لـ «قسطنطين بيغروف » و «الكسندرسيكاتسكي»
أحمد الرحبي*
إن فهم عمر الإنسان استنادا إلى السنين التي راكمها لا يخبرنا بشيء في سياق الوجود، فمسألة العمر ظاهرة عميقة وتجربة حادة، متعددة الخصائص، وثمة زوايا كثيرة مفتوحة على المدى المعرفي الواسع يمكن النظر من خلالها إلى ظاهرة العمر وقراءة معانيها الكبيرة، وليس معنى السنين بين هذه المعاني سوى قطرة في بحر الوجود.
وبرغم صغر حجم كتابهما المُشترك "الوجود والعمر" إلا أن الفيلسوفين الروسيين قسطنطين بيغروف وألكسندر سيكاتسكي أحاطا فيه بظاهرة عمر الإنسان في سياق وجوديته متعددة الزوايا والأطراف. "من الواضح أن أربعين الرجل غير أربعينية المرأة، وأربعين العامل الشغيل ليست أربعين العالم المتبحر" (ص 8).
إنّ قضية العمر كما يراها المؤلفان هي قضية الوقت التي يواجهها الإنسان ضمن حياته الخاصة الفريدة، هذه الخصوصية وهذه الفرادة اللتان تشكلان أهم أبعاد تجربة الإنسان، بل أكثر من ذلك بكثير.
ثمة تقسيمات مختلفة لعمر الإنسان صيغت على إثرها مقالات العلماء والفلاسفة (عند أرسطو مثلا يُقسّم العمر إلى عقود)، وبالنسبة للفيلسوفين الروسيين يتم التقسيم حسب المراحل: الطفولة والمراهقة والبلوغ والشيخوخة. لكل من هذه المراحل قيمة وهدف: "لا يمكن الافتراض أن الطفولة مجرد آلة إسناد لمرحلة البلوغ، أو هيكل يُمّكننا من بناء مرحلة بلوغٍ جيدة أو سيئة. ولا يمكن الاعتماد على مرحلة البلوغ لضمان تقاعد لائق وشيخوخة محترمة. العمر حالة نعيشها من الداخل، إنه وقت وجودنا بدرجة خاصة" (ص 9).
يبدأ الكاتبان بحثهما من قضايا الشيخوخة، وكأنهما بذلك يعاكسان منطق العمر، بيد أنّ منطق الكتاب يتسع لهذه المُعاكسة. يدرسان هذه الظاهرة (كما يفعلان مع غيرها من مراحل العمر) ليس من وجهة نظر بيولوجية حيث: "تبدو الشيخوخة كالطاقة المتبقية من الوجود لا أكثر" (ص 20) بل يتناولانها من الناحية الاجتماعية حيث يكون النقاش مثيرا وأكثر أهمية.
نتابع مع الكاتبين مواقف من الشيخوخة والسن المتقدم تنتمي إلى ثقافات وعصور تاريخية مختلفة، وفي هذا السياق ثمة إشارة واضحة إلى موقف العصور المسيحية القديمة من ظاهرة الشيخوخة: "إن الأجساد القديمة دائما ما تظهر لدِنة ومثالية وكأن لسان حالها يقول: إننا آلهة وأشباه آلهة وأبطال ومواطنون، أحرار نحن، أجساد جميلة صقلتها التمارين الجمبازية. ولكن ألا يحق لنا أن نسأل أين هي الأجساد الأخرى، أين أجساد المسنين والمُصابين والمرضى؟ لا وجود لهذه الأجساد. كان يتم قتل الجرحى (وقتل مفهوم الجسد الواهن) ولا يُسمح بإتيان ذكرهم في المجالس العامة. ولكن المفاجأة المذهلة تكمن في انتقال تلك الأجساد المكتملة في العصور القديمة إلى العصور الوسطى، حينها فقط تدفقت على المشهد الأجسادُ المشوهة والمريضة والبالية. وفي هذا الالتواء الفكري تكمن عظمة المسيحية التي آمنت بوجود كل الأجساد وبضرورة أن تبقى الروح في جسدها المتألم الذي حصُلت عليه" (ص 26).
يقف الباحثان على موضوع القيمة الجمالية لأعمار المسنين، ويحللان التفاصيل التي وجداها في أعمال نحاتي العصور القديمة وفي لوحات الرسام الهولندي رامبرانت: "الطفل جميل بحكم التعريف. والمسن جميل أيضا على الرغم من الغموض الذي يكتنف جماله. الشاب الجميل والعجوز الجميل - هذه شرائع مختلفة في الجمال. ولكن جمال الشاب في ملامحه التي لم تنطبع فيها سيماء الحكمة ومزاولة التفكير الطويل. إنّها ملامح مخيبة للآمال. إن جمال الشاب شبيه باليضة المكتملة، لم يكتب عليها شيء. أما جمال العجوز فيتجلى في ظهور الكتابات على الوجه، الكتابات التي تبرهن على الخبرة الروحية والتجربة الإنسانية" (ص 43).
