التعايش الديني ودوره في الازدهار الحضاري.. نموذج من القرن الرابع عشر

أسماء عبدالله القطيبي

في بَحْثِها المنشور في مجلة "التفاهم" ((المرحلة الثالثة منتصف القرن 14-1453.. معرفة أفضل بالإسلام ومقارعة على أرض الواقع))، تستعرض الباحثة اليونانية أنجليكي غريغوري زياكا نموذجاً فريداً من نماذج الانفتاح الفكري بين أصحاب الديانات السماوية، وهو نموذج يستحق الوقوف عنده، والاحتذاء به؛ لما يحمله من قيم نبيلة ومُثل عليا؛ حيث أدَّى غزو المسلمين لآسيا الصغرى وغرب أوروبا لاحتكاكهم المباشر بأصحاب الديانة المسيحية، ولمَّا أنْ كان المسلمون هم أصحاب القوة والغلبة -آنذاك- اختارَ المسيحيون نوعاً من الحماية لمعتقدهم وأتباعه بأنْ دَخَلوا في حوار مفتوح مع المسلمين، وقارعوهم بالحجج والبراهين؛ عِوَضا عن استخدام العنف.

جان كانتاكوزين -وهو أحد الأباطرة الذي حكموا الأراضي البيزنطينية خلال القرن الرابع عشر- تخلى عن منصبه بعد استيلاء العثمانيين المسلمين على الأجزاء التي يحكمها، واعتزل في الأديرة والجبال إلى أن توفي، وخلال عزلته تلك كتب عدة كتب هدفها الانتصار للدين المسيحي، وقد دوَّنها على شكل منافحات فكرية مُتخيَّلة باسم "مسلم اعتنق المسيحية وصار راهبا"؛ زيادةً في تأثير كتاباته على المسيحيين الذين كانوا يتداولون كُتبَه هذه فيما بينهم. وكانتاكوزين هو واحد من عِدَّة رُهبان ومتدِّينين مسيحيين احتشدوا خلال تلك الفترة لتأليف كُتب تهدف للنيل من الدين الجديد، الذي بدأ بالتغلغل في قلب العالم المسيحي، وتُحاول جاهدة إقناع بسطاء الناس من المسيحيين الذين كانوا يتساءلون: "لماذا تخلى الله عنا؟"، أن ما يحدث في أراضيهم هو ابتلاء من الرب ليس إلا؛ ممَّا جَعَل هؤلاء الرهبان ينتجون ثروة معرفية كبيرة، كشفتْ لنا العديدَ من الحقائق عن تلك الحقبة الزمنية. ولعل أبرز هذه الحقائق: مدى إلمام أصحاب الديانتين الإسلامية والمسيحية بدين الآخر؛ حيث كانت المقارعات الكتابية والشفهية تناقش مسائل اللاهوت وأصول العبادات، مثلما تناقش المسائل الفقهية عند المسلمين وأحكامها. كما كانتْ تذود عن مُعتقداتها، مستشهدة بالكتب المقدسة في دين الطرف الآخر. وهذه المعرفة الواسعة والمتبادلة دليلٌ على الأهمية التي كانت تولَى للدين كمكوِّن حضاري وثقافي لا يمكن تحييده، ولا نُبالغ في القول إنَّ الدينَ خلال تلك الفترات من تاريخ البشرية كان عاملاً أساسيًّا لنشوء أي تجمع إسكاني وتأسيس مجتمع. وبالطبع؛ فالسلطة كانت تتبع الدين ورجالاته لضمان بقائها. ولنا هُنا أنْ نتخيَّل صعوبة دخول دين جديد مُختلف -وليس مذهبا مغايرا- إلى بلد ما وفرض وجوده فيه. إنَّ هذا يجعل من رجال الدين في حالة استنفار تام، خاصة إذا ما أتى الدين الجديد بُمغريات لاعتناقه، وإذا ما سَعَى أصحابُه لدعوة البسطاء إليه بطرح الأسئلة التي لم تخطر على أذهانهم قط، وهو ما يَجْعَل السلطات السياسية أيضا في مأزِق صعب لم يحتمله بعضهم، كالإمبراطور كانتاكوزين الذي تخلى عن منصبه واعتزل الناس.

