فيلابوراتو عبد الكبير (باحث ومستعرب هندي)
قبل نصف قرن تقريبا حين كنت طالبا في المدرسة الابتدائية كان لنا كتاب إضافي بحجم صغير للقراءة فقط خارج المنهج الدراسي والامتحان. كان ذلك الكتاب سيرة حياة "كاستوربا الغاندي" زوجة "موهان داس كارم تشند الغاندي" صاحب مبادئ اللاعنف والقائد الكبير الذي كان في مقدمة حركة استقلال بلادنا ضد الاستعمار البريطاني، وصورة كاستوربا الأم المتوترة في الكتاب لا تزال مجسدة في ذهني لما فوجئت بلقاء ابنها "هاري لال" في إحدى محطات القطار وهي ترافق زوجها الغاندي في سفره للمشاركة في اجتماع يعقد بمناسبة مظاهرة احتجاجية ضد قوات الاستعمار البريطاني. كان بين "هاري لال" ووالده الغاندي خلافات حادة. هاري لال لم يستطع أن يتفق مع مبادئ الغاندي التي يحاول فرضها إجبارا على جميع أعضاء أسرته.
تمرد على سلطة الغاندي الأبوية في بيت الطاعة. أراد قصاصا من أوامره ونواهيه وتعاليمه المرهقة التي يختنق بها داخل البيت، صار عصيا للغاندي بل ترك الديانة الهندوسية التي تنتمي لها أسرة الغاندي وتجرأ لاعتناق الإسلام وبدل اسمه "عبد الله الغاندي". كان الغاندي الوالد يدري أن تبديل ديانة ولده لم يكن من صميم قلبه بل مشاغبة احتجاجية فقط، ولذلك حذر المسلمين في حزب "رابطة المسلمين" بقيادة محمد على الجناح، الذين احتفلوا بهذا الحدث بعقد حفلات استقبال لابنه المتمرد؛ حذرهم أن لا يقعوا في فخه.. بين الزوج وابنه ظلت الأم كسمكة رماها البحر إلى الشاطئ ترتجف بقلق بالغ. الأم على كل حال أم رؤوم نحو ابنها. و"هاري لال" كان يحب والدته حبا جما ولو كان يكره والده، ولذا هرول إلى المحطة لإلقاء نظر على والدته العزيزة حين عرف أن القطار يمر بتلك المحطة. وقف بمسافة من شباك القطار وهو يظل ينظر إلى "كاستوربا" حيث تبادلت النظر إليه صامتة، أمّا الغاندي الوالد فلم يلتفت إلى ابنه "الضال" رغم الإشارة من كاستوربا إليه. اغرورقت عينا تلك الأم. حين قرأت هذا المشهد رأيت بحرا زاخرا في أعماق قلب كاستوربا المتوتر الذي يتذبذب بين ابنها الحبيب وزوجها المحترم.
وبعد تجاوز مرحلة المراهقة قرأت لغاندي وقرأت عنه كثيرا. قرأت عددًا من سيرة حياته، منها ما كتبه "بيارى لال" و"ديشاي" وحفيده "راج موهان الغاندي" ومن الذين أضافوا إلى مكتبة السيرة تلك روسكين بوند (Ruskin Bond) و"ساروجيني نايدو" و "دومينك لابير (Dominique Lapierre) و" خوشوانت سينغ" و"نايبول" (V. S. Naipaul). كتب مكتوبة من وجهات نظر مختلفة شاملة انتقادية. ولكن قلما ظهرت فيها صورة زوجته كاستوربا، الظل الذي لازمه طول حياته، المرأة المتوترة التي التصقت بذهني فترة المراهقة، والتي تحملت كثيرا في حياتها الزوجية، وقرأت أيضًا كتبا كتبها الغاندي نفسه مما أبرز عظمته الشخصية ومبادئه السامية ومواقفه الصارمة، وكان منها ما يكشف عن بعض غرابة أطواره. فمثلا في آخر حياته الزوجية بعد أن أنجبت له زوجته أولادًا نراه ينزوي بعيدا عن العلاقات الزوجية بهجر زوجته كاستوربا كالمعلقة في مضجعها محاولا أن يكبت شهواته الجنسية. وفي التاريخ عظماء كثيرون فشلوا في حياتهم الزوجية مثل تولستوي وسقراط، فهل كان الغاندي راسبا في حياته الزوجية؟ وكل إنسان ملعون بضعف ما. هل كان الغاندي العظيم خاليا من نقاط الضعف؟ أين مكان "كاستوربا" الحقيقي في حياة الغاندي؟ هل كانت تتمتع بشخصية قوية، أم كانت مجرد ظل تلازم زوجها الغاندي؟ أسئلة تدور في خلدنا حين نقرأ عن الغاندي في كتب كتبها رجال. وكلما أقرأها كنت أبحث فيها عن "كاستوربا" ولكن لم يحالفني الحظ بها حتى الآن.
