اليورو ومعركة الأفكار

Picture1.png

تأليف جماعي

محمد السالمي

يتساءل المُراقبون الدوليون عمَّا إذا كان بوسع الاتحاد النقدي الأوروبي البقاء على قيد الحياة، وذلك نتيجة سلسلة من الصعوبات الاقتصادية التي واجهت اليونان وأسبانيا وإيطاليا ودولا أخرى في منطقة اليورو. يأتي كتاب اليورو ومعركة الأفكار ليُبين أنَّ المشكلة الأساسية مع اليورو تكمن في الاختلافات الفلسفية بين البلدان المؤسسة في منطقة اليورو، ولا سيما بين ألمانيا وفرنسا. حيث يناقش المؤلفون كيف أنَّ المشاكل التي يواجهها اليورو دفعت دول الأعضاء إلى التركيز على الاستجابات الوطنية، وليس الجماعية، القواعد مُقابل السلطة التقديرية، والمسؤولية مقابل التضامن، والتخزين مقابل السيولة، والتقشف مقابل التحفيز. كما يظهر الكتاب كيف يمكن التوفيق بين هذه الاختلافات لضمان بقاء أوروبا. فالكتاب من تأليف ماركوس برونيرمير "Markus K. Brunnermeier"، وهارولد جيمس Harold" James"، وجان بيير لانداو "Jean-Pierre Landau" . فماركوس برونيرمير هو أستاذ الاقتصاد في جامعة برينستون ومدير مركز بنهايم للتمويل في برينستون. بينما هارولد جيمس هو أستاذ التاريخ والشؤون الدولية في نفس الجامعة، وجان بيير لانداو هو النائب السابق لبنك فرنسا والمدير التنفيذي لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وهو أستاذ مشارك في الاقتصاد والعلوم في باريس.

يرى مؤلفو الكتاب أنَّ التقاليد الألمانية القديمة، والمعروفة باسم الليبرالية المرتبة “Ordoliberalism”، كانت عاملا مؤثرا بعمق في ألمانيا وكان لها تأثير سياسي كبير؛ حيث إن القواعد يجب أن تصاغ بشكل عام؛ وينبغي أن تقتصر إجراءات الدولة على إنفاذ هذه القوانين العامة مثل قوانين المنافسة ومكافحة الاحتكار، خلافاً للناقد النمساوي فريدريش هايك، الذي أصر أكثر فأكثر على الخلق التلقائي للنظام والقواعد. وأما تقاليد عصر ما بعد الحرب فإنها تمارس بالتأكيد بشكل جوهري لكثير من الألمان، وخاصة لصانعي السياسات في البنك المركزي الألماني وربما أيضاً في وزارة المالية. كما تمَّ تمثيله بشكل واضح في صفحات الاقتصاد في صحيفة فرانكفورت، وغيرها من الصحف الألمانية الكبرى. فمنذ عام 2009، كل من هذه الصحف الألمانية الكبيرة قلقة بشأن الآثار الأخلاقية المترتبة على تدابير إنقاذ اليورو. هذه التقاليد تمثل ما أسماه كينز بعبارته الشهيرة "التعدي التدريجي للأفكار" التي جعلت السياسيين والرجال المؤثرين "عبيداً لبعض الاقتصاديين المنحدرين" على وصف كينز، وبما أن البنك المركزي الألماني كان له مساهمة رئيسية في تصميم الاتحاد النقدي الأوروبي، فإن بعض المعلقين يتكلمون عن "إضفاء الصبغة الشرعية على أوروبا".

