عاطفة المسكريَّة
عِنْدَما نتمعَّن في الطبيعة الكونية -التي هِي من صُنع الخالق- نُدْرِك شيئاً من حكمته التي تنعكس على كيفية تنظيمها وآلية عملها. ولا ينحصر التنظيم حقيقة على المخلوقات العاقلة؛ فالنمل أو النحل من أبسط ما يكون مثلا لحشرات ومثلها سائر البهائم، عبارة عن كائنات تتبع غريزتها للعيش، على الرغم من كل تلك الدقة وذلك التنظيم الذي يُبهر البشر في كل مرة اقتربوا فيها لمتابعة سير حياة حشرة أو دابة ما.
فالمنطق يُشير إلى أنَّ الخالق لم يبعثنا مجردين دون قوانين ترشدنا لإدراك الغاية من خلقنا على هذه الأرض. هذه القوانين الطبيعية خلقتْ جدلاً حول حتمية وجودها من عدمه في مختلف الديانات لعدم سهولة الوصول إليها، خاصة إذا تعلق الأمر بالكائنات العاقلة؛ لأنَّ الإرادة تصبح حية آنذاك؛ حيث كانت هناك محاولات فهم وتفسير معمق للقوانين الطبيعية، ومدى مساهمتها في خلق النظام الكوني الحالي، خاصة في المسيحية لدى الكاثوليك بالتحديد. يذكر بعض هذه النقاط إميل أمين في مقالته بعنوان "الحق الديني والحق الطبيعي لدى الكاثوليك في العصور الوسطى"؛ حيث نادَى بابا الفاتيكان قديماً بأهمية إقرار احتياجات الطبيعة البشرية، على أنْ تُوْجَد هناك قوانين تنظمها، وإلا عمَّت الفوضى، كون البشر بحاجة إلى إشباع احتياجاتهم عند نقطة ما.
وهذا ما يحصل في المجتمعات التي تتجاهل كلَّ القوانين الممكن تجاهلها؛ ومن ضمنها: الشرائع الإلهية، خاصة تلك التي تنظم حاجات الإنسان كالزواج مثلا. ونتيجة لذلك، تسود الفوضى والعشوائية في العلاقات الاجتماعية؛ مما يخلق أنماطا أسرية غير مكتملة وغير مستقرة أو مفككة في الغالب. فالقوانين وجدت لتنظم سلوك الأفراد في المجتمع بشكل عام. وتتأثر القوانين منطقيًّا بالعوامل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية حتى تصبح واقعية وقابلة للتطبيق. وحتى قرون قريبة، كانتْ هذه القوانين مطبقة، إلى أنْ جاءتْ نداءات التحرير والعدل...وما إلى ذلك؛ لتشمل تحرير الأفراد من القوانين التي اعتبروها قيوداً تُكبِّل الحريات الفردية في تلك الفترة. فاتجه بابا روما -الرئيس الديني للكاثوليك- يدعو أوروبا للعودة لجذورها المسيحية والقوانين الطبيعية التي تُنظِّم حياة البشر، مُؤمنا بأنَّ اتباعها يؤدِّي إلى استقامتهم وتقدمهم. وعلى العكس من ذلك، فإنَّ إنكارها يحدث مأساة في النسبية الأخلاقية لدى الفرد منعكسا على المجتمع ومن ثم الدولة. وتكمُن أهمية الإيمان بذلك في أنَّ الفرد دائماً وأبداً يُشكِّل حجر الأساس في المجتمع؛ فصلاحه واتباعه للقوانين يُحدِّد قيام المجتمعات ومن ثم الدول، فالأمم والحضارات. فهذه التركيبة الاجتماعية مُترابطة، وتزداد سماكة كلما ارتفعنا إلى الأعلى، والعكس صحيح. فمثلا: يُعدُّ فساد الأفراد وغياب القانون الوضعي مُفسرا لفساد الحكومة أو الدولة لا مبررا لها؛ فالقوانين الأزلية التي قد تفوق عقلية البشر مع القوانين الطبيعية المنعكسة على المخلوقات ومع الشرائع الإلهية، كلها تندمج لتخرج لنا القوانين الإنسانية، والتي من المفترض أن تكون خالصة لتنظم احتياجات البشر أجمعين غير منحصرة على مَصَالح فئة مُحددة