وفي شهر مارس الماضي حين قضيت في غرفة عناية القلوب المركزة بعد عملية "ترقيع أوعية القلب" (Angioplasty ( زارتني "كاستوربا" في شكل كتاب كتبته كاتبة هندية يختلف بعدة وجوه عن الكتب التي كتبها رجال عن الغاندي "العظيم". فكما لكل عملة وجهان لكل شخص وجهان. ووجه الغاندي الآخر المتسم بالسلطة الأبوية يتضح جليا في كتاب الكاتبة "نيليما دالميا آدهار بعنوان "مذكرات كاستوربا السرية". لم يكن خافيا على أحد أن كاستوربا لم تكتب مذكرات في حياتها. إذن هل هذا كتاب قصة خيالية؟ نعم ولكن إلى حد ما فقط. وإلى حد كبير هو مبني على حقائق تاريخية تدور حول أشخاص عاشوا تلك الحقبة الحاسمة. الجهد الجهيد الذي بذلته الكاتبة في البحث عن المعلومات واضح وضوح الشمس في كل صفحة من صفحات الكتاب. إنّما اختارت نسيجا خاصا لسرد سيرة امرأة أهملها الكُتّاب الرجال.
الكاتبة نيليما آدهار هي ابنة الصناعي الكبير آر. ك. دالميا الراحل. منذ أن نشرت في عام 2003 كتابها الأول عن والدها بعنوان "آر. ك. دالميا حياته وزمانه" تمكنت من الاستيلاء على مكانة خاصة بها في قائمة مؤلفي الكتب الأكثر مبيعا. وقرابة صلتها بدالميا كابنة لم تمنعها من الكشف عن بعض الجوانب السرية في حياة والدها. وفي عام 2007 أضافت لونا آخرا إلى عالم كتابتها برواية موسومة بـ "تجّار الموت" هكذا تنوعت كتابتها تجددًا وتوسعت قاعدة قرائها، خريجة إحدى الكليات في دلهي بتخصص في موضوع "الشخصية" التحقت بجامعة دلهي كمدرسة سيكولوجية، كان علم النفس مفتاحا في يدها للخوض في أعماق نفوس شخصيات تاريخية هامة، تقول نيليما إنّها حاولت أن تكتشف شخصية تاريخية نسوية قوية فلم تجد إلا كاستوبا. هي شخصية منسية يجب إخراجها من غيبوبة الحس الجماعي الهندي. قبل أن تبدأ الكتابة قامت ببحث طال مدة سنتين في جمع المعلومات المتعلقة بسيرة المذكورة. ولكن المصادر الوثائقية التي تتعلق بسيرة حياة كاستوربا كانت نادرة جدا. فم تكن أمام نيليما إلا المعلومات الشفوية المتوفرة لدى الذين عاشوا أحداث الحركة الاستقلالية. وكان من أهم تلك المصادر آرون الغاندي حفيد كاستوربا "وحفيدتها" سوناندا الغاندي. واعتمدت أيضا على كتاب الغاندي نفسه "تجاربي في البحث عن الحقيقة" الذي سبق ذكره أعلاه. تقول نيليما إنّ اعترافات الغاندي الصريحة في ذلك الكتاب ساعدتها كثيرا في تصوير شخصية كاستوربا في إطارها الصحيح بدون أي حجاب، وحيث إنّ أسرة الغاندي تعتقد أن أي شيء صريح وغير سري ليس فيه ذنب، دفعها بجرأة في الكشف عن بعض البواطن من سيرة تلك المرأة الأسطورية. وبما أنّ السيكولوجيا كان موضوعها في الجامعة وأنّ مراقبة الناس كان من هوايتها المفضلة، كان طريق الدخول إلى تحليل نفسيات كاستوربا سهلا لها جدا. تقول الكاتبة إنّ جميع المعلومات التاريخية والأحداث والأشخاص المصورة في الكتاب صحيحة وحقيقية. "لما دخلتْ كاستوربا في مخيلتي ودخلتُ أنا في أعماقها، تشكلت في قالب متعدد الأبعاد كما شاءت هي وكما شئت أنا." ورب قائل يقول لو أن كاستوربا كتبت مذكراتها لما كانت إلا على هذه الشاكلة. "إن كاستوربا التي تخصني لا ترغب أن تحجز مقعدا لها بقاعة المشاهير الجوفاء كما هو حال زوجها، إنّما تحاول أن تؤنسن زوجها وتحصل على قطعة من السماء التي حرمها منها الرجال الذين كتبوا التاريخ". هكذا تبرر الكاتبة نيليما موقفها من تصوير كاستوربا حين جعلتها تكتب مذكراتها السرية.