ولكن الأصعب من ذلك هو مرحلة الطفولة. لقد قام الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو (القرن الثامن عشر) بالخطوة الأولى في الفصل بين مرحل الطفولة ومرحلة البلوغ. قبل ذلك لم يكن ثمة طفل ولا طفولة، كان هناك ما يطلق عليه (البالغ الصغير) الذي كان عليه أن يلبس إهاب البالغين ويتصرف مثلهم. ومن ثم بدأت فكرة الطفولة تتبلور وتتشكل، ومثل كل الأفكار الكبيرة، عاشت هذه الفكرة مخاضها وعبرت مرحلة التجاذبات والتناقضات. وككل الأفكار العظيمة، ارتبطت فكرة الطفولة بمناحي مختلفة من الحياة، كقضية التنمية ودفع عجلتها، ومسألة تحديد عمر الطفولة، ومسألة الإنسان الكامل الكامن في الطفل الصغير... إلخ. ومن بين التجاذبات التي تدخلت في تربية الطفل الصحية، يذكر الكاتبان مسألة القماط، ففي العقد الأول من القرن العشرين دافع الكثيرون، ومنهم أطباء كبار، عن عادة التقميط المُحكم للطفل لمنع تشوّه قدميه. ولكن هذا الافتراض فقد قيمته مع الوقت وانتهى المطاف به أن أصبح من قبيل المُغالطة. الأمر نفسه يتعلق بتغذية الطفل حيث سادت لوقت طويل طريقة لتغذية الطفل تعتمد على جدول زمني صارم، وفقدت هذه الطريقة أيضا حججها العلمية.
لا يحاول الكاتبان إثبات أي من النظريات أو إنكارها بل يكتفيان بحقيقة أن: "التربية الشائعة في فترة ما قبل المدرسة لا تقل شعوذة عن علم التغذية الذي يقدم كل سنة مفهوما جديدا عن الجوع والشبع" (ص 50). وبخلاف النظريات الرائجة حول تربية الطفل، يركز المؤلفان على الطريقة الفطرية للتعامل مع الطفل كونه، وبعكس الكبار، يمتلك خصائص مختلفة، وتجربته العمرية مكثفة وعاطفية في كل شيء، ولا يمتلك تدبيرا مسبقا للأشياء، وغير مهيأ لتأجيل ما يرغب فيه، وقدرته على تحمل الوحدة والملل معدومة.
ينظر الكاتبان عبر نافذة العبقرية التي تنفتح في مرحلة الطفولة فقط، ويتساءلان لماذا تنغلق هذه النافذة التي تتيح للطفل أن يجترح ما لا يقدر عليه الكبار، كتعلم خمس لغات مثلا، لماذا تنغلق ما أن نجتاز الطفولة؟ ويتساءلان لماذا لا يسخّر علماء الأعصاب جهدهم لإبقاء هذه النافذة العظيمة مفتوحة لفترة أطول؟ وفي معرض إجابتهما عن هذين السؤالين يحدد الكاتبان عامل (المناعة الثقافية) الذي يؤثر في مقدرة الاستيعاب لدى الناشئة، ويبث في وجدانهم الانطباع الشامل عن الحياة: "إن الطفولة المبكرة تتغذى أساسا من اللغة الأم والثقافة الأم، وفي هذه الفترة ينطبع في وجدان الطفل كل ما يتلقاه.. وإلى الأبد. الأشياء الأخرى يبنيها الوعي فيما بعد كشيء مكتسب، مختلف وغريب. لنتخيل أمريكا بسلاحها المغري: هولييود. كم هو رائع أن يكون المرء أمريكيا! ما أجمل الرسوم المتحركة فيها! ما أحلى ديزني لاند! ولكن ثمة شيء يتدخل ويشكل مانعا أمام الأحلام الوردية. إنها اللغة قبل كل شيء، ضرورة إتقان لغة أجنبية، وهذا بالذات (اللغة) ما يحفظ لنا تعدد الثقافات" (ص 90 – 91).
وفي عرض قضايا الطفولة يلجأ المؤلفان إلى تجربة الأدب العالمي ويحللان تحفا أدبية تناولت الطفل والطفولة من زوايا مختلفة. من بين تلك الأعمال قصة الكاتب الروسي فيودر دستويفسكي "الصبي عند شجرة عيد ميلاد المسيح" التي تحكي عن طفل يقتله الصقيع وهو في حفلة باذخة لعيد الميلاد. وقصة الكاتب الروسي أنطون تشيخوف "النعاس" حيث تقتل الحاضنة الشابة طفلا باكيا وذلك من شدة رغبتها في النوم. ورواية الكاتب الإنجليزي وليام غولدنغ "سيد الذباب" التي تحكي عن مدى قسوة الأطفال بعضهم تجاه بعض، وغيرها من الأعمال الأدبية. سوى ذلك يشير الكاتبان إلى رهط من الكتاب والفنانين اللذين كرسوا حياتهم وإبداعهم للطفل، ويعتبرانهم "الماسكين على مفاتيح الروح الوطنية". ومن هؤلاء الكتّاب، شاعر الأطفال الروسي ميخالكوف (وهو نفسه مؤلف النشيد الوطني للاتحاد السوفيتي ومن بعدها روسيا): "إن أساس الثقافة الوطنية ليس في تأليف كتب غليظة أو روايات للكبار لا يمكن قراءتها من غير مراجعة الهوامش كأعمال توماس مان وروبرت موزيل (...) إن ممثلي الثقافة الوطنية اليوم هم أولئك القادرون على إبداع الرسوم المتحركة التي تُمتع الجميع، صغارا وكبارا" (ص 56).
