أسرار فولغا بلغاريا

Picture1.png

ليوري سوبرونينكو

أحمد الرحبي*

  ((إلى المدن الصغيرة من أجل التاريخ الكبير))  

  "لا أعرف كيف وبأية وسيلة بلغت الرسالة المحمدية هذه الأراضي الشمالية، القصية والنائية" – هكذا يصف غليوم دي روبروك بعضا من مشاهداته في دولة فولغا بلغاريا التاريخية (وهي حاليا جزء من روسيا). وغليوم هذا راهب فرنسيسكاني فلمنكي من القرن الثالث عشر، امتهن الترحال بمسلك تبشيري ووضع مؤلفات عديدة يُعرف منها كتاب "رحلة إلى البلدان الشرقية".

ولنا أن نتخيل انعكاس المشاهد في تلك السهول التي وصلها الإسلام في عيون الرحالة الغربيين ونفوسهم. إننا نرى المعمار الإسلامي المتمثل بالجوامع والمساجد بمناراتها وقببها وأقواسها وهي تقف على خلفية السهول الروسية الوسطى. لا شك أنّ وقع ذلك كان مدهشًا لرحالة القرون الوسطى بل ومربكًا لغرائزهم الدينية والجمالية. وليس هذا وحسب، فإلى جانب المظهر الإسلامي لفولغا بلغاريا، ثمة أيضًا المناحي المدنية، حيث المحترفات الصناعية التي تنتج الفخار والجلد ذات الجودة العالية، لدرجة أن الجلد حين يشار إلى جودته آنذاك يوصف بالجلد البلغاري. وحيث صناعة الأسلحة المتطورة في زمانها وقد أطبقت شهرتها الآفاق، فكان المؤلفون العرب يذكرونها في تصانيفهم ويشهدون للجنود البلغار بالفروسية وبدرعهم القوية وذخيرتهم المكينة. وعن منعة فولغا بلغاريا الحضارية يذكرُ التاريخ أن الأمير الروسي فلاديمير الأول، وبعد أن فشل البلغار أنفسهم في إقناعه باعتناق الإسلام، نظم حملة عسكرية إلى فولغا بلغاريا لإدراك الجزية منها، ولكنه بعد أن وقف على أحوال البلاد وتعرّف على المستوى الثقافي لأهلها، كف عن خطته وقال عبارته الدالة: "إنّ القوم الذين يرتدون الأحذية لا يمكن أن تقتص منهم الجزية، ومن الأجدى لنا البحث عن الذين لم يخلعوا النعال الخشبية بعد". بعد ذلك، وكما هو معروف، اتفق البلدان على توطيد السلم بينهما.

هكذا كان شأو حاضرة من حواضر الإسلام في أصقاع أوراسيا العظيمة، ومن يدري إلى أي مرتقى آخر كانت ستبلغه فولغا بلغاريا لولا الريح التي هبت من شرق آسيا حاملة رايات المغول والتي اقتلعت في طريقها كل ما سواها؟ لقد كانت دولة فولغا بلغاريا التي آخت بين التاريخ والجغرافيا وغرست عروق الثقافة الإسلامية في ضفاف الفولغا الخصبة هي أول من تصدى لحوافر "القبيلة الذهبية" في تلك البقاع. ولكن مدنها المحصنة لم تقو على الصمود أمام الزحف المغولي ومنها العاصمة "بيلر" التي هدمت بالكامل بعد حصار عام 1236 ولم يترك المغول منها سوى اسمها. وبذلك الحدث الجسيم فقدت أوروبا القرون الوسطى أحد أكبر مراكزها الصناعية والتجارية. ويبقى أن الذي حمى ثقافة فولغا بلغاريا من الزوال المبرم هو نفسه الذي أعلى من شأنهم فيما سبق، أي الإسلام، فالمغول، وبعد وقت قصير من اجتياحهم البلاد، اعتنقوا الإسلام، فاندمجت حضارة فولغا بلغاريا بالقبيلة الذهبية (كما يتغنى المغول فخرا بأصلهم) واستمر وجودها فيما بعد ضمن مدينة قازان.

