لمارك جولي
سعيد بوكرامي
في مطلع القرن التاسع عشر والقرن العشرين عرف نسق الفكر والمعرفة والتصورات رجّة قويّة كان سببها دراسات في علم الاجتماع لباحثين جدد. أصبحت صورة "الكائن" ذي الوجود الإنساني، مبلبلة بشدة. من المؤكد أن هذه الثورة قامت دون خسائر أو متاريس، لكنها من ناحية أخرى خلفت عددا من الضحايا المعنويين، بدءا بالفلسفة. وانطلاقا من مواجهتها الحاسمة لفكرة الاستقلالية والتفرد غير القابل لاختزال الحقائق الاجتماعية. واضعة بذلك نهاية لتطور المقاربة الموضوعية للفكر البشري. ومن هنا وجدت الفلسفة نفسها محاصرة، ومطالبة بإعادة تعريف نفسها أو التخلي عن علم الاجتماع، على الأقل مؤقتا، على أسس الأخلاق وشروط إمكانية المعرفة، لتسير في مسار آخر.
مع ماكس فيبر، وجورج سيمل وفرديناند تونيز في ألمانيا، وإميل دوركهايم وخصوصا غابرييل تارد في فرنسا، سيكرس علم الاجتماع، أولا، مبدأ تعدد التحديدات التاريخية والموضوعية التي تثقل كاهل الوجود الإنساني. ثم أقرت بعد ذلك باستخدام تصور جديد في البناء النظري يحترم التعقيد والقوة المعيقة للحقائق والطبيعة "الاجتماعية" لأصناف الفكر وممارسات الإنتاج ونقل المعرفة.
ومما لا شك فيه أنّ علم الاجتماع لم ينتج جهازه المفاهيمي من فراغ، ولهذا يقترح المؤلف في مقدمة كتابه إطلالة على أسس علم الاجتماع ويسوق هنا مثالين عن الحركة الفكرية في فرنسا وألمانيا مثلا في فرنسا على الخصوص كان التفكير في المجتمع حاضرا بقوة ومن ثَمّ ظهرت فلسفة العقد الاجتماعي مع روسو، بحيث استعرض الباحث مختلف مقولات روسو وأثرها فيما بعد على ثورة علم الاجتماع مثل: "الحياة لا يمكن أن تستمر في ظل حرب الكل ضد الكل.. والإنسان عدو لأخيه الإنسان لأنه محكوم بغريزة البقاء.. للحفاظ على استمرارية المجتمع لابد من عقد اجتماعي، يتحقق ذلك من خلال تنازل الفرد عن جزء من أنانيته الشخصية.." وانطلاقا من أطروحات المفكرين الثوريين تبلور علم الاجتماع وحقق تراكما معرفيا مرنا يتجاوب مع العلوم الأخرى وينهل منها باستمرار كـ (الفلسفة الهيرمينوطيقية والتجريبية والفيزياء والبيولوجيا والرياضيات والإحصائيات..).
وانطلاقا من المقدمة يطرح المؤلف الفرضية التالية: يمكن قراءة قسم كبير من فلسفة القرن العشرين، كرد فعل على الثورة المعرفية للسوسيولوجيا. وبناء عليه سيخضع في هذا الكتاب كل من هنري برغسون، وجورج كانغيلهم، ومارتن هايدغر، ووليام جيمس، وكارل ياسبرز، وموريس ميرلو بونتي أو أيضا برتراند راسل، إلى مقاربة جديدة وتحليل غير مسبوق.
يقترح عالم الاجتماع مارك جولي، المتخصص في فكر نوربرت إلياس، في كتابه "ثورة علم الاجتماع: تحليل شامل لنظام الفكر العلمي الهائل في أواخر القرن التاسع عشر والذي أحدث انقلابا عميقا في الطرق والتصورات التي أنجزت عن الإنسان. لهذا يعود المؤلف إلى مسألة ولادة علم الاجتماع التي تبدو الآن موثقة جيدا، وهنا تبرز إحدى الجوانب المهمة في الكتاب وتكمن أساسا في طريقة الفهم والتحليل المعتمد على اثنين من المبادئ الرئيسية للبحث: دراسة المراسلات المتميزة، التي ستسمح بالاقتراب أكثر من الفاعلين في المجال. والتركيز على مساهمين آخرين لم يهتم بهم تاريخ علم الاجتماع، لتوضيح القضايا الأساسية لعلم الاجتماع من زاوية نظرية جيدة. يشير مارك جولي أنه وجد نفسه أمام مفترق عدة اتجاهات، مثل سوسيولوجيا حقول الانتاج لبيير بورديو، أو السيميائيات التاريخية الألمانية أو مدرسة كامبردج، وأيضا أمام علم الاجتماع الإجرائي لنوربرت إلياس.
