لمناحيم قلنر فوزي البدوي
أستاذ الدراسات اليهودية بالجامعة التونسية
هذا كتاب يجدّف عكس التيار، ومن هنا أهميته؛ فقد شاع عن اليهودية أنّها تكرس هيمنة اليهودي على غيره من الأغيار، ودأبت اليهودية التقليدية أو الربانية حتى عصرنا الحاضر في أشكالها الحريدية والقومية المغالية على تأكيد هذه الفكرة حتى أنّ الرّبي يتسحاق بن زئيف أحد محرري مجلة "عولام هحاسيدوت" لسان حال بعض اليهود المتزمتين في إسرائيل كتب في العدد 160 من المجلة مقالا تحريضيا وعنصريا عنوانه "العرب كل نواياهم سيئة" ومما أورده فيه أنّ العرب هم أمّة منحطة وهم أكثر الشعوب التي تعرف الضغينة، وأن كل نواياهم سيئة وماكرون ووحوش يشبهون الحمار ويتلذذون على القتل، وأسرف فيه في بيان علوية اليهود واليهودية على المسلمين والإسلام. ونفس هذه الأفكار مما نجده مبثوثا في كتابات زعيم حركة كاخ مائير كاهانا وخصوصا في خطابه الشهير واليتيم في الكنيست الإسرائيلي 1988مما يضل مرجعا في العنصرية البغيضة.
غير أنّ أهميّة هذه الآراء الشائعة بين قسم كبير من اليهود المتدينين والغلاة إنمّا تنبع أهميتها من أنّ أصحابها كثيرا ما يعتمدون على آراء كبار متفقهة اليهود في القرون الوسطى من الغاؤنيم أساسًا وعلى رأسهم الربي موسى بن ميمون القرطبي صاحب "المشنه توراة " و" دلالة الحائرين" وهو من أطلق عليه اليهود لقب نسر الكنيس وقالت فيه "أنّه من موسى النبي إلى موسى بن ميمون لم يظهر مثل موسى بن ميمون فضاهته بنبيها لجلالة قدره وعلمه.
ومزية هذا الكتاب الذي أصدره د. مناحيم قلنر عن جامعة بار ايلان هي أنّه يبين الوجه الآخر للربّى موسى بن ميمون الذي تتجاهله اليهودية التقليدية ومن ورائها اليوم هذه اليهودية العنصرية التي نجددها مبثوثة في كثير مما يكتب في هذه الأوساط، وقد وسم كتابه بعنوان مثير وهو "هم أيضا بشر" "هانوخري" في عين الرمبام والنوخري في اللغة العبرية هو عموما غير اليهودي، ويطلق مجازا في معانٍ أخرى متعددة. وتتوفر العبرية في الحقيقة على عبارات كثيرة يمكن استثمارها في دراسة إشكالية الغيرية والآخر في اليهودية سواء من الوجهة الفلسفية أو الفقهية أو الأدبية من مثل عبارات "غر توشاف" أو الغرباء المقيمين في "أرض إسرائيل " كما يزعمون أو عبارة هاغوئيم أو الأغيار أو عبارة "حسيدي إموت هاعولام" أي "أتقياء أمم العالم" وغير ذلك من المفاهيم التي تعرض لها مناحيم قلنر بتوسع أو عرضا في عمله هذا. والحقيقة أنّ اختيار الرمبام لعرض إشكالية المخالف في الملة هو اختيار موفق فالرمبام ظل في الوعي اليهودي متمتعا بصورة مزدوجة فهو أولا صاحب دلالة الحائرين ذي المنحى الفلسفي والكلامي وفيه نجد نزوعا أحيانا إلى الكونية وقيمها، وهو أيضا صاحب المشنة توراه عمدة الفقه اليهودي والذي يحتوي على آرائه الفقهية التي تمد الأوساط المحافظة بل والمتطرفة اليوم بمخزون كبير من الآراء والأحكام التي تبرر سلوكها ونظرتها الدونية لغير اليهود، بل أمدت بعض الأوساط بما به تمت تصفية الخصوم جسديا حتى داخل اليهودية نفسها مثلما هو شأن الأوساط التي حرضت على اغتيال رابين اعتمادا على أحكام دين رودف أو دين موسر ووجدت في إيغال عمير الأداة التنفيذية لذلك.
