لسيرين أدلبي
إغناثيو فيراندو
أستاذ وباحث في جامعة قادس (إسبانيا)
استلهاما من التيارات الفكرية المناهضة للاستعمار التي تطورت في السنوات الأخيرة في أمريكا اللاتينية على يد المُفكر البويرتوريكي رامون غروسفوغل وأمثاله، تقدم الكاتبة والناشطة الإسبانية السورية الأصل سيرين أدلبي السباعي عملا مثيرا للجدل تنتقد فيه كافة الحركات النسوية سواء المنتشرة منها في العالم الغربي وتلك الشائعة في العالم الإسلامي التي لا تخرج في حقيقة الأمر، على حد قول سيرين أدلبي السباعي، عن كونها تقليدًا للنماذج الغربية، على اعتبار أنها لا تزال محبوسة فيما تسميه المؤلفة "سجن النسوية"، أي، الاستمرار في اتباع النماذج والقوالب المعرفية والإبستمولوجية التي فرضها الاستعمار الغربي على أنحاء واسعة من الكرة الأرضية والتي يصعب على المجتمعات المستعمَرة التَّحرر منها. وإجابة عن سؤال كيف يُمكن كسر القيود التي تمنع المجتمعات العربية والإسلامية من صياغة حركة نسوية حقيقية وفكر أصيل، تقترح المؤلفة تفكيك كل المنتجات الثقافية الاستعمارية والعودة إلى مبادئ الإسلام الموحد الأصيل الذي لا يتناقض مع روح النسوية والمساواة بين الجنسين والذي يقدم نموذجا ونمطا حياتيا يؤدي لا محالة إلى صياغة فكر لا يعتمد على الهيمنة العالمية وعلى استغلال موارد وثروات الغير.
لماذا تريد امرأة ترتدي الحجاب الإسلامي إعداد أطروحة الدكتوراه؟ من هذا السؤال، الذي وجهه أستاذ جامعي إسباني إلى المؤلفة حينما التحقت بسلك الدكتوراه في جامعة مدريد المستقلة عام 2006، ينطلق هذا الكتاب. ففي هذا السؤال تكمن من جهة الرؤية الدونية إلى الآخر، في هذه الحالة إلى امرأة مُحجبة، باعتبارها كائنا سلبيا ومخفيا غير مؤهل للقيام بدراسة علمية موضوعية، ومن جهة ثانية يكشف السؤال الموقف التسلطي من الناحية الثقافية الذي يتخذه الرجل الأبيض الغربي الذي يتحدث من على منبر الخلفية العلمية الغربية الذي يفترض أن يؤهله للقيام بدراسات علمية موضوعية وفرض آرائه ونماذجه الفكرية على العالم بأسره. وليس هذا إلا انعكاس للإطار العام الذي تسميه المؤلفة "النظام العالمي الحديث المستعمِر الرأسمالي العنصري الإمبريالي الأبوي الأبيض العسكري المتمحور على الغرب والمسيحية"، وهو نظام يرتكز إلى خطاب ثنائي ينطلق من فكرة تفوق الغرب غير المشكوك فيه على ما سواه من مناطق العالم (ثلثيه على وجه التقدير) مع تقسيم الشعوب القاطنة في المعمورة إلى قسمين متناقضين: الغرب ضد الآخر وما هو عادي ضد ما هو غير عادي وما هو متقدم ضد ما هو متخلف وما هو ديمقراطي ضد ما هو غير ديمقراطي وما هو حديث ضد ما هو تقليدي وما هو تقدمي ضد ما هو تراجعي. فقد نجح هذا المنظور الاستعماري في التفرد بالحق في دراسة وتعريف العالم وتمييز ما هو إيجابي ومستحسن عما هو سلبي وغير محبذ، والنظر إلى الثقافات والحضارات غير الغربية على أنها في حاجة إلى التقدم باتجاه محاكاة الأساليب والمعايير السائدة في الثقافة الغربية. ونتيجة لذلك تكرست في البلدان المسماة بالمتخلفة عقدة الدونية وانتشرت فيها فكرة تقول إنه لا سبيل إلى التقدم إلا عبر الاحتذاء بالحضارة الغربية حذو النعل بالنعل بما يعني ذلك من إهمال خصوصيات كل الثقافات الأخرى وإقصائها. يضاف إلى ذلك أن معظم المفكرين المنتمين إلى البلدان غير المتقدمة باتوا ينظرون إلى أنفسهم بعيون الغرب المهيمنة ويطبقون في تحليلاتهم ودراساتهم، دون وعي منهم في بعض الأحايين، المعايير والمناظير الأوروبية، وكأنهم تحولوا إلى كائنات لا وجود لها ولا استقلال فكري لها بما يترتب عن ذلك من إنكار الذات غير الغربية وتحريمها من التعبير عن نفسها. هذا هو السجن الإبستمولوجي الذي تصفه المؤلفة حيث لا صوت لمن لا يتبع الخطابات الغربية ولا حرية لمن لا صوت له.