لكن ما كان يشغل مارك جولي أساسًا ليس التأريخ لعلم الاجتماع، وإنّما إعداد جهاز مفاهيمي يمكنه من استعادة أرشيف علم الاجتماع وإعادة قراءته وتحريك أسئلته. ومن هنا صب الباحث اهتمامه على أطروحة وولف ليبينز التي تعتبر بأنّ علم الاجتماع يتكون من علوم الطبيعة والأدب. ويشير عالم الاجتماع إلى - الفكرة الأساسية في الكتاب – على العكس، لقد شقت هذه الممارسة ما بين 1880 و1910 طريقها بين الفلسفة وعلم النفس. وبالتالي انتهت من صيرورة الثورة العلمية التي انطلقت مع بداية القرن التاسع عشر. هذا النظام من التفكير، غير المعتاد من حيث إنّه يوفر تصورات واقعيّة عن البشرية من خلال مراعاة أبعادها البيولوجية والنفسية والسوسيولوجية، وهذا بدوره لا يتعارض مع التصورات الفلسفية التي بقيت تتجدد انطلاقا من علاقتها بالإنسان وما يحدث من تغييرات. وهذا ما سمح للمؤلف باستخدام مصطلح "الثورة الاجتماعية"، الذي اقتبسه من ريتشارد كليمنستر. لدعم هذه الأطروحة الأساسية، ينطلق مارك جولي من ثلاثة أقسام:
يشتمل القسم الأول على دراسة مستفيضة لحالات ظهرت في فرنسا. وفقا لمبادئ الأبحاث المتداولة، فقد اختار مارك جولي دراسة غابرييل تارد كشخصية بارزة في علم الاجتماع، لأنّه يسمح بتبني وجهة نظر فريدة ترصد التغييرات التي حدثت في العلاقة بين الفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع في نهاية القرن التاسع عشر داخل الفضاء الفرنسي. ولد تارد في عام 1843، وأصبح معروفا بدراساته حول علم الإجرام خلال 1880 ثم نشر كتابه المرجع: "الجريمة المقارنة" (1886). عاش حتى عام 1894 في بلدة قريبة من سارلات، حيث كتب مؤلفات مهمة مثل: "قوانين المحاكاة". دراسة سوسيولوجية، نشرت عام 1890. هذا الكتاب يمزج في وقت واحد بين علم النفس العلمي، والفلسفة وعلم الاجتماع. والفكرة الرئيسية لهذا القسم الأول من كتاب مارك جولي تتمثل بإيجاز أن تارد (توفي في عام 1904) تمكن حقيقة في أعماله، وخصوصا المفاهيمية من ابتكار نسق تحليلي منسجم من روافد منهجية قد تبدو للوهلة الأولى غير متجانسة كقوانين المحاكاة والابتكار، كحل وسط مقبول ومختلف لإنتاج علوم اجتماعية تهتم بموضوعات حساسة. رغم عدم توافقها مع أنماط التفكير الفلسفية السائدة في فرنسا ومناهج الجامعيين الصاعدين في علوم السياسة والأخلاق والاجتماع.
ينفتح القسم الثاني على الدرس السوسيولوجي الألماني. ولتحليل ثورة علم الاجتماع في هذا البلد يركز مارك جولي على تجارب رائدة لكل من جورج سيمل وفرديناند تونييس وماكس فيبر بدءا بالمؤتمر الأول لرابطة علم الاجتماع الألماني الذي عقد في فرانكفورت من 19-22 أكتوبر 1910. وتكمن قيمة هذا الأرشيف في أنّه يتيح للباحث الإجابة عن سؤالين: ماذا تعني هذه التجارب الثلاثة في "علم الاجتماع"؟ هل تكفي صفة عالم الاجتماع لتجعل منهم ظاهرة سوسيولوجية؟. تتمثل خصوصية الدرس الألماني ربما بسبب العائق الشائع ومصدره تيار الفلسفة الكانطية الجديدة التي تميز صورة "الأنا" الراشد لا تفكر إلا بنفسها -أي أن الأنا مستقلة بذاتها- بالمقارنة مع هذا الأفق المهيمن اعتمد سيمل، وتونييس و ويبر ثلاث استراتيجيات مختلفة. في البداية حاول الأول الهرب من علم الاجتماع والتأكيد على اشتغاله ضمن المرجعية الفلسفية، أمّا الثاني استمر في علم الاجتماع رغم هامشيته آنذاك، في حين وجد الثالث طريقا وسطا من خلال التوفيق بين متطلبات إجراء التحقيقات التجريبية وفي الحين نفسه وضع منهجيته تحت سلطة المنطق الكانطي، بعيدا عن الانتقادات الموجهة لعلم الاجتماع.