ولدراسة هذا الموضوع الشائك قسم المؤلف كتابه إلى مقدمة درس فيها السرديات المتصلة بشعب إسرائيل مع التركيز على المنظور الرباني؛ أي منظور ما يمكن أن نطلق عليه جمهور اليهود على ما اعتادت أن تسميه مصادرنا الإسلامية ثمّ خصص ثمانية فصول درس في الأول منها ما أسماه بالكونية عند ابن ميمون وتوسع فيه في قضايا الكونية والخصوصية وحلل بعضا من نصوص المشنا وخصوصا فقرات من مبحث السنهدرين ومبحث عبوداه زاراه (العبادة الغريبة) في موضعين ثم نظر في شروح ابن ميمون والماهاراشا أي الربي شموئيل ايدلس. أما في القسم الثاني فاهتم بمسألة تأصيل الأصول من مثل قضية الإيمان في التوراة وفي فكر الحاخامات والقرون الوسطى والفكر الفلسفي اليهودي الوسيط، وتمت دراسة مسألة الخلق على صورة الإله. وفي القسم الثالث الموسوم بأسس العلم، تمت دراسة الحكمة في التشريع في التوراة أولا ثمّ من خلال مقدمة دلالة الحائرين وشرح المشنا ثمّ أحكام التوبة في التوراة والمشنا والصلات بين الهلاخا والنبوة، ثم درس في الأبواب الموالية مسائل تتعلق بالوجود السابق على الخلق والماشيح الآتي وفيه درس الأصول الثلاثة عشر وأحكام التوبة، وتوسع في دراسة دلالة الحائرين ورسالة ابن ميمون إلى يهود اليمن، ورسالته في البعث بعد الموت، ثم انتقل إلى حديث مفصل حول إشكالية الكونية في فكر الرّبي موسى بن ميمون والإجابة عن سؤال هل كان ابن ميمون كونيا؟ وختم الكتاب بالحديث عن مشروعية عمله والآمال التي يعلقها على الكتاب مع تركيز خاص على الرّبي يهودا هاليفي الاندلسي المعروف عند العرب بأبي الحسن اللاوي وكذلك على ابن ميمون وأتباعهما من بعهدها.
هذا الكتاب إذن هو محاولة فريدة فيما نعلم من أستاذ الدراسات الفلسفية اليهودية في جامعة بار ايلان تحاول القطع مع الرأي السائد ومثلما أشار عن حق بعض الباحثين فإنّه عمل جدالي بالأساس ضد النزعات العنصرية المنتشرة في العالم اليهودي اليوم؛ ولذلك قصد أن يكتب هذه المرة باللغة العبرية وهو الذي اعتاد الكتابة باللغة الإنجليزية في محاولة منه للوقوف في وجه التوجه المزعج داخل الأوساط الأرثودوكسية الإسرائيلية حينما ترى في غير اليهودي فلسطينيا أو عربيا أو مغايرًا لها في الملة على أنّه منحط الدرجة والقيمة محاولا الكتابة فيما يشبه البحر من ورائكم والعدو من أمامكم: أي بين أقوال الحاخامات المتعصبين وبين ما تناثر من أقوال الرّبي موسى بن ميمون في كتاباته الفلسفية والكلامية خصوصا تلك التي تكشف حسب نظره عن نزعة كونية لا يمكنها أن تتوافق مع النظرة الأرثوذكسية المقيتة، وبالرغم من أنه لا يمس في العمق من فكر الرمبام اليهودي إلا أنه كتاب لا شك سيدخل بعض الضيق على أوساط المتدينين في جامعاتهم الدينية وفي مدارس اليشيفا التلمودية.
وقد تخيّر د. مناحيم قلنر في بداية كتابه بعض الشواهد النصيّة المعتمدة من الأدب الرّباني التي تغذي هذه النزعة الاستعلائية مشيرا إلى أحد الكتب التي حققت رواجا في هذا الصدد وهو كتاب "توراة هاميلخ " תורת המלך أو توراة الملك للحاخام المتطرف دوف ليئور דב ליאור من مستوطنة كريات أربع المقامة تقوم على أراضي مدينة الخليل الفلسطينية والتي تخرج منها المتطرف باروخ جولدشتاين الذي قتل المصلين فجرا في مجزرة الحرم الإبراهيمي؛ التي استشهد فيها 29 مصلياً وجرح 150 آخرين في 25 فبراير 1994 وبالرغم من وقوف الحاخامية في وجه هذا الكتاب ممثلة في تصريحات الرّبي عوفاديا يوسف فإنّ لهذا الكتاب تأثيرا كبيرا في أوساط عموم المتدينين الراديكاليين من اليهود.