تقوم المؤلفة في البابين الثاني والثالث من كتابها بتحليل الحركة النسوية التي أطلقت عليها اسم نسوية ما بعد الاستعمار ونسوية العالم الثالث، من بين مسميات أخرى. فكل هذه الحركات الفكرية تنتقد بشدة النسوية البيضاء الأوروبية والأمريكية باعتبارها آلية لتمديد الاستراتيجيات الاستعمارية والنظر إلى المرأة في الثقافات الأخرى بعيون الغرب، مع تطبيق أنماط معرفية عليها تستند إلى مفاهيم الثقافة الغربية التي تحتكر حق الكلام باسم الآخر ليس فقط في مجال الشؤون النسوية، بل أيضاً في بقية المجالات الفكرية والثقافية. وأمام هذا السجن المعرفي، لا يوجد للنسوية الإسلامية المعاصرة وللفكر الإسلامي المعاصر على العموم مخرج إلا عبر مراجعة وإعادة بناء الكيان الشخصي. إلا أن التيار الفكري الإسلامي في السنوات الأخيرة لم يستطع التحرر من ثنائية التقليد/ الحداثة التي هي آلية استعمارية تهدف تحت ذريعة بعث تثقيف العالم إلى تجنيس التنوع الاجتماعي والسياسي والثقافي والإبستمولوجي واللغوي في العالم عبر إسكات التعدد والاختلاف. وهذا ما أكد عليه المفكر طه عبد الرحمن في بعض أعماله حينما يقول إن الحداثة لا بد أن تكون داخلية إذ إن الحداثة الخارجية المعتمدة على الغير ليست إلا محاكاة لحداثة أخرى وخلاصته أن الفكر العربي والإسلامي لم يصل بعد إلى مرحلة هذه الحداثة الداخلية. أما تيارات الإصلاح الإسلامي فبالرغم من سعيها إلى إنشاء مشاريع إسلامية تقاوم الهيمنة الغربية، فإنها لم تتمكن من التخلص من الديناميكية الثقافية والحداثية والليبرالية الغربية، مما أدى إلى تحويل هذه التيارات إلى تعبير عن فكر عربي إسلامي مستعمَر انعكس في نشوء دول الأوطان العربية التي اندرجت في هيكلتها وتنظيمها في الأطر الرأسمالية والعلمية التقنية الغربية مع كل ما قامت به الأنظمة السائدة من استخدام الإسلام كوسيلة وآلية لخدمة السلطة.
لعل من أهم صفحات الكتاب هي تلك التي خصصتها المؤلفة لمناقشة مصطلح ومفهوم "النسوية الإسلامية"، التي اعتبرتها بعض المفكرات الإيرانيات تناقضا في حد ذاته، مما أدى إلى إثارة جدال حاد وطويل بين من يعتبر الإسلام متناقضا مع النسوية وبين من يرون إمكانية وجود حركة نسوية إسلامية. تذكر المؤلفة الفوضى الاصطلاحية التي تسود المشهد، فهناك من يستخدم تعبير "النسوية الإسلامية" للدلالة على الحركات النسوية العلمانية الموجودة في المجتماعات الإسلامية والتي تسير على منوال مثيلاتها الغربية في مواقفها وآرائها وأهدافها، وهناك حركة أخرى عابرة للأوطان تدافع عن فكرة مفادها أن المساواة بين الجنسين أساس من أسس الديانة الإسلامية وأن رسالة القرآن الكريم جاءت لتضمن حقوق النساء. صحيح أن هناك بعض المفكرات العربيات المشهورات مثل نوال السعداوي ووسيلة تمزالي اللتين ترفضان وجود النسوية الإسلامية لأن المساواة لا وجود لها في الأديان التي تنظر إلى المرأة باعتبارها كائنا دونيا. غير أن معظم الحركات النسوية الإسلامية تندرج في مكافحة مزدوجة ضد الرُهاب من الإسلام أو الإسلاموفوبيا من جهة والنظام الأبوي العربي، وخصوصا بعد أحداث الحادي عشر من أيلول عام 2001 وما تلاها من عمليات إرهابية متكررة في مختلف أنحاء العالم. وقد اتخذ ممارسو الرهاب من الإسلام شخصية ما سميت "المرأة المسلمة المحجبة" كنموذج سلبي ومقموع لتخلف فكر العالم الثالث والإسلامي، وبدأت وسائل الإعلام عبر نشر هذه الصورة بصفة متكررة ببناء خطاب يبسط تعدد ظروف المجتمعات الإسلامية وحقائقها مع تقديم الإسلام ككتلة أحادية لا حراك فيه ولا تنوع. وهذا هو ما برر مشاريع "تحرير" و"إنقاذ" النساء المسلمات في أفغانستان على سبيل المثال.
