سُلّم إلى السماء: أحاديث في السلطة والترّقي والنخبة

Picture1.png

لميخائيل خازين وسيرغي شيغلوف

فيكتوريا زاريتوفسكايا*

((تكاد السلطة، ومن فرط اعتياديتها ورسوخها، أن أحدا لا يمحضها التفكير، تماماً مثلما لا يفكر أحد أنَّه يتنفس أو أنَّه يتحدَّث بلغته الأم))...

بهذه الخلاصة من كتاب "سُلّم إلى السماء" للكاتبين الروسيين ميخائيل خازين وسيرغي شيغلوف يسعنا الوقوف على ثيمة الكتاب الذي بين أيدينا. وربما لا يجد القارئ المعاصر، من الوهلة الأولى، حاجة ماسة للاستفاضة في موضوع السلطة، فهذه المُفردة بدرجة من الشيوع، لا سيما في المجالات السياسية والاجتماعية، ما يجعلها منقوعة في اللغة نقوع الطحالب في قاع المياه.

 لذلك، ولأجل إثارة انتباه القارئ وجذب فضوله، كان لا بد من مادة تخرج عن المألوف وتطرق دروبا جديدة في حياض السلطة.

 يؤكد الاقتصادي الروسي ميخائيل خازين الذي عمل فترة في إدارة الرئيس الروسي بوريس يلتسين، والذي يترأس اليوم الصندوق الروسي للبحوث الاقتصادية، ومعه المدون والكاتب سيرغي شيغلوف أنهما نجحا في تحقيق ذلك عبر كتابهما المشترك هذا والواقع في أكثر من ستمائة صفحة.

 يُبدي لنا الكتاب ثلاثة مضامين للسلطة، أولها كيفية تشّكل السلطة ومستقبل النخب العالمية، وثانيها طبيعة الفارق بين السلطة والإدارة، وآخرها كيفية الترقي في سلّم المهنة، سواء تعلق الأمر بعامل متوسط في شركة أو بقطب من أقطاب النخبة العالمية.

 ويعتبر خازين وشيغلوف أن مجمل النظريات السياسية والاجتماعية عن السلطة قد تبلورت حول شخصيات بذاتها كالملوك والقادة العظام أو أنها تمخضت عن فئات اجتماعية وأقوام ونخب، أما القوانين الاجتماعية والاقتصادية المُجردة من الشخص باعتباره محركاً للتاريخ، وأما السلطة نفسها كمفهوم سوسيولجي علمي بحت، فإنَّ النظريات تستبدلها بمظاهر خارجية كمظهر الدولة في العهد الكلاسيكي ومظهر النخبة في العصر الحديث ومظهر المؤسسات في مجتمع ما بعد الحداثة. في حين يقترح الكاتبان نظرية تتعرض لتفسير جديد لطبيعة السلطة، متمثلة في المنافسة داخل الجماعات الحاكمة، ومكانة العلاقة التسلسلية في نظام هذه الجماعات، من السيد إلى المُنّفذ وانتهاءً بالموالين لها. وتسمح هذه القراءة الجديدة لمفهوم السلطة برؤية مجريات التاريخ من زاوية مختلفة، وهي زاوية ترتب ما كنُّا نحسبه عبثيا ومبعثرا في خط موضوعي ومنظم.

 

 أما الآلية التي يتبناها الكاتبان في العمل فهي من الوضوح بمكان (وإن كان وضوحاً ممتنعًا ويحشد في داخله شتى الاجتهادات والمعارف) إذ تعتمد على تحديد الكتلة المفهومة في الجسم الغامض، ومن ثم إخضاع هذا الجسم بكليته لقانون تلك الكتلة. تماما كما لو أننا أمام لوحة فسيفساء يزيغ أمامها البصر، وحتى نستطيع قراءة اللوحة وفهمها، نلتقط تشكيلا واحدا من اللوحة ونستغرق في النظر إليه، حينها تنجلي الفوضى ويحل النظام ونرى اللوحة كاملة أمامنا.