يتمحور التقليد الفكري الاقتصادي الألماني على الترکیز في الأسس القانونية والأخلاقية والسیاسیة للأسواق الحرة والتي قد تقود هذه القواعد إلى معاهدات أو قوانین أو تفاهمات مشترکة. كما يتميز بتشديد قوي على المُساءلة بحيث إنّها تحتاج إلى دفع ثمن الفشل. وأيضاً، ينبه هذا التقليد لمخاوف احتمال الخطر الأخلاقي الناجم عن أنشطة مقرض الملاذ الأخير حيث انتقد المسؤولون الألمان بشدة حزمة الإنقاذ المالي التي قدمها صندوق النقد الدولي للمكسيك في الفترة ما بين عامي 1994 و1995، ورأوا أنَّ هذا الأمر يشجع بعض الدول على السلوك المتهور بزيادة احتمالات عمليات الإنقاذ المستقبلية. القلق من عمل المقرض الأخير قد یفسد السیاسة النقدية؛ لأن البنك المركزي یلتزم بالتعھد في إعطاء الأولویة لاستقرار القطاع المالي علی استقرار الأسعار. كما يرى التقليد الاقتصادي الألماني بأن هناك حاجة إلى قواعد صارمة لحماية السياسة النقدية من هيمنة السياسة المالية، وذلك من خلال رفع المستوى الدائم للنفقات دون زيادة الضرائب، حيث يمكن للحكومة أن تؤثر على التدفقات الحالية والمستقبلية للقاعدة النقدية، وبالتالي زيادة المخزون النقدي. وبذلك، فألمانيا تنتهج نهجًا صارمًا تجاه الدَّيْن الحكومي. حيث إنها رائدة في النهج الذي تقترحه الآن على أوروبا، مع قانون عام 2009 الذي يفرض حد العجز على المستوى الاتحادي 0.35 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، واقتراح 2016 في القضاء على العجز للدول بحلول عام 2020. يرى الألمان بأن النمو لا يتحقق عن طريق توفير أموال أو موارد إضافية، وإنما بإصلاحات هيكلية وأن التقشف يكافأ بفوائد مستقبلية.

أما التقليد الفرنسي الجديد فلم تكن جذوره عميقة جدًا، بل تأصل في عمل الاقتصاديين العمليين الذين تم تدريبهم في مؤسسات موجهة نحو خدمة الدولة، فتم إنشاء فيلق الجسور والطرق في عام 1716. وكان القصد الأصلي من هذا الفيلق هو عمل خرائط دقيقة لشبكة الطرق الوطنية لكامل فرنسا. وقد لاحظ النقاد أن المدارس فخورة بجهلها التام بالمبادئ الاقتصادية لتقليل المنفعة الحدية والقيمة الزمنية لرأس المال.

في عام ١٩٤٦، تم وضع خطة مونيت الأولى للصناعات الثقيلة (ولا سيما الصلب)، وظهرت بشكل بارز في خطط الاستثمار الوطنية. وكانت الحكومة مهووسة بالتزايد بسرعة أكبر من الصلب الألماني ودرء التحدي الإيطالي الجديد الذي يهدد إستراتيجيتها الصناعية. وقد دعا المهندس المعماري الرئيسي لخطة فرنسا جان مونيت في مرحلة ما بعد الحرب، إلى "السياسة من أجل العظمة"، ورأى في الواقع بعض الآليات لتوسيع السيطرة الفرنسية على صناعة الصلب الأوروبية القارية باعتبارها مفتاحًا لما بعد الحرب. وفي أعقاب الحرب مباشرة، جرت مناقشة مكثفة للتأميم كوسيلة لزيادة الإنتاج. حيث يعتقد صناع السياسة الفرنسيون أنَّ الاتحاد السوفياتي قد تجنب الكساد الكبير في الثلاثينات وفاز بالحرب بسبب التخطيط. كما ساعدت مبادرات مثل خطة مارشال على إثبات فكرة أن التخطيط قد يحول الهيكل التجاري الأوروبي بأكمله. فتم إنشاء الاتحاد الأوروبي للفحم والصلب (إكسك). وظلت جوانب التقاليد القديمة في مجال واحد: الحجة القائلة بأن استقرار العملة هو هدف هام من أهداف السياسة العامة، وأن اعتماد المعيار الذهبي هو انضباط دولي مرغوب فيه، وله نداء قوي.

كما هو الحال في ألمانيا، فإنَّ معظم الاقتصاديين الفرنسيين الحديثين قد ابتعدوا إلى حد كبير عن المخاوف التقليدية لكل من الاقتصاديين الليبراليين في القرن التاسع عشر والسياسة الفرنسية في مرحلة ما بعد الحرب ومرحلة التخطيط. والواقع أن الأكاديميين الفرنسيين قدموا إسهاما حاسما في الأدبيات بشأن اتساق الوقت وما يترتب على ذلك من أهمية لصياغة القواعد بشكل صحيح. وتؤثر رؤى الماضي على الطريقة التي ينظر بها الفرنسيون إلى الاقتصاد. حيث يشكو معظم الاقتصاديين الفرنسيين - كما فعل توماس بيكيتي، مؤلف رأس المال الأكثر مبيعا في القرن الحادي والعشرين بأن "الاقتصاديين لا يحظون باحترام كبير في العالم الأكاديمي والفكري أو النخب السياسية والمالية". وينتقد السياسيون الفرنسيون الليبرالية الجديدة. وهذا يظهر في انتقاد نيكولاس ساركوزي "أوروبا الأنجلو ساكسونية، السوق الكبيرة"، وقال مرارا إن مهمته هي تأكيد قيم الإنسانية الفرنسية والأوروبية كبديل للنظام الاقتصادي الدولي. ومن هنا فإن التقليد الفرنسي ينظر إلى النهضة القومية ورفع الكفاءة التنافسية بشكل أولي ولوكان على حساب التنظير الاقتصادي.

