عبدالله العلوي
كان ولا يزال الإنسان محلَّ دراسة وبحث وتقصٍّ؛ سواء في كُنهه وتكوينه وحياته العامة، أو في أخلاقه وسلوكياته وحياته الاجتماعية والسياسية والدينية والاقتصادية...إلخ؛ فالحديثُ عن الإنسان هو حديثٌ طويلُ المدى لا يُمكِن إحصاؤه أو التوقُّف عنه؛ لأنك تتحدَّث عن كائن يتكوَّن من جسد وانفعالات وطبائع مُتجددة، وعقل يختلف من زمن إلى زمن آخر، وقد حاول الإنسان -ونخص الفلاسفة في جميع الحضارات- أنْ يَدْخُل ويتعمَّق في معرفة نفسه، إلا أنَّنا لم نجد ثباتا على رأي واحد، ود. مصطفى النشار في مقاله "رؤية الإنسان في الفكر اليوناني" -المنشور بمجلة "التسامح"- حاول أنْ يُبْرِز بعضَ التفسيرات لفلاسفة اليونان حول الإنسان، لكنه لم يستطع أن يلم بكل ما يخص الإنسان.
وقبل أنْ نشرع في الإنسان، نمرُّ سريعًا على سؤال مهم مشروع، وقد أحْدَث ضجةً في أوساط الفلسفة والديانات؛ ألا وهو: ما هو الإنسان؟ ويبدو أنَّ هناك اتفاقا لا بأس به بين الفلاسفة والعلماء على تعريف أرسطو للإنسان؛ فأرسطو يعرِّف الإنسان على أنه "حيوان ناطق"، رغم أنَّه توجد تعريفات أخرى بأنه الحيوان العاقل أو المتمدن أو المتحضر...وغيرها من التعريفات، إلا أنَّ ثباتنا على تعريف أرسطو يجعله شاملًا أكثر، ولا يقصد بالحيوان هنا أنه جنس من جنس الحيوانات، وإنما دلالته على أنه كائن حي، والحيوان لغة مأخوذة من الحياة، وقوله الناطق هو تمييز الإنسان عن بقية الحيوانات.
اختلفَ الفلاسفة على مرِّ التاريخ الإنساني والحضاري في تعيين أصل الإنسان، وقد انقسم فلاسفة اليونان إلى آراء مختلفة حوله؛ فمنهم من وجد أصله سمكة، أو أنه عاش في داخل سمكة، ومنهم من جعل العالم كله عبارة عن مجموعة من الذرات والإنسان يعد ذرة من ضمن هذه الذرات، ومنهم من جعل الإنسان سماويا روحانيا، وهو الرأي الذي يأخذ به فلاسفة اليونان الكبار؛ وهم: سقراط وأفلاطون وفيثاغورس، واتفق أرسطو معهم في المبدأ العام واختلف عنهم في تمييزه بين النفس الإنسانية وبين جسده، ولعل هذا هو رأي اللاهوتيين، يقول د. جورج الفار في مقاله "الإنسان ما بين الدين والفلسفة": "يقول اللاهوتيون إن ثلاثة أمور ميزت الإنسان عن بقية الحيوانات، وهذه الأمور لا يمكن أن تكون من منشأ أرضي مادي وواقعي، هي من منشأ سماوي إلهي مثالي؛ فالإنسان يتميز بالعقل والذكاء، وهو روحي الطابع ليس ماديًّا أو حيوانيًّا، ويتميَّز بحرية الإرادة عكس الحيوان الذي تسيره غرائزه، ويتميَّز بالمقدرة على الحب، ويمتلك شعورًا وعواطف، بينما الحيوان لا يمتلكها، وكل هذه الأمور توجد في الله: العقل والذكاء الأول، وصاحب الإرادة المطلقة، والمحب للبشر والمخلوقات"، ولم يقتصر الاختلاف على العصور القديمة فقط، حتى في العصور المتقدمة لا يزال هذا الاختلاف قائما؛ سواء في الوسط الفلسفي أو الديني أو الثقافي، ولا أدل على ذلك من نظرية داورين، التي أوقعت العلم في مُشَاكَلَةٍ مِنْ صَادٍّ ورَادٍّ لهذه النظرية. وفي مقابل كل هذا، لم يكن الدين الإسلامي بمنأى عن كل هذه الآراء؛ فقد جاءت آيات صريحة في أصل الإنسان رغم الاختلاف عن بعضها، فنجد آيات أن أصل الإنسان تراب، والأرض، وصلصل وماء، وحمأ مسنون، وحاول علماء الإسلام ومفسروه أن يجدوا مبررًا لذلك في ربطهم بين كل هذا، وقولهم إنه عبارة عن تطوُّر خلق الإنسان.