 ولكن، وبعد كل شيء، يظل من السهل عليك رؤية لوحة الفسيفساء، أو أي شيء مماثل، إن كنت تملك مفاتيح القراءة والنظر مسبقا، وفي حالتنا هنا، فإن الكتابة عن السلطة تكون أيسر إن كان المرء على دراية بقوانينها وكيفية عملها من الداخل، وهو ما ينطبق على مؤلفْي الكتاب.

 لا تفسر فرضية خازين – شيغلوف ما جرى في الولايات المتحدة خلال القرن العشرين أو ما يجري في روسيا المعاصرة وحسب، فهي صالحة للاستخدام لأي فترة تاريخية وفي كل مكان من العالم، فضلا عن صلاحيتها للتنبؤ بالاضطرابات الاقتصادية والاجتماعية كالأزمات الأخيرة التي عصفت وما زالت تعصف بالعالم.

 كثيرًا ما يرى المؤلفان وراء الأزمات الاقتصادية حربًا قائمة داخل جماعات السلطة وليس لأسباب مالية. هذه الجماعات التي تتوفر على عدد من الأفراد المتحدين للاستيلاء على الموارد بكل أنواعها والمرتبطين بين بعضهم البعض بعلاقات الطاعة الصارمة.

 يزخر الكتاب بعدد جم من الأمثلة التاريخية التي تستعرض النظرية التطبيقية لعمل السلطة. ومن بين تلك الأمثلة: 1(كيف كان لقانون السلطة أن يزيح المخترع الأمريكي ستيف جوبز ويجرده من جميع مناصبه في شركته "آبل" عام 1984. 2(من يقف وراء إعدام الديكتاتور الروماني الشرس نيكولاي تشاوتشيسكو. 3 (كيف للانقلاب العسكري في فرنسا عام 1958 أن يبدأ مع الجنرالات المنخرطين في الخدمة العسكرية لينتهي أمر السلطة بيد ديغول الخارج عن الخدمة؟ كم من السنوات تطلبها الإمبراطور البيزنطي باسل المقدوني ليتدرج من شحاذ على باب الكنيسة إلى أعلى هرم السلطة؟ ما هي اهتمامات ستالين، وهو أبرز رجالات السلطة حسب المؤرخين السياسيين، غير قراءة وتنسيق الوثائق الحكومية؟.

 في مقدمة الكتاب التي حملت عنوان: "ثلاثة أخطاء وثلاث حقائق للسلطة" يرفض الكاتبان، ومنذ البداية، التصورات التقليدية حول مكونات الدولة وإدارتها. "يظن القارئ النهِم للصحافة الليبرالية أنه يعرف السلطة بتفاصيلها وأن المواطنين ينتخبون رئيسهم بطريقة ديموقراطية، وبدوره يُدير الرئيس موارد البلاد من أجل رفاهية المواطن. وبأنَّ الناس بتعدد أجناسهم هم مصدر السلطة، أما تقديم شخص عن غيره فيتم عن طريق الانتخابات الشرعية، وأن المهمة الرئيسية للسلطة هي الاهتمام بالمواطن العادي وذلك عن طريق اختيار الكادر الحكومي المناسب لتولي المناصب التي تتحمل الدولة أجور نفقاتها. ولكن الواقع هو أنَّ قارئنا الليبرالي هذا يواجه نمطا مختلفا لهذه الماكينة. فمنصب الرئيس في الولايات المتحدة أو روسيا أو فرنسا يتم توليه باتفاق مُسبق داخل النخبة، وبعد ذلك يُعيّن الرؤساء في المناصب الحساسة أفرادا من الحاشية وهم بدورهم يختارون أتباعهم نوابًا ومساعدين لهم، بالتالي يتم إنفاق الميزانية حسب نظام العشيرة ومحاصصتها، فتوزع المشاريع الحكومية المربحة على الشركات المتصلة بالنخبة وحدها" (ص 8).