الكاتب والصحفي الروسي يوري سوبرونينكو، الخبير في دراسات التاريخ المحلي وعلم الجغرافيا وأحد أعلام معهد الجغرافيا في أكاديمية العلوم الروسية، كرّس عمله الجديد لتراث فولغا بلغاريا الثقافي والديني المجهول وغير المدروس، ومن هنا جاء استعمال كلمة (أسرار) في عنوان الكتاب. وخلافا لاندثار الجزء الأكبر من شواهد ثقافة الفولغا بلغارية المادية، يرى الكاتب أنّ الإسلام، استنادا إلى دخوله المبكر إلى المنطقة الشمالية، وما نتج عن ذلك من تأثير وتغيير في تاريخ المنطقة، كان ولا يزال أهم المكوّنات التراثية لهذه الثقافة. انطلاقا من هذه الخلاصة، وبعد العرض السريع لتاريخ دولة فولغا بلغاريا القديمة في فصلين من الكتاب: "فولغا بلغاريا ما قبل الإسلام" و "كيف بدأ الإسلام" ينطلق الكاتب في وصف القيم الإسلامية لفولغا بلغاريا ووريثتها المعاصرة مدينة قازان.

بداية ذي بدء ينقل المؤلف قصة اعتناق فولغا بلغاريا الإسلام عام 922 عن المؤرخ الفولغي بلغاري يعقوب نوجما بأن أحد التجار المسلمين وصل إلى تلك البلاد قادما من مدينة بخارى. وكان الرجل - على مجرى التجار المسلمين آنذاك - على جانب من العلم وماهرا في فنون الطب. وحدث أنّ ملك فولغا بلغاريا وزوجته كانا طريحي الفراش وقد أصيبا بمرض عضال. وأمام عجز الأطباء وبطلان الأدوية، تقدم التاجر ليعلن عن مقدرته في علاج المليكين ولكن شريطة أن يعتنقا دينه، فكان للملك وقرينته الشفاء وكان للتاجر ما أراد. ولأن الناس على دين ملوكهم، دان أهل البلاد قاطبة بدين محمد.

يضع المؤلف في حسبانه اعتبارات براغماتية لهذه الخطوة التاريخية الخطيرة، فيشير إلى أنّ فولغا بلغاريا كانت بحاجة إلى دعم حقيقي للتصدي لأطماع امبراطورية الخزر الواسعة والمجاورة لها. وكانت دولة الخلافة العباسية الوحيدة في ذلك الوقت التي بمستطاعها تقديم ذلك العون. وهكذا توسّعت العلاقات بين فولغا بلغاريا وبغداد وضمنت الحماية لها، فضلا عن المساعدات المادية لتمويل حروبهم في القرن الثامن، وفضلا عن فوائد التجارة مع العرب ومد خطوط تجارتهم إلى الأسواق العربية الكبيرة، فازدهرت تجارة فولغا بلغاريا جنبا إلى جنب مع ازدياد نفوذ العباسيين في تلك الأصقاع. مع ذلك، وخلافا لكل هذه المصالح الدنيوية، يشدد المؤلف على تمسك أهل فولغا بلغاريا بعقيدتهم التي رضوا بها وبأنّهم لم ينحرفوا عنها أو يقايضوا بها فضلا عن أنّهم عرضوا على جارتهم الكبيرة روسيا عام 986 أن تصبح دولة إسلامية ولكن الأخيرة اختارت المسيحية بعد ذلك بسنتين.

