أسلمة بولندا – المرحلة الأولى

Picture1.png

للبولندي ستانيسواف كرايسكي

يوسف شحادة

يقدم الأكاديمي البولندي، المتخصص في الفلسفة المسيحية وعلم اللاهوت الكاثوليكي، ستانيسواف كرايسكي، كتابا جديدا موسوما بـ "أسلمة بولندا – المرحلة الأولى"، بعد نشر سلسلة من الكتب تناولت موضوعات مختلفة، منها: "الاتحاد الأوروبي – بابل الجديدة" (2002)، "الماسونية والأزمة 2009" (2009)، و"الماسونية البولندية 2012" (2012)، و"بولندا والماسونية. عشية الانهيار العظيم" (2014)، و"النظام البولندي الجديد" (2015)، و"الماسونية، الإسلام، اللاجئون – هل تنتظرنا نهاية العالم؟" (2016). ومن الواضح أن دراسات كرايسكي تتمحور حول الماسونية، وخطرها على بولندا والكاثوليكية، ومن هذا المنطلق نجده يجهد في تسطير كتابه الذي بين أيدينا ليربط الإسلام – ولو بخيوط واهية – بالماسونية العالمية.

يضع الكاتب في الصفحة الأولى من مؤلفه "شعارا" يتضمن كلمات مقتطفة من حوار السفير السعودي في جمهورية التشيك مع الكاردينال دومينيك دودا. تلك الكلمات بإيحاءاتها الواضحة تلخص الغاية من نشر الكتاب، وتأتي على الشكل التالي: "هل أنتم مستعدون للموت من أجل الحرية والدين؟ - لا - تاريخكم إذن مُنتهٍ". ويضيف إلى ذلك جملة غير مكتملة، مقتبسة من إنجيل متى على لسان السيد المسيح عليه السلام: "... وأبواب الجحيم لن تقوى عليها"، في إشارة إلى أن الكنيسة التي قصدها المسيح في حديثه مع بطرس. نفهم من ذلك أن كرايسكي أراد، من وراء هذين المقتبسين، القول أنّ الكنيسة ستقف أمام الأسلمة المزعومة، وتصمد، ولن تقوى عليها أبواب جهنم.

يشتمل الكتاب على 47 عنوانا تتناول مباحث متفاوتة الحجم، تطول أحيانا، وتقصر أحايين أخر لتكون مجرد إجابات عن أسئلة تتضمنها عناوين مختلفة. يستهلها المؤلف بالحديث عن كتابه السابق ""الماسونية، الإسلام، اللاجئون – هل تنتظرنا نهاية العالم؟" الذي حاول فيه، بطريقة لا تخلو من الغرابة، إثبات صلة المنظمات الإسلامية في أوروبا بالماسونية العالمية مستدلا – كما يزعم – ببعض ما تسرب من وثائق تطرقت إلى هذا الموضوع. ويؤكد أنّ هذا الأمر كان الدافع للتعرف إلى المراكز الإسلامية والمشرفين عليها في بولندا، ومعرفة طرق استقطاب مسيحيي هذا البلد، واستمالتهم إلى الإسلام، ما سمح له بكتابة "أسلمة بولندا". يمثل هذا الكتاب، في جوانب كثيرة من مباحثه، طابعا تخويفيا، وأحيانا تحريضيا، متناغمًا في ذلك مع مجموعة فاعلة من رجال الدين والقوميين المتعصبين، جلهم ممن يرون أنّ الصدام الحضاري قد بدأ فعلا، ولا مجال لحوار الأديان أو الحضارات. 

يستند الكاتب إلى معلومات مبالغ فيها في رسم صورة الخطر الإسلامي على أوروبا، ومن ضمنها بولندا، ويقدم أفكارًا فيها الكثير من المغالاة والتحدي والتخويف. في رأيه أنّ المسيحية مهددة، لكنها لن تتأثر إن أدرك أتباعها الخطر الإسلامي المزعوم، وسارعوا إلى تحصين أنفسهم أمامه. هذه الأفكار تلخص سيلا هائجاً من معلومات مجتزأة من هنا وهناك، يحاول الكاتب تطويعها لخدمة فكرته العامة، فيبدأ بالحديث عمّا يسميه أنواع الإسلام في بولندا. فيكتب عن مختلف الجمعيات والمنظمات الإسلامية التي سبقه في التعريف بها آخرون، منهم القس كريستوف كوشتشيلنياك، على سبيل المثال. وتشد انتباهه التيارات الصوفية التي يرى فيها تشابها كبيرا مع الماسونية، فيربط بعض أجنحتها، بشكل لا يخلو من التعسف، بالمحفل الأسكتلندي، والقبالة (كابالا) اليهودية التي يسميها "الكيميائية". في إحدى فقرات الكتاب يؤكد كرايسكي، بثقة بالغة تثير الريبة، وتدعو للتفكير مليا في مدى صحة منطلقاته النظرية واستنتاجاته، قائلا: "إنّ الكاثوليكية والوطنية هما الخطر الأكبر بالنسبة إلى الماسونيين، أما الإسلام، وخاصة الصفوة منه، أي فئة الصوفية، فهو المبارك عندهم كونه يقرّ العقائد والقيم ذاتها (التي تؤمن بها الماسونية)" (ص 39).