وفيما يخص مكافحة النظام الأبوي العربي، تستعين المؤلفة بأعمال المفكرة المغربية فاطمة المرنيسي التي تفرق في كتابها "الحريم في الغرب" بين النظام الأبوي العربي الإسلامي والنظام الأبوي الغربي، وتؤكد وجود فرق بين صور وتمثيل النساء المسلمات في المخيل العربي الإسلامي والمخيل الغربي. ومن أبرز الأمثلة الدالة على ذلك تصوير شخصية شهرزاد، بطلة ألف ليلة وليلة، في الرسومات والمكتوبات الغربية التي تميل إلى إبراز دورها السلبي والإروتيكي والرومانتيكي، في حين أن الجوانب المهمة لشخصية شهرزاد من المنظور الإسلامي هي قواتها التحريرية وتمكنها من إقناع الملك بعدم قتلها وقتل النساء الأخريات بمحض قصصها اللامتناهية ومستواها الثقافي المرتفع الذي يسمح لها بالتفوق على الرجل. إلا أن المرنيسي، حسب رأي سيرين أدلبي، لم تأخذ بعين الاعتبار أن النظام الأبوي العربي التقليدي تم استعماره من قبل النظام الأبوي الغربي من خلال نشر الصور النمطية للمرأة التي تعكس اعتبارها موضوعًا يجب أن يتقيد بمتطلبات هذه الصورة لامرأة جميلة ونحيفة ترتدي ملابس الموضة، أي، ما يسمى بدكتاتورية القياس رقم 38، وتبذل قصارى جهدها للحفاظ على مظهر شاب، أي ما يسمى بدكتاتورية الزمان.
في القسم الأخير من الكتاب، تقدم المؤلفة بحثا ميدانيا تحلل فيه أمرين متعلقين بحياة المرأة في المغرب، (حيث تقيم المؤلفة حاليا). الأمر الأول هو العمل التعاوني من أجل التنمية الذي تجريه في المغرب بعض المنظمات غير الحكومية الإسبانية والذي تعتبره المؤلفة مظهرا آخر من مظاهر الاستعمار الغربي. فهذا ما ينعكس في آراء المتعاونين الإسبان الذين أجابوا عن مجموعة من الأسئلة في استبيان رأي أعدته المؤلفة، فأغلب هؤلاء العاملين في العمل التعاوني لا يزالون يمارسون نوعا من الرهاب من الإسلام ويفضلون العمل مع جمعيات مغربية تميل إلى العلمانية واليسار السياسي التقدمي في حين أنهم يعبرون عن تحفظات كثيرة تجاه الجمعيات الأقرب إلى المواقف الإسلامية التقليدية. ونتيجة لذلك، فإن المخصصات المالية الممنوحة للجمعيات ذات الطابع الإسلامي الواضح أقل بكثير من تلك التي تحصل عليها الجمعيات التي تتميز بطابع علماني أو يساري. ولا يعود ذلك إلا إلى فهم خاطئ وأفكار نمطية عن الإسلام لا تأخذ بعين الاعتبار تعدد التيارات والتوجهات الفكرية داخل الإسلام.