وفي حديثه عن تراث فولغا بلغاريا، يسوق الكاتب أمثلة كثيرة عن الصلة الوثيقة التي تجمع هذا التراث بثقافة الشرق العربي، وينوّه تحديدا بالعادات والقيم التي يلتزم بها سكان مدينة قازان الروسية في وقتنا الحاضر. هاك مثالا على النصوص الرثائية التي دونت في القرنين الثالث والرابع عشر بالحرف العربي، وهاك أيضا اعتزاز الناس بالقرآن فشرعوا بطبع أكبر نسخة له، بلغ وزنها 800 كلغ وامتدت أبعادها إلى مترين طولا ومتر ونصف عرضا، ناهيك عن صفائح الذهب والفضة والأحجار الكريمة التي استخدمت في صناعتها، وقد تمت صناعتها في إيطاليا، وشيد لها مبنى خاص في قازان عام 2012 احتفالا بيوبيل اعتناق فولغا بلغاريا الإسلام. هناك أيضا أسماء المدن التي تدين للغة العربية كمدينة "برياخيموف" التي أسسها خان من فولغا بلغاريا يدعى إبرهيم؛ فاستردها اللسان الروسي إلى لفظته فصارت بداية "إبراهيموف" ثم صارت إلى "برياخيموف" لتسكن في اللغة الروسية وكأنّها منها، وهذا هو حال المفردات الأجنبية حينما تنغرس في اللغات الحية.

   في فصل "الجوامع... الإسلام كواجهة للمدينة" وهو أكبر فصول الكتاب يتحدث الكاتب عن تاريخ المعمار، ويعيّن الجوامع الأحد عشر في مدينة قازان التترية كأمثلة وشواهد لتقصيه التاريخي والفني هذا. يحدثنا عن ظروف إنشاء كل جامع منها، متتبعا مراحل ازدهاره ومتوقفا عند مناسبات إغلاقه، كما يخبرنا عن المراكز التعليمية التابعة لها والإنجازات التي أحرزتها ويعدد أسماء الناشطين الإسلاميين في المنطقة، خاصا بالذكر الفيلسوف والمستشرق والمتصوف شيغابو الدين مارجاني (1818-1889).  يبرز الكاتب خواص كل جامع منها، بيد أنه يتمهل أكثر أمام الجامع الأبيض لما يحمله من خاصية تتعلق بطرازه المعماري من جهة وبالزمن الذي شيد فيه والرمزية التي أريد له أن يكتسبها من جهة أخرى. يقول الكاتب عن هذا الجامع الجميل والبارز فوق ربوة عظيمة من قلب العاصمة التترية قازان: "يصح لنا القول إن هذا الجامع قد جمع خصائص العصر الحديث عموما وخاصية المعمار التتري الديني للنصف الأول من القرن العشرين على وجه الخصوص. إنّه الجامع والمسجد الوحيد الذي بني في العهد السوفيتي. ومع أن السلطة السوفيتية قد انتهجت خطا معارضا للأديان في بداية حكمها، وهدمت الكنائس الأرثوذكسية، بيد أنها تصرفت بحذر حيال الأماكن الدينية للأقليات القومية. ويبدو أنّ ذلك كان جزءا من استراتيجيتها لجذب المناطق المتاخمة لامبراطوريتها. شيد الجامع بين أعوام 1922 و 1924، التاريخ الذي يوافق ألفية دخول الإسلام إلى هذه الأرض. وقد تم بناؤه من أموال المتبرعين من المسلمين، ما يدل على الحنين الديني للأهالي المحليين. بني الجامع بالآجر الأحمر بمأذنة على مدخله الواقع فوق ضفة بحيرة قابان، ويمثل بمجمله طرازًا قوميا حديثا (مودرن)، متطورًا عن الطراز المعماري الإسلامي القديم الذي يتضافر فيه النموذج العربي والموريتاني للقرون الوسطى" (ص 90).