بيد أنّ الأمر الذي يخوض المؤلف غماره، ويوليه عناية فائقة من منطلق ديني، وفكري، وتاريخي، يتمثل في الوهابية بوصفها السلطة الدينية الحاكمة في العربية السعودية. تشكل هذه الحركة، من وجهة نظره، المحرك للتطرّف، والمحرض لغلاة الإسلاميين، من خلال أفكارها العُنفيّة، التي تخلق مناخا مواتيا للغلو، وتربة صالحة للإرهاب. إن كرايسكي، كما التيار الذي يمثل، مقتنع أنّ السعودية هي الممول الأول للروابط والمراكز الإسلامية في معظم البلدان الأوروبية، ومن بينها بولندا. ونراه يسعى جاهدا ليثبت ارتباط مديريها، وكبار الناشطين في صفوفها، تارة بالوهابية، وتارة أخرى بالإخوان المسلمين، فكريا وعقائديا، وبالسعودية مالا وتمويلا. قد يبدو غريبا، على نحو ما، الجمع بين الوهابية والإخوان المسلمين، إذ أنّ العلاقة بين المملكة والإخوان، أقل ما يمكن القول عنها، إنّها ليست على مايرام. بيد أنّ هناك من ينظر إلى أن حركة الإخوان ما هي إلا نتاج الوهابية، ومن هؤلاء كرايسكي الذي توصل إلى نتيجة مفادها أن كل من/ما ارتبط بهاتين الحركتين، وتمثل بأفكارهما، إرهابي. ولإقناع قرائه بصحة استنتاجه هذا، يسطر بالخط العريض جملة مستفزة: "إنّ أسامة بن لادن، وخليفته في القاعدة أيمن الظواهري، كانا تحت تأثير إيديولوجي قوي مصدره الإخوان المسلمون" (ص 23). ووفق هذا المنطق تصبح "الرابطة الإسلامية في بولندا"، التي أنشأت معهد الأبحاث الإسلامية، متهمة بالإرهاب. فهي، على حد قوله، تمجد الخطاب الإخواني من خلال فعالياتها ونشاطاتها، ومنها المؤتمر العالمي الذي عقد في معهدها تحت عنوان "الإخوان المسلمون على طاولة الاتهام". ويدلل كرايسكي على خطر الإخوان من خلال مواقف دول عربية عديدة منهم، فقد وضعتهم مصر، وسورية، والسعودية، والإمارات العربية، والبحرين، في قائمة الحركات الإرهابية. ويورد المؤلف بعض آراء السياسيين الغربيين الذين يدعون إلى محاربة جماعة الإخوان، ومنهم عضو مجلس الشيوخ الأمريكي، تيد كروز (Ted Cruz)، الذي قدم مشروع قرار هدفه الإقرار بأن تلك الجماعة تنظيم إرهابي خارجي. ويقتبس كرايسكي مقتطفات من أقوال كروز، مبديا التأييد الكامل له فيما يخص هذه القضية بكل تفاصيها، حتى وإن خرج الكلام عن طور الموضوعية وجانب الاعتدال: "يجب أن نتوقف عن التظاهر بأن حركة الإخوان المسلمين ليست مسؤولة عن الإرهاب، وهي التي تدعمه وتموله. يجب أن نرى هذه الجماعة على حقيقتها. إنها منظمة دولية مفصلية غايتها إقامة الجهاد الدموي" (ص 25). بعد المسألة الإخوانية يعود المؤلف ليطرح سؤالا عن الوهابية، أهي ظاهرة هامشية في الإسلام؟ ويصل إلى استنتاج حاد النبرة، لا يخفف من حدته اعترافه الضمني بعمق هذه الظاهرة، وتشعب امتداداتها، معلنا عن وجوب القضاء على الوهابية. ونجده يقدم أفكارا استراتيجية لتدمييرها معتمدا آراء الصحفي الأمريكي، صاحب كتاب "الدولة الإسلامية"، بنيامين هول (Benjamin Hall)، ومنها أن الوهابية لا يمكن استئصالها، ولكن يمكن تحطيمها في عملية ثابتة طويلة الأمد.

