ويليام غوتزمان
محمد السالمي
في أعقاب الأزمات المالية الأخيرة، من السهل أن نرى أن التمويل يتم تمثيله ككرة حطام، شيء يدمر الثروات والوظائف، ويقوض الحكومات والبنوك. بينما يرى المؤرخ المالي ويليام غوتزمان في كتابه "المال غير كل شيء" عكس هذه النظرة السلبية تمامًا، حيث يرى أنّ دور التمويل جعل نمو الحضارات ممكنا. ويوضح غوتزمان أنّ التمويل هو آلة الزمن، وهو التكنولوجيا التي تسمح لنا في نقل القيمة إلى الأمام والخلف مع مرور الوقت، وأن الابتكارات المالية على مرّ العصور كان لها تأثير حضاري في تنمية المجتمع البشري ثقافياً ومعرفياً. ويبيّن الكاتب كيف كان التمويل موجودا في لحظات رئيسية من التاريخ؛ دفع إلى اختراع الكتابة في بلاد ما بين النهرين، وتحفيز الحضارات الكلاسيكية من اليونان وروما لتصبح إمبراطوريات كبيرة، وتحديد صعود وهبوط السلالات في إمبراطورية الصين، والبعثات التجارية التي قادت الأوروبيين إلى العالم الجديد. كما يوضح تطور أسواق الأوراق المالية والمنتجات المالية المعقدة، والتجارة الدولية على مدار التاريخ البشري.
فغوتزمان هو أستاذ المالية والإدارة ومدير المركز الدولي للتمويل في جامعة ييل. خلال عمله في الجامعة، نشر غوتزمان العديد من الكتب ذات الصيت الكبير، وتتمحور أبحاثه في تاريخ التمويل في الصين إلى أصول الشركات وتاريخ فقاعات سوق الأسهم. يتناول الكتاب الأخير لويليام غوتزمان "المال غير كل شيء"، ثلاثة مواضيع رئيسية في تاريخ التمويل، والتي تتضمن: تطور التمويل من العصور القديمة إلى الوقت الحاضر، ومساهمة مختلف البلدان في تطوير النظام المالي الحديث، وتأثير التمويل على الأحداث العالمية الكبرى.
ركّز الجزء الأول على تطور التمويل من المسمارية إلى الحضارة الكلاسيكية، حيث يبدأ الكتاب بالحضارات المبكرة وتحديداً في مدينة أوروك في بلاد ما بين النهرين حوالي 5000 قبل الميلاد. حيث تشير الحفريات المسمارية أن السكان بجميع أصنافهم من رعاة، ومزارعين، ومعلمين، وغيرهم شاركوا جميعا في عملية الإقراض، والاقتراض، والاستثمار أيضا، وذلك باستخدام الفضة كوسيلة للتبادل. كما أن ابتكار التقويم من قبل السومريين ل360 يوما بحد ذاته إنجاز كونه مريحا للعقود المالية، ويجعل حسابات الفائدة أسهل. وفي الواقع، لا يزال يستخدم إلى الآن لحساب مستحقات الفائدة على السندات في العصر الحديث. في المقابل، فإنّ الابتكارات في بلاد ما بين النهرين استمرت في الحضارات التي أتت بعدها. كما أدى اكتشاف مناجم الفضة في اليونان إلى العملات الفضية اليونانية، التي وضعت مكانا بين العملات الأكثر أهمية في العالم من أي وقت مضى. أمّا روما بنيت على ابتكارات اليونان ووسعت التمويل بطريقة معقدة وبشكل غير مسبوق. وشمل التمويل الروماني العملات والبنوك والعقود البحرية والرهون العقارية وأمناء الخزينة العامة.
يرى الكاتب، أنّ ما يميّز الثقافات بأنّها "هياكل لمؤسسات مترابطة من اللغة والأفكار والقيم والخرافات والرموز، فهي تميل إلى أن تكون حصرية، وقبلية. والحضارات، من ناحية أخرى، مفتوحة للعادات والأفكار الجديدة. وهي نظم معلومات مجتمعية متشابكة، وفوضوية، وغالبا ما تكون مربكة. ولا تزال تنمو في ثراء وتنوع وتعقيد الخبرة المجتمعية؛ مما يقود لتوسيع وتعميق آثار الابتكارات المالية التي حدثت خلال التاريخ، وهو أنّ إعادة توزيع القيمة الاقتصادية هو السمة الأساسيّة التي تسمح بالحضارات لأن تنشأ في المقام الأول.
