فاطمة بنت ناصر
يتناولُ عزمي طه، في مقاله المنشور بـ"مجلة التفاهم"، والمعنون بـ"فلسفة العبادة في الإسلام"، مفهومَ العبادة في المنظور الإسلامي وأبعاده الفلسفية التي تجعل منه مفهوماً ملاصقاً وملازماً للحياة ولمفهوم "الخلافة" في الأرض. ويؤكِّد أنه تناول موضوع العبادة من مُنطلق عقلي؛ وذلك كما يقول: "لزيادة الوعي بحقيقة مفهوم العبادة، وجعل ممارستها قائمة على وعي وبصيرة".
وفي البَدْء، يتحدَّث الكاتبُ عن القضية المحورية الأبرز في الحديث عن الوجودية، وهي قضية "الله خالق كل شيء"، ويُوْرِدُها الكاتب كمسلمة وحقيقة مثبتة لا تحتمل أي شك. كما يقول إنَّ أي بناء فكري يجب أن يُؤسَّس على حقيقة يقينية راسخة تصون هذا البناء الفكري من الهدم. ويستشهدُ الكاتب في ذلك بالفلاسفة القدماء -ومنهم أفلاطون، الذي سمى الله بـ"الصانع"، وغيره كُثُر: كأرسطو وديكاردت وفلاسفة المسلمين- ويقول إنَّ أغلب الفلاسفة أجمعوا على حقيقة خلق الله لكل شيء، ولم ينكر ذلك سوى فئة قليلة والتي تعرف بالملاحدة. وهنا قد نعتب على الكاتب كتابته لجملة عامة عائمة تقر بوجود غالبية من الفلاسفة المؤمنين، مقابل قلة من الفلاسفة الملحدين. فهذا القول يحتاج إلى دليل وبرهان وتجنب كتابة الجمل المطلقة للقارئ. فمن الواجب مده بالمراجع للحقائق التي نقدمها له، خاصة إنْ كُنا نقدم له مادة علمية مُحكمة.
عبادة الإنسان وعبادة المخلوقات
ينطلق الكاتب من الآيات القرآنية الكريمة التي ذُكرت فيها عبادة المخلوقات لله؛ كقوله تعالى: "وَلِلّه ِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً" (الرعد:15). فكافة المخلوقات تخضع لقدرة الله وهو القادر على فنائها وإحيائها إن شاء. والعبادة هي حق الله على مخلوقاته. وهي تحمل مفاهيم: الطاعة والخضوع والتذلل. وهي كذلك تحمل صنوفاً لا ندرك ماهيتها: كالتسبيح. فهو شكل من أشكال العبادة يقول عنه تبارك وجل: "وَإن مّْن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبّْحُ بِحَمْدَهِ وَلَكن لاَّ تَفقهون تَسْبِيحَهُمْ" (الإسراء:44). كما أنَّ العبادة تم ربطها في السياق القرآني بالصراط المستقيم. يقول الكاتب إنها تعني أقصر الطرق وأيسرها في الوصول إلى الغاية التي خلق من أجلها الإنسان. ويقول تفسير الطبري عنها إنها تعني: ألهمنا الطريق الهادي ومنهم من قال إنها تعني أسلكنا طريق الجنة في المعاد. وبين تفسير الكاتب وتفسير الطبري قرب في جوانب وبعد في جوانب أخرى، وجب وضعها أمام القارئ ليكون على بينة أن للآيات تفاسير مختلفة مكملة لبعضها ولا تناقض بينها.
أمَّا الإنسانُ، فهو يَتميَّز عن الكائنات الأخرى بخاصية القبول والرفض. فهي بالتالي تتيح له خيار الطاعة أو المعصية. ولكن وعي الإنسان بفضل الخالق وحقيقة قدرته تجعله محباً له، متذللاً في سبيل رضائه. فعبادة المحبة تستوجب الطاعة والخضوع والتذلل. وكما أنَّ للمحبة تفاوتا فكذا يتفاوت الناس في العبادة وتطبيقها.
شمولية العبادة
لا تقتصرُ العبادة على أفعال معينة؛ فهي تتعدا الصلاة والمفروضات الأخرى من مناسك حج وزكاة. فالعبادة فعل يشمل كافة جوانب الحياة كونها الغاية التي خلق الإنسان من أجلها. ويبرر الكاتب أن هذا المفهوم الشمولي هو من يجعل الناس يستفسرون عن كل سلوك: هل هو حرام أم حلال؟
وهنا لا أرى أن هذه ظاهرة صحية لنمر عليها مرور الكرام؛ فهي أمر جعل الناس يهتمون بالقشور وشتت جهود العلماء في إفتاءات بسيطة. كما أنَّها أسهمت في تعطيل ملكة التفكير لدى العامة لتوفر الخطوط الساخنة لاستقبال هذه الاسفسارات.