يبدأ الكتاب من مشهد ترقد فيه كاستوربا على سرير موتها ثم تتنقل في شكل رائع إلى طفولتها وحفلة زواجها المبكر المفعم بالرومانسية ثم إلى حياتها الزوجية الخشنة وأمومتها المرهقة. حين تزوجها الغاندي كان عمرها ثلاث عشرة سنة فقط؛ كانت ضحية التقاليد الفاسدة في تلك الزمان. ماذا كان مكانها في بيت الغاندي؟ فلنقرأ ما تكتب كاستوربا في مذكراتها:
"تلك الليلة تجرأت أن أتحدث مع موهان داس الغاندي: أنت مندهش بما حصلت من التربية الإنجليزية، لا يوجد عندك أي احترام نحو إخوتك وعائلتك، هل لي أن أذكرك بواجباتك نحو عمّيك. هل نسيتَ أن عليهما الآن ديونا بالغة في حساب تكاليفك الدراسية في لندن؟ وقد أصبحا الآن عاطلين. هل عليك مساعدتهما الآن؟ أنت محب لذاتك فقط. موهان داس كيف أفهمك؟ لا أريد أن أتمتع بالتعليم. خلي سبيلي. قلتُ له الكلام الذي أردت أن أقوله....... بالنسبة لـ "موهان داس" كنتُ مجرد ألعوبة في يديه، ألعوبة حيوية يلعب بها كما يشاء، وبعدها سأعود إلى حالتي كجارية له ليست لها أي حرية فكر ولا احتجاج. ذات صباح كنت أرافق "بوتلي باي" في زيارتها المعتادة إلى المعبد، ومن داخلي ارتفعت قوة تحدٍّ، وكنتُ لم أستأذن لذلك من الغاندي، قد توقفت عن ذلك منذ فترة، حاولتُ أن أدفع نفسي عن هيمنته المتغطرسة المفروضة علي. طبعا كما توقعتُ، انفجر غضبا. كانت نتيجته الحتمية مزيدا من القيود المتشددة عليّ. لكن بلا تأخير أدرك أن كاستوربا لا تخضع له بسهولة. وفي النهاية ترك إصراره وتصالح معي وعادت الأمور إلى حالتها الطبيعية."
- جنوب إفريقيا خلال نضال الغاندي على سياسة سلطة البيض العرقية ضد المواطنين السود رغب أن تقف زوجته بجنبه احتجاجا على تلك القوانين الجائرة التي تفرق الناس بناء على اللون كما تمنى أن تكون مرافقة معه في السجون. "لم يكن أذنا صاغية لما أقول له، كل محاجاتي ضرب بها عرض الحائط، قائلا لي: قد حان الوقت أن تنهض النسوة وتثور على السلطة التي تهينهن وأولادهن، وعليهن أن يتعرضن أنفسهن للاعتقال، إن واجهت يا كاستوربا أي معاملة سيئة من سلطة الزندان لك أن تضربي عن الطعام حتى الموت، فإن مت في تلك الظروف في السجن سأعبدك كآلهة قديسة". فلم يكن لها ملجأ إلا أن تقف واجمة أمامه. وكان للغاندي مبادئ خاصة في تربية أولاده. التزم بأن تتم تربيتهم داخل البيت دون الذهاب إلى المدارس العامة، وهذا الموقف هو الذي أدى بولده الكبير هاري لال إلى التمرد عليه والخروج من البيت في النهاية. حاولت كاستوربا إقناع زوجها بالنتائج الوخيمة التي قد تترتب على هذا الإهمال من جانبه نحو أولاده حتى أظهرت غضبها نحوه ولكن بدون جدوى. ونرى الغاندي نفسه يعبر عن ضميره المذنب فيما بعد في رسالة كتبها إلى أحد أصدقائه هكذا: لا أدري أي شر يسكن في داخلي. وفي أعماقي وحش يكلف الناس ما لا طاقة لهم به لأفراحي". عاشت كاستوربا بقلب مجروح بين أولادها المقيدة حريتهم تحت سلطة والدهم الاستبدادية.