بعد الجزءين المخصصين للشيخوخة والطفولة، يتوقف المؤلفان عند مرحلة المراهقة في جزء تحت عنوان: "الطفل أو الراشد أو ..." إنها المرحلة الأكثر تعقيدا في حياة الإنسان، المليئة بالتناقضات والمبنية على عدم اليقين، حيث الطفولة مازالت كامنة في تضاعيف هذه المرحلة، وحيث الحدس بالبلوغ وما يترتب عن ذلك من معاناة لا تعرفها باقي المراحل العمرية. ومن السمات التي تفرش ظلالها القاتمة على مرحلة المراهقة يذكُر الكاتبان: غياب خطة الحياة مهما قلت مدتها، انعدام التفاهم مع الفئات العمرية الأخرى، مواجهة وتجريب شحنات مكثفة من العواطف والسمات الجديدة كالشجاعة والحظ والخسة والجبن... إلخ. ويُشبّه الباحثان هذه الفترة المضطربة بحقل ألغام "يعبره معظم الناس بسلامة رغما عن كل شيء" (ص 98).
وفي سبيل وضع مقاربة مجازية، يطابق الكاتبان بين فترة المراهقة وبين قبائل الفايكينج الإسكندنافية التي عاشت في القرن الثامن وحتى القرن الحادي عشر واكتسحت أجزاء كبيرة من أوروبا. "هم في الأساس منبوذون ولم يتمتعوا بتنشئة اجتماعية حقة. وبكونهم خارج حدود المجتمع، شكلوا من قدراتهم الذاتية، قوة عسكرية تتميز بالتهور والغضب الساحق". ثمة مطابقة أخرى للمراهقة مع مؤسسة الفرسان في القرون الوسطى – الإخوة الصغار المحرومون من حق الوراثة حسب قوانين تلك الفترة، حيث تذهب التركة بموجبها إلى الأبكار من الأبناء. "الفرسان الباقون كمراهقين إلى الأبد. لم تكن لهم آفاق في دروب الحياة، فهي مسدودة أمامهم وهم محصورون في دائرة عدم الاستقرار والمعاناة والغضب (...) وهكذا فمرحلة المراهقة سيف ذو حدين، فإما أن يتم توجيه طاقة المراهقين إلى عصب الابتكار الاجتماعي، وإما مواجهة الانفجار الذي قد ينتج عنه" (ص 99).
ويستمر الكاتبان في ربط المراحل العمرية بتصورات ومظاهر حضارية مختلفة. يلاحظان أن: "من بين أكثر التغيرات ثورية في الحضارة الحديثة هي تلك التي تتعلق بالانقلابات المرتبطة بالعمر والتي تحمل في طياتها عواقب بعيدة المدى. نرى مثلا تبدلا في دور الحكواتي أو المتحدث بلسان القوم، فبعد أن كان حكرا على الرجال المسنين، أصبحنا اليوم نشاهد المذيعين من الشباب يعتلون المنابر في التلفاز (...) وإن أردنا أن نحلل الضجر الذي تبعثه فينا مشاهدة التلفاز، نجد أنّ السبب المباشر يكمن في أن رهطا من الشبان يحاولون تعليمنا معنى الحياة، فضلا عن أنهم يفعلون ذلك بإكراه وعنف" (ص 120).
عند تناولهما كل مرحلة من المراحل العمرية للإنسان، يعود الباحثان إلى الشعور الأكثر عاطفية في الوجود الإنساني، ألا وهو الخوف. ففي كل مرحلة نصيبها من هذه العاطفة ولكن بخاصية مختلفة؛ فنرى أن خوف العجوز يعود إلى أنه أصبح غريبا في هذا العالم، وخوف الطفل سببه أنه لا يستطيع فهم ظواهر الحياة ولا التعبير عن هواجسه عما يحيط به، وإلى شعوره بأن العالم غير مبال به وغير مستعد لتقبل أمور كثيرة تصدر عنه. أمّا المراهق فإنّ أكثر الأمور التي ترعبه وتثير مخاوفه هي مواهبه غير المجربة ورهاناته غير المضمونة. أمّا سن النضوج فهو برأي المؤلفين المرحلة الوحيدة الخالية من المخاوف والمحصنة من التوتر العميق، فيها لا يشعر المرء بثقل العمر والسنين، وتمضي الحياة بسلاسة، وتكون آلية التأقلم مع الظروف في أوج قوتها.
---------------------------------------------------------------
الكتاب: الوجود والعمر
المؤلف: قسطنطين بيغروف و ألكسندر سيكاتسكي
الناشر: دار نشر "آلاتيا"، سانت بطرسبورغ 2017
اللغة: الروسية
عدد الصفحات: 250 صفحة
*كاتب عماني