وفي مقابل كل هذا، تبقى الوظيفة الأساسية التي من أجلها يعيش الإنسان في هذا الكون، وأبرز رأي للفلاسفة في وظيفة الإنسان هو الرأي الذي يقول بأنَّ وظيفة الإنسان في الكون هي التأمُّل والتفكير، وهذا رأي يبدو أن له قبولا عند أغلب الفلاسفة على مر العصور، حتى الديانات السماوية توافق على هذا الرأي؛ فهناك نصوص في الكتب السماوية تدل على أن وظيفة الإنسان هي التأمل والتفكير. ولسنا بصدد ذكر تلك النصوص، ولكن من النظرة العقلية المحضة نرى أنَّ الإنسان لا يستطيع أن يصل إلى أي فكرة إلى بعد الإمعان والتفكير فيها، ثم يشرع في عملها، نضرب مثالًا على ذلك النار، كيف عرف الإنسان أن النار تحرق، وأنها يمكن أن يُستعان بها في الطبخ والإضاءة وغيرها؟ لا يمكن أن يكون ذلك إلا بالتفكير والتأمل.
ضِمْن هذا الاتفاق بين الفلاسفة حول وظيفة الإنسان، وَجَدنا أنَّ هناك اختلافا حادا في أساس هذا التفكير والتأمل أي المعرفة الإنسانية؛ فرأي يقول بأنَّ مصدر المعرفة الإنسانية هو العقل، ورأي آخر يرى أنَّ المصدر هو الحواس، ورأي يقف وسطًا بين هذا وذاك؛ فأما الرأي الأول فأصحابه يقولون بأنَّ العقل أساس المعرفة الإنسانية أي أنَّه هو الذي يُدرك الحقائق؛ فالحقيقة يتم إدراكها بواسطة العالم المعقول، وهو رأي يمجِّد العقل بشكل كبير، كما نجده جليًّا عند الفليسوف اليوناني أفلاطون؛ فهم وضعوا الحواس في مرتبة الخدم، وقالوا إنها خادمة للعقل. أما الرأي الثاني، فيقول إنَّ الحواسَ أداة مهمة للمعرفة الحقيقية، ويبرئ خطأ الحواس بأنَّه ليس منبعه الحواس، وإنما منبعه العقل الذي أعطى الحواس حكمًا خاطئا، والرأي الثالث -وهو الجمع بينهما- فأصحابه لا يعطون العقل أو الحواس السيطرة التامة، وإنما يجعلون الاشتراك بينهما في الوصول إلى المعرفة الإنسانية، ونرى أنفسنا عند الرأي الأخير؛ لأنه يقف وسطًا بين الرأيين، فلا يجعل العقل أساس المعرفة. وفي المقابل، لا يُمكن الاستغناء عن الحواس؛ ففيهما جميعًا تكتمل المعرفة الإنسانية؛ فدور الحواس هو دراسة الظواهر الطبيعية ودور العقل في إدراكه للمحسوسات ليتكون بذلك الأفكار والتصورات العقلية.
لم تكُن الأخلاق الإنسنانية بمعزل عن اهتمامات الفلاسفة اليونانيين أو غيرهم؛ فالنفس الإنسانية تتكوَّن من مشاعر وأحاسيس وخير وشر، وينتج عن هذا كله ردود فعل متفاوتة؛ سواء كانت إيجابية (الخير) أو سلبية (الشر)، ويبقى مصدر الخير والشر محلَّ بحث عند الفلاسفة؛ فمنهم من يجعل النفس الإنسانية أداة للخير والشر، ومنهم من يُرْجِعها إلى الإله، وهذا يعتمد بشكل كبير على قرب الإنسان من الإله، إلا أنَّنا نَرَى مصدرَ الأخلاق ينبع من النفس الإنسانية؛ فنفس الإنسان هي التي تدفعه لفعل الخير والشر، كذا الإنسان يستطيع أن يُميِّز بين الخير والشر؛ لأنَّ وظيفته هي التأمل والتفكر كما قلنا سابقًا، فإذا كان لا يستطيع أن يميز الخير والشر فكيف سمِّي حيواناً ناطقا، ووصف الأشياء بالخير والشر لا يُمكن أن يكون مُتفقا بين كل البشر، فما يجده إنسانٌ في الشرق خيرًا، قد يجده إنسان في الغرب أنه شر، والعكس صحيح؛ فمسألة الخير والشر مسألة نسبية، تختلف باختلاف المجتمع والعرف والعقائد والسياسية. ويقول سقراط: إنَّ الفضيلة واحدة، والرذيلة واحدة؛ فالصدق والأمانة والوفاء والحب كلها نابعة من الفضيلة، وهي واحدة وهذه مُتفرعة منها، كما أنَّنا نتفق مع رأي الرواقيين في قولهم إنَّ الأصل في الأحداث أنَّها خير، رغم أن ظاهرها شر؛ فالإنسان هو من يَصْنَع الخير وهو من يَصْنَع الشر.
إذن؛ فهم الإنسان في تفكيره وعقله وحياته من الأمور التي يصعب حصرها، فهي فلسفة عميقة جدًّا، وتحتاج إلى مُجلَّدات كي نفهم هذا الكائن الفريد من نوعه، وربما أتفق في أحيان كثيرة مع المبادئ التي جاءتْ بها الديانات السماوية حول تمييزها واحترامها للإنسان. ورَغْم أنَّ تطبيقات الإنسان حَوْل المبادئ جاء مُخالفًا، فإنَّ الرأي يقول أنْ لا ضرر على المبادئ ما دام أن تطبيقها جاء مُخالفًا عنها؛ فقتل الإنسان حرامٌ في كلِّ الشرائع الدينية، ولكن ما نجده مخالفًا عن الحقيقة، وهذا كله نابعٌ من الإنسان نفسه.