خلافة الأرض وعبادة المرء
يَرَى الكاتبُ ارتباطاً وثيقاً بين خلافة الإنسان على الأرض والعبادة؛ فالله هو من استخلف هذا الإنسان وأمره بعدد من الأوامر والنواهي التي عليه طاعتها، ويرى الكاتب أن هذه الأوامر تمثل العبادات.
قانون الطاعة الكوني
يفترضُ الكاتبُ أنَّ الغاية من خَلق المخلوقات -ومن ضمنها الإنسان- هي غرض العبادة والطاعة. ومن دُوْن هذه الغاية يكون الوجود البشري عبثيًّا ومخالفاً لقانون أطلق عليه الكاتب قانون "الطاعة الكوني". ولعمري لهو قانون جديد لم أسمع شخصيًّا عنه، ولم أجد أي معلومات علمية تؤكده أو تنفيه. وفي هذا القانون يقول الكاتب إنَّ مَنْ يعتقدون بعبثية وجودهم في الأرض دون وجود أي غاية تعبدية لحياتهم، إضافة إلى أولئك المشركين الذين لا يؤمنون بالله أو يشركون به بعبادتهم معبود آخر؛ فهؤلاء جميهم يؤدون إلى إضراب الوجود لإضراب معايير الخير والشر لديهم.
العبادة والحياة
وفي هذا، يُقسِّم الكاتب الحياة إلى: حياة الدنيا وحياة الآخرة. وفي الحالتيْن، فإنَّ الإنسان يظل عبداُ لله مع اختلاف واحد -حسب قوله- أنَّ الحياة الدنيا تكون العبادة فيها مرتبطة بالتكليف والابتلاء بينما الآخرة تخلو منهما. وفي كلتيهما يظل الإنسان عبداً عابداً لله.
العبادة تساوي الخير
لا يُحبِّذ الكاتبُ فكرة الفصل بين العبادة والأخلاق. فالعبادة هي مرادفة للخير؛ وبالتالي فهي ملازمة لكل فعل أخلاقي به صفات الكمال. ويرى أنَّ الشر هو وجه للمعاصي واتباع النواهي.
وَمِن مُنطلق هذه الفكرة، أتساءل عن تفاوت فهم المسلمين وتفاسيرهم؛ فنرى اليوم الكثيرَ من الجرائم ترتكب بنية فعل الخير للإنسان والإسلام. وقد تبنت عقول الكثير من العلماء بث أفكار تستند إلى فكرة الخير وتطبق العبادة الحقة، لنكتشف لاحقاً أنَّها ليست سوى وجه من وجوه الشر تدثر بعباءة العبادة وفعل الخير.
وجهة نظر
المتتبِّع لبناء المقال الذي تناولناه ها هُنا يجد أنَّه قد خلا من الحس الفلسفي الذي يدعيه. ومع كلِّ الاحترام لكاتب المقال، فإنَّ الفلسفة يغلب عليها التساؤل والتفكر، وما جاء في المقال غلب عليه الطابع التقريري الذي يُقر بحقائق عامة، مستنداً إلى الآيات القرآنية وبعض الأحاديث التي تُناسب رُؤية الكاتب من السُّنة. فتلك الأسانيد مُسلَّم بها أصلاً. كما أنَّه ابتدع قوانين كقانون الطاعة الكوني، دون أن يذكر الفرضيات التي أوصلته لصك قانون كوني كهذا!
ولعلَّنا اليوم في حاجة ماسة لفهم أسباب ضعف العبادة وليس فلسفتها وغاياتها الخيرة التي لانختلف فيها. وَهُنا أعْنِي أنْ نبحث ونتقصى في تراجع نتائج أدائها وقلة الخير الناتج عنها. فأنا أتفق تماماً مع الكاتب الذي ربط العبادة بالخير، ولكنه لم يتساءل: لماذا إنْ كان الناس يتحرون الحلال والحرام في كل فعل يفعلونه، نرى أن السلوكيات المجتمعية تبرز تفشي ظواهر الغش والفساد وسرقة الأحذية حتى من بيوت الله. وإن كان عدد المساجد والمصلين في ازدياد والحمد لله، فلماذا يقل الخير وينعدم السلام والأمن لدرجات مرعبة؟! وماذا يغنينا كثرة سؤال أهل الذكر عن الحلال والحرام إن كانت بلداننا المسلمة تعيش في رعب وخوف؟! وأصبحنا بكثرة السؤال هذا فرقاً شتَّى، يخشى بعضُنَا بَعْضًا.
وإن الله لفي غنى من عبادة لا تنهى عن الفحشاء والمنكر...،