أمّا الجزء الثاني، فيتحدث عن "الإرث المالي للصين"، وكيف فشل التقدم التكنولوجي لأسرة سونغ لتوليد ثورة صناعية أو المزيد من التقدم العلمي الذي حدث في وقت لاحق في أوروبا، هذا الفشل أدى إلى التباعد المالي بين الصين وأوروبا. وكان العامل الأساسي في الفشل هو عدم تطوير الصين الديون السيادية سواء في مدنها الرائعة أو للحكومة المركزية. وفقط مع فتح الموانئ الصينية في القرن التاسع عشر نتيجة المعاهدات لم تلجأ الحكومة الصينية أخيرًا إلى ديون الدولة، وحتى حينها كانت أول سندات الحكومة الصينية تطفو على أسواق الديون الدولية. لكن عندما دخلت الصين الأسواق العالمية في أواخر القرن التاسع عشر، فعلت ذلك مع الانتقام. أصبحت شنغهاي بسرعة واحدة من المراكز المصرفية الكبرى في العالم في العشرينيات من القرن الماضي، ولكن فقط عن طريق التخلص من إرث الإمبراطورية. يقول الكاتب: "كان هناك نقاش كبير في هان حول دور المؤسسات الخاصة مقابل ملكية الدولة، خاصة فيما يتعلق بالملح والحديد والتجارة البحرية، وفي نهاية المطاف ملكية الدولة هي التي فازت". بعد ذلك، قدمت الدولة الائتمان للتجار وأمراء الحرب عندما كانت بحاجة لتعبئة الموارد، مما أدى في نهاية المطاف إلى خلق النقود الورقية في عهد أسرة سونغ. ويختم غوتزمان بأنه من المستحيل إنشاء نقود ورقية بدون فئات كاملة. وهكذا، ارتفعت قيمة العملة وانهارت في نهاية المطاف مع الدولة ".
الجزء الثالث، هو الجزء الأكبر من الكتاب، يتحدث عن "البوتقة الأوروبية"، بدءا من الديون السيادية في البندقية، واختتامًا ببدائل أمريكية للديون السيادية، وغالبا ما يتم التأمين من قبل الممولين الهولنديين. يرى غوتزمان مراحل التنمية المالية في أوروبا على النحو التالي: أولا، ظهور المؤسسات المالية؛ المرحلة الثانية، تطوير أسواق الأوراق المالية؛ ومن ثم، ظهور الشركات؛ رابعاً، الانفجار المفاجئ للأسواق المالية. وبعد ذلك، التحديد الكمي للمخاطر؛ وأخيراً، امتداد هذا النظام إلى بقية العالم. كما تم التطرق في هذا الجزء إلى الأخطاء والخطوات التي تحدث أحيانا والتي ترسي أسس التمويل الحديث. ويستكشف الكتاب أيضا كيف وجدت الأسواق المالية باستمرار طرقا لتسييل الأصول غير السائلة. وتكشف سجلات المخبر الصيني الذي يعود إلى القرن السابع أنّه يمكن استخدام أي شيء تقريبا بقيمة إعادة البيع كضمان للقرض؛ وفي القرن الخامس عشر، تمّ تطوير سوق المضاربة المستقبلية في أرباح كاسا دي سان جيورجيو، وهي كيان تم تشكيله للتعامل مع الشؤون المالية لمدينة جنوة.
وأخيرا، غوتزمان يغطي مجموعة واسعة من الأحداث التاريخية الهامة التي تتأثر بالتمويل. ففي القرن السادس عشر، قامت شركة الهند الشرقية الإنجليزية وشركة الهند الشرقية الهولندية بتجارة واسعة للتوابل مع آسيا. وقبل فقاعة بحر الجنوب أسقطت كلتا الشركتين، حيث أصدروا كميّات هائلة من الأسهم والسندات. وفي العشرينيات من القرن الثامن عشر، وتحت تأثير المصرفي لو جون، أصدرت فرنسا الأسهم على أساس بعض الممتلكات الاستعمارية الفرنسية في أمريكا الشمالية. وبعد خسائر فيما أصبح يعرف باسم فقاعة المسيسيبي، باعت فرنسا الأراضي إلى الولايات المتحدة. وشهد منتصف القرن التاسع عشر نشر "البيان الشيوعي"، وكارل ماركس وفريدريش إنجلز تحديا للرأسمالية التي استشهدت بالأموال والادخار والاستثمارات كجذر للمشكلة. وأخيرا، سعى جون ماينارد كينز الخبير الاقتصادي اللامع في كامبريدج للتأثير على الظروف المفروضة على ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى، وأصبح أيضا مشاركا رئيسيا في المناقشات التي جرت في مؤتمر بريتون وودز في أعقاب الحرب العالمية الثانية، والتي أدّت إلى تشكيل البنك الدولي. وكان كينز، في جميع مساهماته، مؤمنا كبيرا بمزايا الاستثمار والقيمة الاجتماعية لأسواق الأوراق المالية.
ومع ذلك، فإنّ النجاح النهائي للبوتقة الأوروبية، وفقا لغوتزمان، نشأ في المستعمرات الأمريكية، أولا بتجاربهم مع البنوك البرية (حتى تم حظرها من قبل البرلمان البريطاني) ثم مع شركات الأراضي المدعومة عادة من قبل المستثمرين الهولنديين والبريطانيين. مع كل الحماسة الحالية المحيطة بالدور الذي لعبه إلكسندر هاملتون وزير الخزانة الأمريكي السابق، إلا أنّ غوتزمان بدلا من ذلك؛ يعطي إبراهيم فان كيتوش وعددا من الائتمانيين الهولنديين الآخرين الائتمان الأساسي لكونهم قد عززوا الديون المبكرة للولايات المتحدة. لذا، فإنّ الائتمان الحقيقي لنجاح أمريكا يجب أن يذهب إلى المستثمرين الهولنديين في القرن الثامن عشر الذين طوروا الابتكار المالي لصناديق الاستثمار المغلقة، مما سمح للمستثمرين الصغار بمشاركة العائدات من الأصول الخطرة، دون نسيان الدور الداعم لإكسندر هاملتون.