 في الجزء الأول من الكتاب "ما لا يجوز قوله" يؤكد المؤلفان على أن السلطة هي مجال الاشتغال الأكثر جاذبية للإنسان، وهي من بين المجالات الأخرى الأكثر حفاظًا على نظم العمل التقليدية كالعشائرية والمحسوبية وكتمان السر والتضامن الجماعي. ويتطلب العمل في السلطة، تزييف المعلومات المستمر، وبمستويات عالية، وذلك لتضليل كل من لا ينتسب إليها، بل ولتضليل بعض المنتمين إليها إن دعت الحاجة إلى ذلك. ونتيجة لهذه الخصائص، يجد الكاتبان أن كل المعلومات عن السلطة ما هي إلا معلومات داخلية، تستخدم داخل النخبة. أما المعلومات التي تتسلل إلى الخارج بسبب خلل في نظام السلطة، فتكافَح بقوة وتوسم بالكذب والتدليس.

 في الجزء الثاني "أقنعة السلطة" يحلل الباحثان أعمالا ومؤلفات مختلفة تناولت السلطة، كما يتطرقان إلى كتب السير الذاتية لبعض السياسيين، ويفندون نقاط الضعف فيها، والمراوغات التي تتخللها لإخفاء جوهر السلطة. إلى جانب ذلك، يذكر الكاتبان الأعمال المنسية أو المحظورة عن السلطة ويوضحان الأسباب التي دفعت إلى منعها. ومن بين الأعمال التي اخترقت المألوف حول السلطة يستعرض المؤلفان كتاب السياسة لأرسطو، والمقدمة لابن خلدون، وكتاب الأمير لمكيافيللي، وكتبه الأخرى المنسية لخطورتها على النخبة، وكتاب "لوياثان" لتوماس هوبز، ومقالاتان عن الحكومة لجون لوك، وكتاب نظرية الحكم والسلطة البرلمانية لجايطانو موسكا، وهيكل السلطة في المجتمع لفلويد هانتر، والنخبة الحاكمة لرايت ميلز، وكتاب من يحكم؟ لروبرت دال، والمراقبة والمعاقبة لميشيل فوكو، والمراقبة الخارجية على المؤسسات: مفهوم الاعتماد على الموارد لجيفري بفايفر وجارلد سالانتشيك، وكتاب عن العنف لحنة آرنت، وكتاب المؤسسات الأمريكية الإنجليزية لكارول كويجلي، وكتاب الإجبار، رأس المال والدول الأوروبية لتشارلز تيللي، والعنف والقوانين الاجتماعية، وهو كتاب مُشترك لمؤلفيه دوغلاس نورث وجون ووليس وباري واينجاست.

 يشر المؤلفان إلى تقاليد عريقة وممارسات استراتيجية تلجأ إليها النخبة لضمان المنعة في دائرة السلطة فوصل الأمر بها إلى اختيار الأعضاء والمنتسبين للسلطة منذ نعومة أظافرهم وتأهيلهم للعمل المستقبلي. "إن تشكيل صورة العالم لدى المرشحين للعبور إلى دائرة السلطة، وعلى الرغم من خيالية الفكرة إلا أنها واقع ومعتاد عليها في أوساط النخبة. ومن الأمثلة التاريخية للجماعات التي حققت نجاحا في ذلك، الرهبنة اليسوعية، حيث كانوا يعملون على تكوين أعضاء جماعتهم منذ الطفولة. وبشكل مُماثل تتشكل صورة العالم عند النخبة الإنجليزية في المدارس والكليات ذات الأنظمة المُغلقة حيث يتعلم المنتخبون المستقبليون قوانين الخضوع والمنافسة" (ص 110).