 

ويمكن تلخيص التقليد الاقتصادي الفرنسي الحديث في أن القواعد يجب أن تخضع للعملية السياسية ويمكن إعادة التفاوض بشأنها. وأيضاً، تتطلب إدارة الأزمات استجابة مرنة، وأن تقييد حرية الحكومة في التصرف والاقتراض سينظر إليها أنها عملية مضادة للديموقراطية. كما يجب استخدام السياسة النقدية لخدمة أهداف أعم من مجرد استقرار الأسعار (التضخم)، مثل الاهتمام بالنمو الاقتصادي. تشمل دروس الكساد العظيم مبدأ أن التكيف مع الاختلالات الدولية ينبغي أن يتم بصورة متناظرة، مع قيام البلدان التي لديها فوائض. كما يرى التقليد الاقتصادي الفرنسي أنه مع إمكانية وجود توازنات متعددة، من المرجح أن يؤدي اختيار مسار غير سار للحاضر إلى إدامة عوائق النمو بدلاً من إزالتها.

وهذا التقليد يظهر جلياً حين وقعت ألمانيا ضد حزم إنقاذ اليورو، في المقابل وقعت فرنسا ضد المذاهب الألمانية وضد سياسات التقشف. وفي عام 2010، وقع أكثر من 700 من الاقتصاديين الفرنسيين بيانا نشر على نطاق واسع بشأن "استراتيجية اقتصادية واجتماعية بديلة" لأوروبا، يهاجمون "الاستفزازات الاقتصادية الكاذبة" للعقيدة الليبرالية الجديدة.

وثمة بعد آخر من أبعاد التفكير الاقتصادي الذي تختلف فيه الفلسفات الألمانية والفرنسية اختلافا ملحوظا ألا وهو العلاقات الاقتصادية الدولية، ولا سيما فيما يتعلق بتدفقات رأس المال عبر الحدود. وقد اندلعت هذه الخلافات خلال المفاوضات التي سبقت التصديق على معاهدة ماستريخت في عام 1992. فالفلسفة الاقتصادية الألمانية تدعو إلى التجارة الحرة والمنافسة العادلة، وفتح أسواق رأس المال الدولية. واعتبرت الضوابط الرأسمالية تعسفية، ودعت إلى الضغط السياسي. كما أن هذه الفلسفة تفضل أن تكون أسعار الصرف حرة في التحرك، حيث لا توجد تدخلات منسقة ضرورية للتعامل مع صدمات الاقتصاد الكلي. وعلى النقيض من ذلك، فإن الفلسفة الفرنسية أقرب بكثير إلى الموقف الكينزي الأصلي والذي تطور كرد فعل على الكساد الكبير لأسعار الصرف الثابتة، ومراقبة تدفقات رأس المال، وتعزيز التكيف متعدد الأطراف عن طريق سياسات التضخم في البلدان الفائضة.

فلو نظرنا لمثلث الاقتصاد الكلي الدولي، فإنه لا يمكن لاقتصاد أية دولة أن يكون لها سعر صرف ثابت، وسياسة نقدية مستقلة، وأن يسمح لرأس المال بالتدفق بحرية في الوقت نفسه؛ حيث يجب اختيار اثنين من أصل ثلاثة. وهذا الخيار له آثار عميقة على قدرة الاقتصاد على التكيف مع صدمات الاقتصاد الكلي المعاكسة. تختلف الفلسفات الألمانية والفرنسية بشكل ملحوظ في مواقفها تجاه استصواب تدفقات رؤوس الأموال وكيف ينبغي للاقتصادات المختلفة، وخاصة تلك المرتبطة عن طريق آلية سعر الصرف، أن تستجيب للصدمات غير المتماثلة. فالألمان اختاروا جانب التحكم في السياسة النقدية، في حين فضل الفرنسيون أسعار الصرف الثابتة. ومن الناحية العملية، هناك درجات متفاوتة من الالتزام بنظام سعر الصرف الثابت، وبدرجات متفاوتة من الانفتاح على رأس المال الدولي، وبدرجات متفاوتة من الاستقلال الذاتي للسياسة النقدية.