يتميز كتاب "أسرار فولغا بلغاريا" بجمعه الكثير من الآراء والمصادر النادرة وشبه المنسية التي تدل على موقع فولغا بلغاريا في الحضارة الإنسانية وموروثها الثقافي الذي يتمتع به سكان قازان التترية اليوم. ومن بين الأقوال التي أوردها المؤلف ما سجله كبير المؤرخين الروس سيرغي سوليفيوف في حق ثقافة فولغا بلغاريا حيث يقول: "في ذلك الزمان، حين لم يشرع السلافي الروسي في بناء كنائسه المسيحية بعد، كان الفولغي بلغاري يستمع إلى القرآن على ضفاف نهري الفولغا وكاما" (ص 76).

يتخذ المؤلف موقفًا مؤيدًا من أطروحات المؤرخ السوفيتي ميخائيل خودياكوف القائلة بأن تتر قازان كانوا يتمتعون بثقافة متطورة قبل دخولهم إلى حاضنة الإمبراطورية الروسية بوقت طويل، بل إن سياسة (الترويس) ألحقت بثقافتهم ضررًا ملحوظًا. ويشدد الكاتب على كارثية المنهج العلمي التاريخي في هذا الاتجاه حيث يقول: "لقد وقع خودياكوف ضحية دعاية السلطة التي أعدمته بتهمة معاداة الشعب السوفيتي، ليعاد النظر في تهمته بعد عشرين عاما من إعدامه. ومع ذلك ما زالت أعماله العلمية محظورة ومُبعدة عن رفوف المكتبات، حيث إنّ نظرياته لا تتماشى مع العلم التاريخي الرسمي الذي لم يعرف وقتذاك ألوانا سوى الأبيض والأسود" (ص 56).

 لم يرغب الكاتب في حصر كتابه في زاوية ثقافية تاريخية وحيدة (وإن بقي المتن مكرسا لهذه الزاوية) فأخذ يسوق مقولاته عن الشأن السياسي الذي بدأ يتفاعل مع الوضع العالمي الراهن، لا سيما فيما يتعلق بالمزاج الديني المتطرف. ويعتقد المؤلف أنّ الفكر الديني المتشدد لم يعد محصورًا في القوقاز ومتحصنا بجبالها أذ أخذ يتسلل إلى ضفاف الفولغا ويتخذ له مظاهر في الجمهوريات المسلمة الواقعة على ضفافه، وبأنّ ما يتوارد اليوم في تترستان وبشكيريا من بوادر متطرفة يعّد قفزة جيوسياسية إلى وسط روسيا. هناك ما يشبه الحركة التبشيرية بين أوساط الشبيبة ودفعهم للتشدد، وهؤلاء من طينة رقيقة قابلة للتشكل. وهناك خطر الطائفية المدمر للتوازن والسلم المجتمعي. ويُحذّر الكاتب من سلطة الأفكار المتطرفة على مجتمع متعدد الأديان، كما أنّه يرصد وقائع إجرامية اتخذت منزعا دينيا لم يكن له وجود في جمهوريات نهر الفولغا الروسية. 

في الختام، وبعد أن التمس الكاتب والصحفي الروسي يوري سوبرينينكو في كتابه "أسرار فولغا بلغاريا" نهجه الخاص لفك أسرار تلك البلاد العريقة، وبرغم ابتعاده عن موضوعه العام بهذا المقدار أو ذاك، واستبداله خاتم التاريخ بفصوص السياسية، تبقى الزاوية الأكثر كرما وإضاءة في الكتاب، التي أخلص لها الكاتب بعاطفته وأحسن لها بحماسته التأليفية، هي زاوية رسمه لخطوط النفوذ الشرقية العربية في منطقة الفولغا الروسية، واهتمامه البالغ والأصيل بالآثار والقيم الإنسانية الإسلامية في تلك الأصقاع العظيمة.              

------------------------------------------------

الكتاب: أسرار فولغا بلغاريا.

المؤلف: يوري سوبرينينكو.

الناشر: دار نشر "فيتشي"/ موسكو 2016.

اللغة: الروسية.

عدد الصفحات: 224 صفحة.

  *كاتب عماني

أخبار ذات صلة