 من خلال مقاربتهما للتاريخ باعتباره حلبة صراع للنخب وجماعات السلطة، يجادل الباحثان الروسيان في كتاب نهاية التاريخ للكاتب الأمريكي فرانسيس فوكوياما، وهو العمل الذي أنجزه مؤلفه إثر انتهاء الحرب الباردة وانتصار النخبة المالية العالمية على الاتحاد السوفيتي. يكتبان في هذا الصدد: "في حقيقة أمره فإنّ التاريخ ليس عرضة للانتهاء قط. والأفعال التي تأتي لحل قضية من القضايا دائما ما تستحدث قضايا أخرى. وهذا ما واجهته مؤخرا النخبة الغربية. فبتصادم الصين مع الاتحاد السوفيتي قاموا بضم الأول إلى منظومة القطاع الصناعي العالمي، واحتضنوا النخبة المالية الصينية الجديدة التي تم اختبارها غربيا حتى في مجال السياسات الدولية. وعندما استخدموا المتشددين في أفغانستان ضد الاتحاد السوفيتي، كانوا بذلك يضعون المداميك لاشتعال الثورات الإسلامية في العديد من البلدان وأيضاً لبلورة النخبتين، السنية والشيعية على الصعيد السياسي (...) والنتيجة أن نهاية التاريخ ما هي إلا تعدد القضايا أمام النخبة الغربية واختلافها (القضايا) عن الماضي" (ص 245 – 249).

 لم يوفر المؤلفان الأزمة الاقتصادية الراهنة التي ينعتانها بالأزمة الاقتصادية السلطوية ويقارناها بالكساد الكبير لعام 1929. أما الأسباب التي تقف خلف أزمة اليوم فيريانها في: "طبيعة النخبة نفسها التي تهتم قبل كل شيء بازدهار أعمال مُمثليها، ولذلك تعتبر أية تغيرات سلبية في الاقتصاد تهديدًا مباشرًا لها وليس عاملا خارجيا. ونتيجة لذلك لا يهدف رد فعلها إلى حل الأزمة من جذورها بل إلى إزالة تهديداتها (ونظام الاتحاد السوفيتي مثال بارز على ذلك) ما يؤدي في الخاتمة إلى ظهور التصعيدات من كل حدب وصوب" (ص 610 – 611).

 اعتمد المؤلفان على أسلوب غير معتاد لإنجاز عملهما، ولإثبات نظريتهما، استخدما شكل الحوار مع القارئ. وإن تسبب هذا الأسلوب في زيادة حجم الكتاب، إلا أنه – بالمُقابل – سهّل من استيعاب الأفكار وتمثلها لدى القارئ كما وفر نمطا سرديا يلائم القارئ المتشكك والعاكف على قراءة الكتب التخصصية. ومن جانب آخر لم يغال المؤلفان في الدفاع عن أفكارهما، فتركا مندوحة أمام القارئ، يتحرك فيها ويختار ما يلائمه من أفكار. وفي نهاية المطاف، وبعد كل شيء الأحوال، أكان طرح الكتاب مستحسنا أم مستنكرا، قد أصاب هوى لدى القارئ أم عكس ذلك، إلا أن التفكير في هيئة العالم ومكانة الأفراد فيه وكيفية تسيير مجرياته لا شك سيتخذ ميلاً جديدًا عند القارئ.

 وقد أحدث البحث ردود أفعال واسعة ومتفاوتة بين القراء المهتمين والخبراء المختصين، ومن بين أكثر التعليقات التي حظي بها الكتاب طرافة اعتباره جزءاً ثانيا من أطروحة مكيافيللي "الأمير" مع فارق أن كتاب مكيافيللي موجه إلى القمة ومن فيها من ملوك وأمراء بينما يخاطب كتاب خازين وشيغلوف أولئك الصاعدين في سلّم السلطة.

-----------------------------------------------------------------------------------------------

الكتاب: سلم إلى السماء.. أحاديث في السلطة والترقي والنخبة.

المؤلف: ميخائيل خازين وسيرغي شيغلوف.

الناشر: ريبول كلاسيك، موسكو 2016

اللغة: الروسية.

عدد الصفحات: 624 صفحة.

 

  *مستعربة وأكاديمية روسية

 

أخبار ذات صلة