كانت للغاندي علاقات مع رجال ونسوان، أثار بعضها زوبعات، خاصة علاقاته مع "سارالا ديوي" أحد تلامذته. لم تحاول نيليما إدلاء سدال على هذه الوقائع في مذكرات كاستوربا؛ بل أوردتها كلها بصراحة وتفصيل.
ماذا كان دور كاستوربا وموقفها كوالدة من ولدها الكبير "هاري لال" المنشق عن والده الغاندي. كتبت كاستوربا هذا الجزء من مذكراتها بعبرات عينيها؛ وتنكسر القلوب الرقيقة التي تقرؤها. ومرة ثانية التقيت بهاري لال في "مذكرات كاستوربا" بعد أكثر من نصف قرن من قراءة كتاب عن كاستوربا المخصص لدراستنا الابتدائية. وجدت الأم نفس الأم المتوترة بين ولدها ووالده، القطبين الذين لا يلتقيان أبدا. ولدها كان صارما في مواقفه تماما كوالده. نراه يرفض استلام رسالة باسم "هاري لال" من ساعي البريد قائلا إن اسمه عبد الله ليس هاري لال. حاولت كاستوربا قدر وسعها الحفاظ على التوازن بين ولدها المتمرد ووالده المستبد. وجهت التهمة نحو الغاندي كما اتهمت نفسها في انحراف مصير ولدها. بالرغم من احترام كاستوربا الشديد لزوجها الغاندي والتزامها بالقضايا التي رفعها، لم تتردد أن تصف بعض مواقفه في شأن ابنه هاري لال بأنها همجية وظالمة. "كيف يستطيع لوالد أن يعامل ولده بهذا الفرط من التوحش والعنف بينما ينشط نفوس آلاف من الجمهور برسالته السلمية ومبادئه اللاعنفية؟ "تسأل كاستوربا في مذكراتها ولكن في نهاية المطاف تضطر إلى أن تخضع تحت قدميه كأي امرأة تقليدية في الهند. فنجد مسرحية "راما" وزجتها المهملة "سيتا" في ملحمة "رامايانا" تتكرر مرة أخرى في لوحة أسرة الغاندي.
- الغاندي يقول بالعلاج الطبيعي ضد استعمال الأدوية الحديثة، وفي عام 1944 عندما كانت كاستوربا على سرير الموت حاول هاري لال أن يعطيها دواء "بينسلين" لتسكين آلامها ولكن الغاندي لم يسمح به. كان موقفه صارما في مثل هذه الأمور.
تقول الكاتبة: "كاستوربا تعيش وتتنفس وتتحدث من خلال هذه الصفحات تماما مثلي أنا لو كنت مكانها. أرجو أن يتسلل معي كل واحد من الجيل الناشئ الهندي وباقي العالم إلى هذا المكان وأن نعيش من جديد حكاية هذه الظاهرة النسوية الأسطورية التي تتجاوز جميع الحدود وتبعث من جديد في صفحات مذكراتها."
هل يقلل هذا الكتاب من قامة شخصية الغاندي ومكانه الفريد في تاريخ حركة استقلال الهند؟ أعتقد أن الغاندي رغم كل ضعف إنساني يعاني منه، سيبقى عملاقا ونبراسا يلقى الضوء على درب جيل المستقبل في الهند. ولأي أحد أن ينتقد موقفه من فرض القيود المشددة على عائلته، وتحوله إلى العزوبية بالرغم من زواجه بكاستوربا والتزامه بالعلاج الطبيعي بلا هوادة، وكراهيته للصناعات الحديثة، لكن سياساته المبنية على القيم ترفعه إلى مقام سام بلا مساو له في عصرنا هذا. إنّ الهند المعاصرة المليئة بالكراهية الدينية والعصبية العمياء تبحث عن غانديها من جديد.
----------------------------------------------------------
اسم الكتاب: Secret Diary of Kasturba
اسم المؤلفة: Neelima Adhar Dalmia
عدد الصفحات: 393
لغة الكتاب: الإنجليزية
الناشر: Westland
سنة النشر 2016
