التكامُل بين الذوات جَوْهر الوجود الإنساني

مُحمَّد بن علي الكمزاري

يُمثِّل الغَيْر البُعدَ التفاعليَّ والعلائقيَّ في الوجود البشري الذي يُشِيْر إلى النمط الذي يُوْجَد فيه الإنسان، وتشترك فيه الذوات، وتترابط بعلاقات مختلفة. يُحِيل الغَيْر هُنا إلى "الأنا الآخر.. الذي ليس أنا". وهو يتَّخذ دلالته بالتقابل مع طَرَف آخر هو الأنا المشابِه والمختلف. ومن هنا، ينطلقُ الكاتبُ السوريُّ جميل حمداوي -ومن خلال مقاله "مفهوم الغير في الخطاب الفلسفي بين الالتباس والوضوح"، في إثارة مجموعة من الأسئلة التي تكشف الكثير من الغموض حول الغير ككيان مستقل يسند الأنا ويستند إليها في الوقت نفسه؛ فهو يبحث في مقاله عن مفهوم الغير لغة واصطلاحا، وهل وجود الغير ضروري للأنا؟ وما طبيعة الغير؟ وما هي علاقة الأنا بالغير؟ هل هي علاقة إيجابية أو سلبية؟ وهل علاقة الأنا بالغير قائمة على أساس المودَّة والصداقة أم على أساس التغريب والإقصاء؟

فمَفْهُوم الغيرية يَنْطَوي على أهمية قصوى؛ وذلك بسبب حالة الالتباس التي تميِّز الغير؛ فهو يتراوح بين المخالفة والمشابهة، إنَّه "الأنا الذي ليس أنا" بتعبير سارتر. وما يشير إلى أهمية العلاقة بين الأنا والغير في عصرنا الراهن، هو واقع العالم الذي أصْبَح مُهدَّدا بسبب تغليب منطق العنف والإقصاء، بدل الحوار والتسامح؛ حيث يوجد الغير في مقابل الأنا، ووجوده يشكل واقعا خارج إرادة الأنا، وهو ما يشكل تهديدا له حسب سارتر؛ حيث يعمل الغير على تشييء الأنا، وتحويله إلى موضوع، من خلال النظرة التي تجمُّد إمكانياته وتلغي عفويته وتلقائيته، تلك النظرة التشييئية تمثل تعاليا على الأنا وسلبا للذات. لكن الأنا وهو يوجد في مواجهة الغير يحاول هو الآخر الخروج من دائرة التشييء، ويفرض ذاته، ويثبت أنه ذات واعية وحرة ومسؤولة. هذا الموقف سبق أن عبَّر عنه هيجل في جدلية العبد والسيد؛ حيث يتواجه وعيان يحاول أحدهما إخضاع الآخر وإثبات أنه وعي حر ليدخلا في صراع من أجل انتزاع الاعتراف، هذا التهديد الذي يمارسه الغير يتمثل -حسب هايدغر- في إلغاء خصوصية الذات وتفرُّدها حين ترغم على التخلي عن وجودها الأصيل لتعيش في الوجود مع الغير الذي يعتبره الفيلسوف وجودا مزيفا، تتخلى فيه الذات عن حقيقتها لتصبح عبارة عن نسخة مشابهة لهم. يظهر الغير إذن على المستوى الأنطولوجي كسلب وتهديد للأنا، لكنه في الوقت نفسه يمثل شرطا ضروريا لوعي الأنا وتجاوزه لوضعيته التي يضعه فيها الغير.

المشكِل نَفْسُه يُطرح على المستوى المعرفي؛ فالانفصال الجذري -كما يسميه سارتر- يحول دون معرفة الغير لأنه مُختلف عني، ولأنَّ المعرفة تقتضي تحويله إلى موضوع أو شيء، وهو ما يلغي ذاته كوعي وحرية وإرادة. هكذا، فالوقوف عند مستوى الظاهر لا يُمكِّن من تكوين معرفة يقينية بالغير؛ لأنَّ الاختلاف بينهما يحول دون ذلك؛ فما يمكن أن أعرفه حسب مالبرانش هو ذاتي، أما ذوات الآخرين -وبالضبط نفوسهم وعقولهم- وما تتضمنه من مشاعر وأحاسيس وأفكار لا يمكن النفاذ إليها. ذلك أنَّ مُبرِّر التشابه ليس كافيا، بل إنَّه يُؤدي إلى معرفة خاطئة وظنية (تخمينية وافتراضية). لكن ميرلوبونتي يقترح حلا لذلك وهو التواصل باعتباره انفتاحا على الغير، وتجاوزا للنظرة التشييئية من جهة، وخروجا من التمركز على الذات وانغلاقها من جهة أخرى. إنَّ التواصل باعتباره انفتاحا للكائن من خلال التعبير اللغوي وحده قادر على إتاحة الإمكانية لمعرفة الغير لا باعتبارها علاقة بين ذات وموضوع، وإنما باعتبارها علاقة بين ذات وذات أخرى. إلا أنَّ هذه التجربة الذاتية -حسب بيرجي- ليست قابلة للنقل ولا للتبليغ؛ فهي محاطة بجدار من الحماية والخصوصية لا يمكن للغير أن يتجاوزه، بما في ذلك الأنا التي تعجز عن التعبير عن تلك التجربة الذاتية ونقلها للغير؛ مما يجعل الذات سجينة تجاربها الذاتية. لكن هوسرل يرى أن الاختلاف بين الذوات ليس مبررا للعزلة وللقول باستحالة معرفة الغير. فإذا كان هذا الأخير يختلف عني، فهو أيضا يشبهني وله تجارب تشبه تجاربي، وتشكل العالم الموضوعي بين الذوات، أو ما يسمى"البينذاتية". تبعا لذلك بإمكاني مشاركته تجاربه من خلال التوحد الحدسي معه، أي أن أعيش تجربته التي تتطابق مع تجربتي التي عشتها سابقا.