كما استشهد بأقوال أحد الحاخامات المعاصرين الأرثوذكس المتعصبين شلومو افينر שלמה אבינר من ذوي الأصول الفرنسية الذي كتب قائلا "نحن اليهود لسنا شعبا مختارا بسبب أننا تلقينا التوراة بل تلقينا التوراة لأننا شعب مختار אנו עם סגולה לא בגלל שקבלנו את התורה, אלא קבלנו את התורה מפני שאנו עם סגולה فالتوراة تتوافق وطبيعتنا الخاصة ولأمتنا وشعبنا طبيعة خاصة متميزة تخالف كل الأمم الأخرى في شخصيتها وروحها، وإذا كان البعض يصمنا لهذا السبب بالعنصرية فإن العنصرية إذا كان معناها هذه الخصوصية والعلو على كل الأمم الأخرى فنحن فعلا عنصريون. إننا نعلو كل الأمم الأخرى لا بسبب الجنس أو اللون بل بطبيعة الروح التي نحملها والتوراة ليست إلا هذا التعبير عن مضموننا الداخلي ومحتواه. لقد تلقينا التوراة بسبب من قدرتنا الروحية على التقبل، وروح غير اليهود مختلفة عن روحنا كليا، ولا تكسوها هذه القداسة التي لنا ".
وقبل الغوص في نصوص ابن ميمون يستشهد. د. مناحيم قلنر بأكثر من حاخام من الحاخامات الآخرين من الولايات المتحدة وغيرها ممن يعتبر من رؤوس المثايب (روش يشيفا) كما تسميهم النصوص العربية القديمة تضاد هذه الأقوال وترفض ما جاء في كتاب" توراه هاميلخ "وتؤكد على أنّ الإنسان خلق على صورة الله כִּי בְּצֶלֶם אֱלֹהִים עָשָׂה אֶת הָאָדם مثلما جاء في سفر التكوين وغيره من المواضع.
غير أنّ أكبر أهمية لعمل د. مناحيم قلنر هو أنه يقوم بعملية تحليل متينة لنصوص الرمبام التي تدين مثل هذه المواقف فهو القائل إنّ كل مؤمن بالله الواحد هو بالضرورة تبع لأبينا إبراهيم وكل من ترقى في درجات الكمال الأخلاقي استحق أن يكون على صورة الله حتى وإن لم يكن يهوديا. ويتحدث في موضع آخر نقلا عن ابن ميمون أن غير اليهودي من الفلاسفة مثلا؛ وهو الذي ترقى في مراتب الكمال هو أعلى درجة من طالب العلم اليهودي "تلميد حاخام" الجاهل بحقوق الله، ويزيد توسعا من خلال النظر في كتابه الموسوم بفصول الآباء "برقي أبوت" أنّ على المرء أن يأخذ الحكمة من أي مصدر جاء؛ سواء من اليهود أو من غيرهم وهو ما يذكرنا بالحديث المروي عن النبي (صلى الله عليه وسلم): الحكمة ضالة المؤمن أنّى وجدها أخذها..
وفي مقدمة كتابه للمشنة توراة المعروف كناية "بيد حازاقة "أو اليد القوية يشير إلى أنّ الحكمة لا تؤخذ من أفواه الأنبياء أنبياء بني إسرائيل فقط بل أيضا من أفواه الحكماء من غير اليهود أيضا، وكذلك يكرر ابن ميمون الشواهد من النصوص اليهودية المعتبرة من مثل فصول "أحكام الشميطاه واليوبيل" من التثنية على التوراة من أنّ كل إنسان بإمكانه أن يصل إلى مرتبة القداسة الكبرى على عكس ما ذهب إليه الكثير من علماء اليهود في تفسيرهم لعبارة כל באי העולם الواردة في القسم الثالث عشر من الأحكام المذكورة
ولعل القسم الأكبر الذي توسع فيه ابن ميمون في دراسة أحكام غير اليهود واستحقت من د. مناحيم قلنر اهتمامًا كبيرا هو ذلك القسم الموسوم بالوثنية وأحكام الأغيار، وقد اجتهد الباحث في محاولة اقتناص كل الإشارات والملاحظات والفقرات التي تنتصر إلى سياسة الكتابة عنده وهو بيان النزعة الكونية عند ابن ميمون والمتعارضة كليا حسب رأيه مع ما تحاول الأوساط الأرثوذكسية إلصاقه بابن ميمون، وتتواتر الاستشهادات، وتحليل الفقرات في نفس الاتجاه من النصوص التلمودية والمدراشية، التي يعتمدها وذلك طوال صفحات الكتاب.