الجزء الرابع، يتحدث عن ظهور الأسواق العالمية، ويبدأ الكاتب بمناقشة مثيرة للاهتمام لماركس، وخاصة رؤيته في التمويل المعاصر، وتصوره حول الروابط العالمية والديناميات الجغرافية والسياسية. يرى الكاتب أن هناك رؤى رائعة في تجارب الصين ما قبل الثورة، وقبل الحرب العالمية الأولى والثورة الروسية. حيث حاول كل بلد اعتماد ابتكارات مالية جديدة ورأس مال من الخارج مع محاولة إرساء الشرعية لحكومة جديدة. وانتهى كلاهما إلى أنظمة استبدادية تعتنق الأيديولوجية الماركسية، مما يدل مرة أخرى على حالات الطوارئ التاريخية التي تنشأ بموجبها الابتكارات المالية أو تفي بوفاتها. كما تطرق غوتزمان لتوصيات كينز المألوفة للجميع من نظريته العامة، حيث تطرق كينز لأهمية الإنفاق الحكومي وكيف يؤثر على النظام المالي والاستثماري للدولة.
"العالم المالي الجديد" ظهر بعد الحرب العالمية الأولى، وليس الحرب العالمية الثانية على حسب وصف غوتزمان. غير أنه من بين الكساد الكبير الذي أعقب ذلك، يرى غوتزمان أن ظهور الابتكارات المالية مفيد، بدءا من التنظيم الحكومي لأسواق الأوراق المالية، وتنفيذ خطة وطنية للضمان الاجتماعي، وتحسينات في تصاميم صناديق الاستثمار المشتركة، وكل ذلك يؤدي إلى تطورات في النظريات المالية لما بعد الحرب، فضلا عن البحوث التجريبية المكثفة في أصناف الحركات في أسعار الأسهم. وتكمن تحديات المستقبل، في إنشاء نظام مالي عالمي يوثق به بشدة في الأزمات، وفي توفير ضمانات للسكان في سن العمل الحاليين في جميع أنحاء العالم بأن نفقاتهم الطبية واستحقاقاتهم التقاعدية في المستقبل يمكن تمويلها. وينبغي تشجيع المحاولات الرامية إلى مواجهة هذه التحديات بالابتكارات المالية الجديدة، سواء من المبادرات الخاصة أو العامة، حيث إنّ التاريخ يبين أن نتائج لتوقعات الجمهور السلبية كانت دائما كارثية بالنسبة للحضارة.
على الرغم من أنّ جذور التقنيات المالية قديمة ومنتشرة، فإنّ تطوير التكنولوجيا المالية أمر أساسي وسيظل يؤثر تأثيرا كبيرا على تطور المؤسسات المالية. غالبا ما يكون التفكير المالي صعبا، ويتعرض للصدمات والفقاعات لأكثر من ألف عام. وتسهم أدوات من قبيل الخيارات والعقود الآجلة ومؤسسات مثل الأسواق والبنوك والشركات في جعل التمويل موضوعا معقدا. وكما هو الحال بالنسبة للمجالات الأخرى، فإنّ التمويل يتطلب زيادة التخصص لفهمه وتنفيذه. المقارنات بين الثقافات لتنمية المشاريع تكشف كيف أصبحت الشركات كيانا هاما في الاقتصاد العالمي الحديث. وأنّ التنمية المالية العالمية، التي تترسخ جذورها في التاريخ، تظل ركناً أساسيا للتنمية السياسية اليوم. ومع تحرك العالم نحو حضارة عالميّة جماعية، تظل الأدوات المالية أساسية لجميع المعنيين.
غوتزمان لا يتجاهل الجانب المظلم من التمويل، ولكنّه يعطي أطروحة رائعة، تضيء ببراعة عشرات من الأمثلة الحيّة، شاملة في نطاقها الجغرافي والزمني. ويتيح الكتاب منظورًا عميقًا لأي شخص يحاول التعامل مع المشاكل الحالية في دور التمويل والتنظيم المالي في مجتمعنا. والكتاب يصنف ضمن أفضل الكتب الاقتصادية لعام ٢٠١٦ حسب بلومبيرغ والفايننشال تايمز.
----------------------------------------------------------------------
الكتاب: المال غيّر كل شيء: كيف جعل التمويل الحضارة أمراً ممكناً.
المؤلف: ويليام غوتزمان
عدد الصفحات:600 صفحة
اللغة: الإنجليزية
الناشر: Princeton University Press
سنة النشر: 2016