تشغل قضايا المرأة المسلمة، وحقوقها، موقعا مهما في الكتاب، وعلى عادة منتقدي معاملة المرأة في الإسلام والانتقاص من حقوقها، يستغل كرايسكي بعض التفاسير القرآنية، والأحاديث النبوية، ليبين أن المرأة بمنظور المسلمين أدنى درجة من الرجل. وليضفي نوعا من المصداقية على آرائه الحادة في هذا الشأن، يضع فقرات عديدة من صفحات "الجمعية الإسلامية للتنشئة الثقافية" تظهر أن الشريعة تحترم المرأة وحقوقها، وتكرّمها بمنزلة رفيعة. غير أنّه يواجه هذا الكلام مفندا إياه بتأويلات لبعض الآيات الكريمة، ومنها قوله تعالى: "الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم.." لتصبح في التفسير البولندي أمرا مطلقا يعني: "الرجال أعلى درجة من النساء". هذا الاصطياد في الماء العكر لا يقتصر على ما أُخذ من سور القرآن الكريم، بل يتخطاه إلى انتقاء الأحاديث النبوية المرسلة، واستغلال فتاوي الجهاديين، وخطابات غلاة المتطرفين التي تشوه مبادئ الشريعة السمحة، وتنأى عن قيم التسامح وقبول الآخر. ويحرص كرايسكي على تضخيمها، والإفادة منها بما يخدم رؤيته في ترسيخ الصورة النمطية البشعة للإسلام.

في المبحث المخصص لعلاقة الإسلام بالأديان الأخرى، يتحدث كرايسكي عن منشورات "الجمعية الإسلامية" الحافلة بالدعوة إلى التسامح، ولكنه لا يراها إلا شعارات غير صادقة، رغم لجوئها إلى شواهد التاريخ التي يقتطف منها المؤلف جملا مقنعة في منطقها. ومنها ما يؤكد أن المسلمين، وخاصة أهل الأندلس منهم، أثبتوا قبولهم أهل الذمة بين ظهرانيهم، وتكفلوا بالدفاع عنهم، وحماية كنائسهم وصوامعهم، فالإسلام يجل رسلهم كما يجل رسوله. لكن كرايسكي يضع مقابل ذلك مقتبسات أخرى من أطاريح الجمعية عينها، تنسف كل ما تقدم من كلام عن محاسن الإسلام، ليصل إلى استنتاج يسوقه إلى القارئ قاصدا من ورائه إظهار عدم مصداقية المسلمين في التسامح. ومن ذلك محاولته استغلال المقتطف التالي ليبين ألا طريق أخرى غير الإسلام، في نظر أتباعه، تنقذ الآخرين من الضلال: "أمام الإنسان طريقان (نجدان)، إحداهما تفضي إلى السعادة في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وهذه الطريق هي الإسلام. الطريق الثانية تؤدي إلى الضياع (الضلال) في الحياة الدنيا والضياع الأبدي بعد الموت" (ص 51). وينبغي القول هنا أنّ المؤلف يتناسى أن في عقيدته الكاثوليكية كلاما مشابهًا، يحث على اختيار طريق المسيح، كونها درب السعادة الوحيد المؤدي إلى الله. ويركز كرايسكي على قضية رفض المسلمين الثالوث في اللاهوت المسيحي، أي الأقانيم الثلاثة الإلهية، ليثبت لقرائه أنّ القرآن يكفّر المسيحيين، ويجعلهم في صف المشركين، وهذا ما يوجب قتلهم. صحيح أنّ الإيمان بالثالوث يعد شركا في الإسلام بناء على قوله تعالى: "لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ" (المائدة 73)، لكن ذلك لا يلغي أحقية الحوار، والنقاش المنفتح، وإمكان التفاهم. وهذا ما تدعو إليه آيات الكتاب المبين، التي يتجاهلها كرايسكي، ومنها: "وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ، وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ، وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ" (العنكبوت 46).