في القسم الأخير يتوسع مارك جولي في مسحه الزمني مبرزا كيف تشكلت نظرية نوربرت إلياس حول الارتباط "كنموذج ينهي التوافق مع قوانين المنظومة المفاهيمية للعلوم الإنسانية والاجتماعية ص 276" في سياق تغيير مضطرد في الحقل الأكاديمي. في الواقع، إن إنشاء كراسي جامعية في علم الاجتماع ومعاهد متخصصة في جامعات هايدلبرغ وفرانكفورت بعد الحرب العالمية الثانية، ساهم بقبول "علم اجتماع" تدريجيا، ليحاول فرض معرفته، كما يتصورها سيمل مثلا، إذ يجب أن تقتصر على إنجاز دراسة مجردة من الأشكال الاجتماعية، وهذا ساهم أيضا في جعل هذا العلم يقف الند للند حتى أمام الكانطية الجديدة، ويعود الفضل في تحقيق ذلك إلى الرواد الألمان الثلاثة في علم الاجتماع. في نهاية المطاف فداخل هذا الفضاء المعرفي تمكن نوربرت إلياس أن يجعل من الممكن ترشيح مفاهيم جديدة من خلال دمج مساهمات ماركس وفرويد، وإنجاز تحقيقات تجريبية ملموسة مما أدى إلى وضع "صورة علمية حقيقية عن البشر - كصيرورة وظيفية وعاطفية مترابطة ص 281"، بحيث أظهر بالملموس أن هناك علاقة جدلية بين الفرد والمجتمع وبالتالي فضمير "الأنا" هو في جوهره ضمير جماعي وهنا يظهر الفصل الواضح مع الفلسفة.
وأخيرا، يختم مارك جولي في الجزء الأخير الذي يأتي على شكل مقال يستند فيه إلى نتائج إلى الأقسام الثلاثة السابقة. القسم الأول يحاول أن يبين فضل تطور نظريات علم الاجتماع المدروسة على طرق التفكير الحالي. وما أحدثه منذ 1900 من تغييرات فكرية حتى على الفلسفة نفسها بحيث أصبح هذا النظام الفكري العلمي بإمكانه اختراع طرق جديدة وعلى هامش العلوم. يحلل جولي المواقف الفلسفية من قطب مركز العلوم إلى ما فوقه، وهذا يعني، محاولة إنشاء أو بالأحرى التخلص من العلوم. ويمكن ملاحظة أنّ المحور المركزي لهذه الأقسام، يستند إلى العديد من التحليلات التجريبية "الأمبيريقية".
سمحت هذه المحطات الثلاث للمؤلف في نهاية المطاف، باستنتاج عدد من النقاط الرئيسية. من بينها أن بداية عام 1900 انطلقت مرحلة تاريخية حاسمة توجت بولادة نظام مفاهيمي للعلوم الاجتماعية، الأمر الذي تطلب على حد سواء ترابطا بين البيولوجيا وعلم النفس وعلم الاجتماع، وغيرها من العلوم لاحقا، ولكن أيضًا التخلص من أنماط التفكير الازدواجية والمادية المحضة. وقد لعبت استقلالية النظرية السوسيولوجية في البداية على العلاقات التنافسية بينها وبين الفلسفة وعلم النفس. وبهذا لم يوقظ ظهور هذا النظام المفاهيمي لعلم الاجتماع الوعي فقط، بل وضع مجموعة من التحديدات رسخت صورة عامة وجديدة عن البشر تعكس نظرة مغايرة للوجود البشري، ولكن أيضا أصبحت هذه التحديدات قابلة للموضعة من طرف مجموعة من التخصصات المستقلة عن الفلسفة. ساعدت كثيرا في فهم المجتمعات وظواهرها والتنبؤ بما قد يحدث لها.
ودون التشكيك في الطابع المثير والمبتكر حقا لهذه الدراسة المتميزة، يمكن مع ذلك إبداء بعض الملاحظات والأسئلة حولها. إن وفرة الحالات التجريبية غير المعروفة، في كثير من الأحيان، التي يستدل بها الكاتب تجعل أحيانا من الصعب تتبع السياق العام للدراسة، ولا سيما في الدراسة الأخيرة التي تبدو أقل وضوحا من القسمين الأولين. وقد يتساءل المرء أيضا، لماذا مارك جولي يشير في مناسبات عدة إلى أنه يتخذ موقفا من أطروحة وولف ليبينييس؛ رغم أنّه لم يبرر سبب استبعاده لبريطانيا من نطاق بحثه. وفي الواقع كان من الممكن أن تكون دراسة علم الاجتماع البريطاني مفيدة جدا. بالتأكيد ستصبح محصلة الكتاب أكثر دقة. ويبقى الكتاب في النهاية مجموعة مهمة من المعرفة المتجددة في التاريخ الاجتماعي لعلوم الاجتماع. يتميز الكتاب بثراء في نوعية مواد الدرس المرتبطة بالأسس النظرية التي سمحت للمؤلف أن يقترح تاريخا للمفاهيم المتجددة باستمرار والتي شكلت في وقت من الأوقات تصورات ثورية في مجال علم الاجتماع. الكتاب زخم بالمراجع وجريء بالتصورات، وهو بذلك يقدم أول تاريخ العلاقة المتقاطعة بين علم الاجتماع والفلسفة.
------------------------------------------------------------------------------------
عنوان الكتاب: ثورة علم الاجتماع من بداية نظام فكر علمي إلى أزمة الفلسفة "من القرن التاسع عشر إلى القرن العشرين.
المؤلف: مارك جولي
الناشر: منشورات لاديكوفيرت. باريس. فرنسا 2017
عدد الصفحات 583
اللغة: الفرنسية
