبع علاقة بعضهم ببعض، وهي علاقة اتسمت بطيب المعشر، وصدق المشاعر، والتعاون الكبير لحل المسائل العلمية، والتضحية بنظرياتهم الخاصة لصالح التوصل إلى نتيجة مشتركة. وأشار مؤلف الكتاب إلى الظروف المأساوية التي عاشها رهط من علماء الحيوان إبّان الحرب العلمية الثانية، وانقطاع التعاون العلمي بين أوروبا وأمريكا. فها هو الباحث الألماني كونراد لورنتس يقع ضحية الأسر لدى الجيش الأحمر ويقضي سنوات في السجون الروسية وفي أرمينيا، أظهر خلالها قدرة مذهلة على تسخير الظروف لتطوير قدراته المعرفية والعلمية وذلك حتى تم الإفراج عنه عام 1948. ومأساة العالم الهولندي نيكولاس تينبرغن الذي أرسله النازيون إلى معسكر الاعتقال بسبب احتجاجه ورفضه القاطع لإقالة زملائه اليهود من الجامعة التي كان يعمل بها.

 يكرس الكاتب الفصل المعنون "خلف الستار الحديدي" لدراما العلماء الروس والسوفيت المعنيين بدراسة سلوك الحيوانات، فبسبب الظروف المرحلية التي عاشوها كانوا يشتغلون في عزلة تامة، ووقفت الإجراءات الصارمة في مراقبة الاتصال الخارجي حائلا دون تواصلهم مع زملائهم من العلماء الغربيين. وبعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، وتأمل العلماء خيرًا من ذلك، اندلعت الحرب الباردة واشتد في الاتحاد السوفيتي وطيس الإيديولوجية الموجهة ضد كل شيء غربي. وغير هذا وذاك فقد أصيب العِلمُ السوفيتي في مقتل بإلغاء ورفض علم الوراثة وجميع التخصصات ذات الصلة.

وبالتالي لم يقتصر كتاب جوكوف هذا على سرد تاريخ العلوم السلوكية وما رافقه من نقاشات مثمرة وآراء متنوعة، بل أحاط كذلك بالحياة اليومية للعلماء والباحثين وبمواضيع بحثهم حول الحيوانات والكائنات الحية الأخرى. كما تميّز الكتاب بلغته الهادئة والودية تجاه الشخصيات التي تناولها، بمن فيها الشخصيات التي ينتقد الكاتبُ وجهات نظرهم وطرق مقارباتهم العلمية. وبدوره، فعلى قارئ الكتاب أن يتحلّى بالحكمة والانتصار للموضوعية بدون أي تطرف أو مغالاة في إبداء الرأي.

أخيرًا، وفي واحدة من مقابلاته، تحدث الكاتب عن الانتشار المتوقع لكتابه وما سينتظره من حفاوة عند القراء: "حينما نتحدث عن أدب الخيال العلمي في الاتحاد السوفيتي نجد أنّ المجلات العلمية كانت تبيع فوق المليون نسخة، وبالنسبة لمجلة "العلم والحياة" فكانت توزع ثلاثة ملايين نسخة (...) كان الناس يقرأون عن العلوم لأنّه لم يكن مسموحًا الخوض في مسألة المعجزات. ثم انهارت هذه المحظورات دفعة واحدة فأصبح الناس يحبذون القراءة عن الظواهر والمعجزات غير العلمية (...) لدي انطباع أنّه، وعلى مدى السنوات الثلاثين الماضية، أصبح المجتمع متشبعا من "الفاست فوود" العلمي ويشعر برغبة في شيء أكثر تغذية. ولا أعرف حقيقة، لو أنني كتبت هذا الكتاب قبل عشر سنوات، هل كنت سأجد ناشرا يهتم به؟".

---------------------------------------------------------------------------------------------------------

الكتاب: مقدمة في السلوك... تاريخ العلم في محفزات الحيوان وكيفية فهمه

المؤلف: بوريس جوكوف

الناشر: (أيه أس تي) موسكو 2016

اللغة: الروسية

عدد الصفحات: 400 صفحة

 

*أكاديمية ومستعربة روسية

 

أخبار ذات صلة