أما الأمر الثاني الذي تعالجه المؤلفة في عملها الميداني في المغرب، فهو الخطابات النسوية الصادرة عن أهم الجمعيات النسوية العاملة في البلد. الخطاب الأول الخاضع للتحليل هو خطاب الجمعيات النسوية التابعة للتيار السياسي الاشتراكي التي تتميز بمقاربة يسارية وبانتقادات لاذعة للحركات النسوية الإسلامية. الخطاب الثاني هو خطاب فاطمة المرنيسي الذي يتمحور حول مفهوم خوف المجتمع الإسلامي من الغرب وهو خوف يخفي خوفا آخر ألا وهو الخوف من الذات، مع رفض الحجاب باعتباره تراجعا في طريق المساواة، وهذا ما تنتقده سيرين أدلبي السباعي إذ أن المرنيسي تُسكت بهذا أصوات النساء وتحرمهن من التعبير عن أنفسهن عبر الرموز التي يخترنها بكامل الحرية. الخطاب الثالث هو خطاب نساء حزب الاستقلال المعتمد على فكرة الوطن والتقليد المرتبط بمبادئ الإسلام، وهو خطاب قريب من نساء حزب العدالة والتنمية وهو حزب ذو طابع إسلامي يعتمد أيضا على مبادئ الإسلام وإن كانت مصطلحاته قريبة من الخطاب الغربي فيما يخص مسألة حقوق الإنسان والنوع الاجتماعي.الخطاب التالي هو خطاب الناشطة أسماء المرابط التي تقترح أيضا الارتكاز إلى الرؤية الإسلامية لوضع مشروع تحريري للنساء ولكن عبر عملية تحديث الإسلام تماشيا مع الحداثة مما يعني أن خطابها ليس مناهضا للاستعمار لأنها تجهل الطابع الاستعماري الكامن في مفهوم الحداثة الغربية. الخطاب الأخير هو خطاب جمعية العدل والإحسان، وهي جمعية إسلامية تمثلها حاليا نادية ياسين ولها ثلاثة مرتكزات: لا للعنف، لا للسرية ولا للتمويل الخارجي، وتقوم بأعمال رائعة بفضل رؤية تجديدية للمرأة داخل الإسلام وتنظر إلى مصطلح "النسوية الإسلامية" على أن فيه إطنابا إذ إن الدفاع عن حقوق المرأة وحرياتها وكرامتها، كلها قيم يشملها ويعززها الإسلام.
يمكن توصيف هذا الكتاب بأنه كتاب جريء تحاول فيه المؤلفة القضاء على الفكرة الشائعة التي تذهب إلى أن الإسلام والنسوية مفهومان متناقضان غير متطابقين. صحيح أن الكثير من الانتقادات والآراء المعبر عنها في هذا الكتاب لها ما يسوغها، إذ أن العالم الحديث الذي تسوده العولمة وهيمنة المبادئ والمعايير المنبثقة من الحضارة الغربية لا يعترف إلا نادرا بأن هناك أنماطا ثقافية أخرى تختلف عن الأنماط الغربية لا يجب تهميشها وإهمالها. وصحيح أيضا أن معظم الانتقادات الموجهة للغرب والاستعمار وموقف المجتمع العالمي تجاه الإسلام وتجاه المرأة المسلمة هي مصيبة وسديدة. غير أن قارئ الكتاب، بعد استيعاب الانتقادات التي توجهها المؤلفة إلى كل التيارات الفكرية الأخرى، يتوقع من المؤلفة أن توضح بشيء من التفصيل الطريقة التي تقترحها للخروج من الوضعية الحالية والفرار من "سجن النسوية"، مع تحديد كيف يمكن صياغة هذا الفكر الإسلامي المناهض للاستعمار الذي تصبو إليه المؤلفة. وهذا في رأينا ما لا يوجد في هذا الكتاب، إذ إن سيرين أدلبي السباعي تكتفي بإشارات وجيزة في هذا الاتجاه لا تبين رؤيتها ومرتكزات فكرها بالقدر المطلوب.
---------------------------------------------------------------------------------------
العنوان: سجن النسوية. نحو فكر إسلامي مناهض للاستعمار.
المؤلف: سيرين أدلبي السباعي
دار النشر: أكال / إنتر باريس
مكان النشر: المكسيك - إسبانيا
سنة النشر: 2016
اللغة: الإسبانية
عدد الصفحات: 315