 وَرَغْم الصُّعوبات التي ذكرتها آنفا، فإنَّ هذا العصر الممتد لأكثر من ثلاثة عقود ضرب مثالا فريدا في التعايش بين أصحاب الديانات؛ فقد أسهمت الأدبيات التي كتبها رجال الدين المسيحيون في معرفة الناس بالدين الجديد؛ مما جعلهم أقل خوفا من الاختلاط بالمسلمين، وأكثر جراءة على طرح الأسئلة. بل إنَّ رهبانهم -بعد التعرُّف على الدين الدخيل- أصبحوا أكثر انفتاحا على الحوارات المباشرة والجدالات العلنية. وأضرب هنا مثالا مهمًّا لواحد من كبار الأساقفة يُدْعَى "الأماس"؛ حيث وقع هذا الأُسْقُف تحت أسر المسلمين، وتمَّ التنقل به في عِدَّة مدن، وخلال تلك الفترة -ورغم أنه كان تحت الأسر- إلا أنَّه كان طرفا في عِدَّة حوارات لاهوتية كان بعضها مع شخصيات مهمة، بل إنَّه كان يتعمَّد إقامة هذه المطارحات أمام الجموع، دون أنْ يَجْعله ذلك يتحفظ على نوعية المواضيع المطروحة. وعلى الطَّرف الآخر لم يجبر المسلمون أصحابَ الديانة المسيحية على اعتناق الإسلام قسرا، أو إيذائهم في دينهم والتعرُّض لدور عبادتهم، بل إنَّ التعايشَ بَلَغ بهم إلى حدِّ مُشاركة بعضهم البعض طقوس العبادة من باب التكافل الاجتماعي وواجب الجوار؛ فكان بعض المسيحيين مثلا يرافقون المسلمين في جنازاتهم، وكانت الصدقات تدور بين البيوت دون تمييز.

... إنَّ هذا النموذج الفريد في التعايش يَطْرَح سؤالاً مهمًّا نحن أحوج ما نكون لإجابته في عصرنا الحالي؛ وهو: كيف استطاع أصحاب الديانتين الوصول إلى هذا المستوى من التفاهم؟ من خلال تتبُّعي للنماذج التي قدَّمتها الكاتبة اليونانية زاكا في بحثها، أعتقد أنَّ الحوارات التي كانت تُدار بين الطرفين لم تكن تستند إلى أيِّ حكم مُسبق تجاه دين الآخر، بل إنَّها كانت اكتشافا أوليًّا له؛ وبالتالي فقد كان كلا الطرفين يملك رغبة صادقة في المعرفة، لا رغبة في الانتصار. وحين تحقَّقت هذه الرغبة أزالت الغموض والتخوف من الآخر، ومن إمكانية كونه عاملَ خطر في المجتمع. بل نَتَج عن التلاقح الفكري بين الديانتين حضارة مُزدهرة على كافة المستويات. وهو ما تفتقده الكثيرُ من مُجتمعات العالم المتحضِّر التي كوَّنت بفعل الإعلام وبعض الحوادث المتفرقة حُكْمًا مُسْبَقا تجاه دين أو مذهب معين؛ مما ولَّد الكره والخوف تجاه أصحابه قبل الاحتكاك بهم، وبسببه قامت الحروب وسفكت الدماء.

إنَّ العنفَ المتبادلَ بَيْن أصحاب الديانات والمذاهب اليوم ليس ناتجا عن تشدُّد ديني، وإنما هو رِدَّة فعل آتية من التأجيج العاطفي الذي يأتي من مَصَادر عِدَّة ليس أحدها الطرف المكروه. ولعلَّ الحلَّ يبدأ من الحوار الجاد الذي لا يستند إلى أي حكم مُسبق، ولا يهدف لإرغام الآخر على التنازل عن مُعتقداته؛ فالغموض يُولِّد الخوف دائماً، بينما المعرفة تفتح آفاقا للتشارك وقبولا للاختلاف، ولنا في هذه الفترة من التاريخ أُسْوَة حسنة.

أخبار ذات صلة