على مدى صفحات عديدة يجادل كراسكي في قضية الحوار الإسلامي المسيحي، ويكون الجدال في معظمه مركزا على أطاريح حسن باعقيل الواردة في كتابه "الحوار الإسلامي المسيحي"، الذي ترجم إلى لغات عدة منها البولندية. ويبدي عددا من الملاحظات والمآخذ على تلك الأطاريح، ملخصها أنّ ذلك الحوار لا يجدي نفعا. فأقوال باعقيل وغيره من االمسلمين – حسب كرايسكي – تثبت أنّهم لا يرون إلا الإسلام دينا صحيحا ووحيدا للبشرية، فعندهم أنّ الإنسان يولد مسلما بالفطرة، وأن أول مسلم على الأرض كان النبي إبراهيم، وأن ما بعده من الأنبياء أيضا مسلمون. وهذا بالتحديد ما يدفع صاحب "أسلمة بولندا" إلى القول بعدم جدوى الحوار الإسلامي المسيحي. فالغلو، كما يعتقد، بلغ شأوا عظيما عند شيوخ المسلمين، حتى باتوا يعتقدون أنّ تسمية الإسلام نفسه آتية من الله، بينما المسيحية لم تكن إلا مسمى أطلقه معارضوها عليها. ولكن مناقشة كرايسكي للقضايا التي طرحها باعقيل، ومنها ما يخص العقيدة المسيحية، والأناجيل، وشخصية عيسى عليه السلام، ونقاط التقاطع ومواقع الجدل فيها، تدل على أنّ الحوار بين المسلمين والنصارى ممكن، بل واجب لجلاء العويص من الأمور، وتقريب وجهات النظر بين الطرفين.

في المباحث الأخيرة من "أسلمة بولندا" يقع المؤلف في مطب الكتابة الإرشادية التعليمية، فيقدم تعليمات لقرائه في عنوانات مختلفة، تصب في مجملها في خانة درء الخطر الإسلامي المزعوم. فمثلا، يطرح سؤالا عمّاهية الطرق التي يتبعها المسلمون لاستمالة البولنديين وتحويلهم إلى الإسلام. وهنا يتحدث عن مسلكين، أولهما يجري باستخدام نقاط الضعف عند الكاثوليك؛ وثانيهما يسميه مسلك الماسونية، ويزعم أن هذا المسلك فاعل من خلال شخصيات مسلمة مرتبطة بالماسونية العالمية. ولا ينسى المؤلف أن يضع إرشاداته المباشرة التي من شأنها، كما يظن، أن تحصن البولنديين مما يسميه فيروس الإسلام. ولا بد هنا من الإشارة إلى أن كرايسكي في تعليماته هذه يخرج عن أصول عمله كأستاذ أكاديمي، ويعمل كمرشد، أو كمحقق يرى مجريات الأمور من منظور المؤامرات الخفية، لا الحقائق البينة. وبذلك لا يبدي احتراما لعقول القراء من أبناء جلدته، حتى وإن حاول إظهار ذلك شكليا. والبولنديون شعب مجرب ومتعلم، لا أميين في صفوفه، وليس من السهل خداعهم أو إقناعهم بشيء لا يرضىون عنه. وينبغي القول إنّ المسلمين الذين يسعون إلى هداية الآخرين إلى دينهم، تكون أعمالهم فردية في أغلب الأحايين، ويمكن التأكيد ألا منظمات ولا مؤامرات تقف وراءها. ويبدو أن كرايسكي لم يشأ أن يرى في ذلك عملا مشابها لما يقوم به المبشرون المسيحيون في إفريقيا وآسيا وغيرهما من القارات.

رغم أنّ كتاب "أسلمة بولندا – المرحلة الأولى" يقدم الكثير من الشؤون التي تخص العلاقة بين الإسلام والمسيحية، ومنها ما يثير الكثير من الشجون والغرابة، لكنه لا يعرض أية حقائق، أو أطاريح مقنعة، عن الأسلمة المزعومة، على الأقل في مرحلتها الأولى المضمنة في العنوان. ولا نخرج من باب الأمانة العلمية إن قلنا إن القارئ النبيه لم يجد في كتاب البروفيسور ستانيسواف كرايسكي البَكرة التي هيأها ليلف عليها خيوط تلك المرحلة الموهومة، وبكل تأكيد لن يعثر على الخيط الذي سيقوده إلى المرحلة الثانية من أسلمة بولندا. 

----------------------------------------------------------------    

 عنوان الكتاب: أسلمة بولندا – المرحلة الأولى

المؤلف: ستانيسواف كرايسكي

الناشر: Wydawnictwo Św. Tomasza z Akwinu

مكان النشر: وارسو – بولندا 

سنة النشر: 2016

لغة الكتاب: البولندية

عدد الصفحات: 120صفحة

أخبار ذات صلة