منهم؛ حيث إنَّ تحقيق ذلك يتطلب جهدا مكثفا وتفكيرا معمقا إلى أن يتم التوصل إليه. ونتيجة لذلك، ظهرتْ بعض التساؤلات حول كيفية فهم فكرة القانون الإنساني الذي قد يتوافق مع كافة الاحتياجات البشرية. وإنْ حَدَث، تُصبح طاعة هذه القوانين واجبة؛ لأنها حينئذ تؤدي لتحقيق الخير والصلاح. وقديما ظهرتْ مُدونة قانونية في بابل، لكنها كانتْ طبيعية إلى الحدِّ الذي لم تتوافق فيه مع الإرادة والعقل البشري، ومن ثمَّ تمكن الإغريق لاحقا من صياغة قانون يحترم الحياة المدنية والإرادة والإدراك البشري. فتوافقت مع النمط الاجتماعي العشوائي الذي كان معاشا في تلك الفترة. إلا أنَّ التنظيمَ الاجتماعيَّ الجديدَ الذي ظهر لاحقا -الدولة- احتكر جزءا من حرية أفراد المجتمع في سبيل تنظيمهم. وبعد أن قبلوا بذلك كان من الواجب عليها أن تحرص على خلق حياة مدنية جيدة تتوافق فيها القوانين مع احتياجات هؤلاء الأفراد، حتى ارتأتْ بعضُ الفرضيات أنَّ الحكم والسلطة المطلقة، وإن كانت في يد فرد واحد، لن تُؤثِّر، طالما أنه يميل لتحقيق رغبات من هم تحت مظلة الحكم هذه. فإحدى مهام الدولة حماية الإنسان من المخاطر الداخلية والخارجية؛ بما يكفل له العيش وممارسة القوانين الطبيعية المنظمة دون خوف. وهذا الانتقال من الحالة غير المنظمة إلى حالة أكثر تنظيما -الدولة- يسهل تحقيقه مقارنة بالسابق؛ فالواقعية تدعم ذلك حيث تعتبر هذه القوانين -التي تميل لخدمة حاجة الأفراد أكثر من تركيزها على السلطة التي تدير أمور هؤلاء الأفراد- غير مُجدية وأقرب منها للوهم. وقد منح ميكافيلي في كتابه "الأمير" الحاكمَ كلَّ السلطة للقيام بما يشاء من أمور، ولو لم تتوافق مع رغبات البشر الفطرية، وكأنه يعطي الحاكم سلطة تعلو على القانون. ومن جانب آخر أيضا، هُناك الأيديولوجية الاشتراكية التي هاجمت القوانين الطبيعية التي تجاري رغبات الأفراد؛ كون الاشتراكية من الأساس تهتم بتحقيق مصلحة الجماعة على مصلحة الأفراد في الغالب.
وعلى كلٍّ، ففي الواقع المتجسِّد حاليًا نجدَ أنَّ القانون الطبيعي يتعارض مع القوانين التي يتم صنعها من قبل الجماعات السياسية أو الجهة الواضعة للقوانين بشكل عام؛ بحجج تتعلَّق بعدم إدراك البشر لمصالحهم، أو بحجة تحقيق أهداف ومصالح بعيدة المدى. فرُبَّما لذلك أصبحنا عاجزين عن الوصول لخط النهاية لكل هذه الخلافات والحروب الطاحنة؛ لأنَّ الوضعَ الطبيعي يتطلَّب الإشارة إلى القانون الطبيعي عند وضع أيٍّ من القوانين، مع مراعاة حرية الأفراد بشكل معقول؛ بحيث يتم تحقيق العدالة الاجتماعية والسياسية بما يتوافق مع الاختلافات في كل بقعة. فالذي قد يتوافق مع الثقافة والحياة الاجتماعية لمجموعة ما قد لا يتوافق مع أخرى. على الرغم من وجود بعض الفلاسفة الرومانيين الذين كانوا يؤمنون بأنَّ هناك قوانين وضعية تراعي واقع الإنسان وقابلة للتطبيق على كل البشر، لقيت هذه النظرة بعض القبول، إلا أنَّه تبقى الفكرة العامة أنَّ التطبيقَ الصحيحَ للقوانين الوضعية المستمدة من القوانين الطبيعية أيًّا كانت ولأيِّ فئة تكون، سوف يقود إلى الخير في كلِّ مكان؛ وسينعكس ذلك على الصورة الكونية الكبرى.