غير أنّ أطرف ما في الاحتجاج الذي يعتمده نقلا عن ابن ميمون هو أنه وإن أقرّ بأنّ اليهود هم من تحمل الأمانة وتلقي الأحكام ليعملوا بها بغية الترقي في درجات الكمال الأخلاقي إلا أنه لا مانع يمنع غير اليهود من الانخراط في هذا المنحى، ولا شيء يمنعهم من التهوّد والدخول في الشعب اليهودي؛ وهذا في الحقيقة من المواقف المهمة التي تكشف كما يرى المؤلف أنّ اليهودية بالرغم مما شاع من أنّها ديانة قومية عرقيّة إلا أنّها بهذا المعنى ديانة تتجاوز العرق والقومية وتأخذ طابعا كونيا بالرغم من بقائها السبيل للخلاص فيما يبدو، وهو ما لا يقوله ابن ميمون صراحة؛ ولا شك أنّ هذا الموقف يعتبر متقدما جدا مقارنة بما نجده عند كبار اللاهوتيين والحاخامات اليهود المعاصرين من أمثال الرّبي يتسحاق كوك في كتابه "الأنوار" الشهير "أوروت" ولم يفت د. مناحيم قلنر طوال صفحات الكتاب أن يبين العمق التاريخي لهذه الأفكار التي تعزز الشعور بالخصوصية والرفعة والعلو عن بقيّة الشعب ويربطها بالسياقات التاريخية التي ظهرت فيها، ومن هنا توقفه عند كتابات أبي الحسن اللاوي صاحب الرد والدليل في نصرة الدين الذليل.
وأخيرًا ينتهي المؤلف إلى التأكيد على ما يسميه "التواضع اللاهوتي" المؤدي إلى قبول الآخر الذي يمكن لليهود أن يتعلموا منه، مشددا على أهمية الكونية في مقاومة كل دعوات الخصوصية المنغلقة على نفسها، والتي لا يمكن أن تؤدي إلا إلى العنف والغطرسة والعنصرية ويعتبر أنّ ابن ميمون هو من بعض الوجوه أكثر حداثة من بعض علماء اليهودية وأحبارها المعاصرين؛ وهو الذي عاش بين العرب والمسلمين وانغرس في هذه التربة الشرق أوسطية.
وفي الختام يمكن القول إن هذا الكتاب هو كتاب كتبه يهودي ليهود من أمثاله بالأساس، وهو موجه لمعالجة قضية تقلق بعض الأوساط الأكاديمية والنخب الإسرائيلية التي تخشى من تفشي الأفكار المتشددة والمنغلقة؛ يحركها في ذلك الخوف على مستقبل هذا الكيان، ولكن هذا لا يعنى أنّ القراء العرب لا يستطيعون أن يجدوا فيه ما يحرك سواكنهم، فمن المهم جدا أن يقوم بعض الأكاديميين العرب والمتخصصين في تاريخ العلاقات الإسلاميّة اليهودية بدراسة مقارنة بين هذا التوجه وبين ما عرفناه في تاريخنا من نصوص حول أحكام أهل الذمة والمستأمنين في دار الإسلام من الوجهة التاريخية أولا ومن جهة إعادة التفكير في قضية الآخر في الديانتين والثقافتين من آجل رصد أوجه التشابه والاختلاف.
وبالرغم مما في الكتاب من أوجه الجهد النظري العميق الذي تحركه هواجس فلسفية وكونية وبالرغم من محاولته الفصل بين النزعة الكونية المضمنة في دلالة الحائرين والنزعة الخصوصية الكامنة أحيانا في نصوص الفقه اليهودي كما ظهرت في "المشنه توراة" فإنّ هذا الكتاب لا يقنع كثيرًا في الحقيقة بوجاهة سياسة الكتابة والقول فالباحث د. قلنر لا يزال أسير البحث في النصوص القديمة عن لحظات ضوء وحداثة مصنعة فابن ميمون عالم وسيط وكتب في سياقات وسيطة وضمن إشكاليات طرحتها اليهودية في حقبتها الوسيطة، ولم يكن مشغولا انشغال المؤلف بقضايا الكونية والخصوصية، وكان الأجدر في نظري لو حاول تأسيس هذه القضايا خارج الفكر الديني اليهودي الوسيط والحديث؛ فهي عملية عقيمة في نظري. واليهودية كغيرها تحتاج إلى مقاربة راديكالية بالمعنى الفلسفي للكلمة؛ للخروج من إسار العقلية الوسيطة ومن غير المقنع أن نتخير فقرات ونصوص من ابن ميمون لنجعله درعا واقيًا ضد الأصولية اليهودية ذلك أنّ في نصوصه مئات النصوص الأخرى التي تقف في وجه هذا النوع من الاحتجاج ولا شك أنّ مقتل رابين نفسه بفتوى دين رودف غير دليل على ذلك فما بالك بغير اليهود.
---------------------------------------------------------------------------------------------------
الكتاب: هم أيضا بشر: غير اليهود في فكر الرامبام (الرّبي موسى بن ميمون) גם הם קרויים אדם: הנכרי בעיני הרמב״ם
تأليف د. مناحيم قلنر
دار النشر: جامعة بار إيلان
سنة النشر فبراير 2016 عدد الصفحات 260
لغة النشر: اللغة العبرية