ورَغْم هذه المحاولات، تظل معرفة الغير غامضة غموض الذات الإنسانية. ولتجاوز هذه الغموض وأيضا تجاوز العزلة الأنطولوجية يقترح الفلاسفة بناء علاقات ذات أساس أخلاقي وقيمي وإنساني. وفي هذا السياق، يَدْعُو كانط إلى علاقة صداقة مع الغير، تقوم مقام الواجب الأخلاقي الذي يعكس الحبَّ والاحترامَ، الذي يُكنُّه الأنا لذاته وللغير وللإنسانية عموما، وكتعبير عن الإرادة الطيبة والعاقلة. هذا التكامل بين الذوات هو ما يُشكِّل جوهر الوجود الإنساني والذي لا يمكن أن يستمر -حسب كانط- إلا بسيادة قيم التضامن والتعاطف والمساعدة التي تجسد قيم العقل والوفاء للإنسانية التي لها فضل علينا، وأقل ما يمكن فعله هو رد جزء من هذا الفضل من خلال التضحية من أجل الغير والعيش من أجله، أو ما يُسمَّى بالغيرية.

ويتبيَّن من خلال ما سَبَق أنَّ الغير يتميَّز بطابعه الإشكالي؛ فوجوده ضروري، لكنه يُمثِّل عاملَ سلب للذات كما هو عامل إثبات، ومعرفته تتراوح بين الوضوح والإمكان، وبَيْن الغموض والاستحالة، كما أنَّ العلاقة معه هي الأخرى قائمة على الاختلاف والمغايرة، فالغريب موضوع الصراع، وهو الصديق موضوع الحب والاحترام والتضحية والعطاء. لكنَّه في جميع الأحوال يظل الإنسان الذي يشاركني الوجود، والذي لا غنى لي عنه. وهو ما يفرض بناء علاقة إنسانية قيمية أخلاقية تجمع ما هو عاطفي بما هو عقلي؛ لأنَّ الوجود البشري لا يمكن أن يستمر إلا باستحضار عناصر الوحدة والتشابه داخل التعدد والاختلاف والتركيب بينها؛ من أجل العيش المشترك. لكن إلى أي حد يعكس الواقع الإنساني الوعي بهذه الضرورة في ظل سيادة الأنانية والصراع والرغبة في التملك والهيمنة؟

"الغير هو آخر الأنا منظوراً إليه ليس بوصفه موضوعا، بل بوصفه أنا آخر". "الغير هو الآخر، الأنا الذي ليس أنا" (جون بول سارتر). يُميِّز سارتر بين الغير والآخر؛ فالغير يجب أن ينظر إليه كذات وليس كموضوع. إنَّه ذات أخرى مقابلة للأنا، وهي مطابقة له في آن واحد؛ لأنها ذات حرة وعاقلة ومريدة. أما الآخر، فهو أعم من الغير، فقد يشير إلى الغير أو إلى أي شيء من الأشياء. إنَّه يُشِيْر إلى كلِّ ما يُخالف موجوداً ما بوجه عام. إنَّ التمييز بين اللفظيْن في دلالتهما الفلسفية يُحِيلنا إلى عددٍ من المفارقات التي تتأطَّر في شكل ثنائيات تستدعي التساؤل.

ومن هذا المنطلق، بات من الطبيعي أن تكون العلاقة بين الأنا والغير قائمة على أساس من التفاهم والحوار والاحترام المتبادل، وليس على النبذ والصراع والعنف؛ وذلك لسبب بسيط هو أن الغير أنا آخر. ولكن الحوار بين الطرفين، في مُختلف تجلياته الفردية والمجتمعية والثقافية، ينبغي أن يكفل لهما معا حق الاستقلال والحفاظ على الهوية دون أن يسعى أي طرف لتذويب الآخر أو احتوائه.

أخبار ذات صلة