ما بين عامي(1880- 1914)، ظهر معيار الذهب كوسيط في عملية الصرف بحيث تم صرف النقود على هيئة معدن الذهب ومن ثم تحويلة إلى دولة أخرى ليتم صرفه على هيئة عملة الدولة المستلمة للذهب، حيث إن لكل عملة قيمة محددة من هذا المعدن. بعد الحرب العالمية الثانية، اجتمعت كل من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا وغيرها من الدول في فندق بريتون وودز في العاصمة واشنطن لتحديد النظام المالي العالمي خلافا لمعيار الذهب، وقد تم توقيع الاتفاقية والتي عرفت باسم بريتون وودز. أهم بنود الاتفاقية هي ربط جميع العملات بالدولار الأمريكي والذي لا يزال بدوره ثابتاً على الذهب، حيث إن الدول تحتفظ بالدولار الأمريكي بدلاً من الذهب. وكان هذا النظام أقرب إلى الفرنسيين أكثر من المثل الأعلى الألماني. لكن فرنسا لم يعجبها اعتمادها على الدولار.

وقد سمح نظام بريتون وودز بإعادة التنظيم في بعض الأحيان، ولكنه لا يزال، كما هو الحال في أي نظام ثابت لسعر الصرف يلوح في الأفق بمشكلة التكيف. وازدادت التوترات بشكل خاص في المراحل اللاحقة من نظام بريتون وودز، خاصة في أواخر الستينيات، حيث عززت ألمانيا بشكل متزايد فوائض التجارة التي تعكس مكاسب الإنتاجية فضلا عن احتواء تكاليف الأجور من خلال نهج تعاوني لتحديد الأجور. ولكن هذه السياسة لم تلقَ قبولا من قبل البنك المركزي الألماني وذالك بسبب التضخم.  وكان هذا البديل غير جذاب أيضاً للنخبة السياسية الفرنسية لأنه قيد النمو ويضمن عدم شعبية الانتخابات. وفي أواخر 1971، انهار نظام بريتون وودز؛ فإنه ببساطة لا يتضمن طريقة موثوقة للتعامل مع التكيف. وبعد ذلك، بدأ نظام سعر الصرف العالمي يتحرك قريبا جدا من النموذج الألماني والذي يعتمد على تدفقات رأس المال الحرة وأسعار الصرف العائمة.

قدم الكتاب تسلسلا تاريخيا حول إنشاء العملة الموحدة بين البلدان الأوروبية لتحقيق التكامل المجتمعي. فلو نظرنا إلى الدولتين المؤسستين للاتحاد الأوروبي (ألمانيا وفرنسا)، فإن الفلسفة الاقتصادية الألمانية تعتبر الصادرات الصافية مقياسا للقدرة التنافسية وإشارة إلى الصحة والقوة الاقتصادية. كما يفضل الألمان أسعار الصرف المرنة في بيئة دولية ذات أسواق رأس مال مفتوحة. في المقابل، بالنسبة للتقاليد الاقتصادية الفرنسية، فإن الصادرات المرتفعة جدا ليست دليلا على القوة، وإنما هي مؤشر على تطبيق مبدأ افقار الجار مقابل النزعة التجارية. كما تنظر التقاليد الفرنسية أن يكون النظام النقدي الدولي متعدد الأقطاب، وينبغي أن يشمل التنسيق الفعال للسياسات الإدارة النشطة لتدفقات رؤوس الأموال لتحقيق الاستقرار في تحركات أسعار الصرف. أسعار الصرف الثابتة هي انعكاس مرغوب فيه لقدرة الدول على فرض الانضباط في الأسواق الغير منضبطة.

كتاب اليورو ومعركة الأفكار هو بحد ذاته إنجاز مثير للإعجاب. يقودنا الكتاب في رحلة إلى تاريخ من الرؤى الألمانية والفرنسية وكيف تم بناء الاتحاد الاقتصادي والنقدي الأوروبي. يقدم تحليلا دقيقا للاتحاد المصرفي الأوروبي وركائزه. وما يجعل الكتاب مثيرا للاهتمام هو أن مؤلفي الكتاب أتوا من خلفيات مختلفة. لاقى الكتاب استحسان المفكرين الاقتصادين والقراء على حد سواء، ويتوقع منه أن يكون الكتاب الاقتصادي الأول لهذا العام.

------------------------------------------------------------------

اسم الكتاب: اليورو ومعركة الأفكار

مؤلفو الكتاب: ماركوس برونيرمير، وهارولد جيمس، وجان بيير لانداو.

الناشر:  Princeton University Press

سنة النشر: سبتمبر، 2016

اللغة: الإنجليزية.

عدد الصفحات: 448

أخبار ذات صلة