رضوان ضاوي*
يعتبر كتاب "أسقف في شبه الجزيرة العربية، تجاربي مع الإسلام" للقسّ السويسري باول هندر Paul Hinder، من الكتب القليلة الصادرة حديثاً باللغة الألمانية والتي تتناول مبحث الحوار بين المسيحيين والمسلمين انطلاقاً من مسيحيي الشرق الأوسط. وتكمن أهمّية هذا الكتاب في كشف المجهود الحواري الذي بذله الأسقف باول هندر لتعميق العلاقات المسيحية الإسلامية ميدانيّا، في حين أنّ معظم الدراسات الأخرى على أهميّتها قد عُنيت بالأمور النظرية، وهذا لا يعني أنّ باول هندر لم يستعن بجهود من سبقه في المجال لتدعيم وجهة نظره، ففي كتابه نجده قد اقتبس من كتب مهمّة مثل كتاب الباحث المسلم خورشيد محند "الإسلام هو الرحمة"، وكتاب "مسيحيون عرب، مسيحيون في شبه الجزيرة العربية" لمجموعة من المؤلفين الألمان، وكتاب "حوار مع الإسلام" لشبيربر وغيرها من الكتب.
ويحيل باول على مجموعة من الدراسات الألمانية والغربية وصف فيها مؤلّفوها العلاقة بين الإسلام والمسيحية اللذين يوجدان في منافسة شديدة. ويتعلق الأمر في هذا الكتاب بتجاربه الذاتية ومعايشاته التي يصفها، وهي أوصاف تنطبق خصوصا على منطقة شبه الجزيرة العربية.
ينطلق الباحث في كتابه من قضية محدّدة هي الحوار المتبادل باعتباره أحد الكلمات المفاتيح لعالمنا الحديث، فالحوار بين الأديان مهم جدا من أجل تشييد عالمنا، فلا يمكن بالتالي التخلي عنه. ويحيل الباحث على ما قاله البابا فرانسيسكو بوضوح عن الحوار مع الإسلام والعالم الإسلامي حين خاطب المشاركين في ندوة المعهد البابوي للدراسات الإسلامية في روما قائلا بأنّ التكوين يبقى أفضل حماية ضد كل أشكال العنف، والمشترك بين المسلمين والمسيحيين أكبر من أن نحصيه، ويكفي القول بأنّ النبي إبراهيم هو أب الإسلام والمسيحية، وبأنّ سبأ تمّ ذكرها في القرآن وفي الإنجيل. رغم هذا أصبح اليمن مقبرة للمسيحيين، فقبل تحرير باول لكتابه هذا في نهاية 2015 تمّ قتل أربع مبشّرات وقسّ في عدن.
يشير المؤلّف في هذا المضمار إلى أنّ الحوار بين المسلمين والمسيحيين يحتاج إلى الصبر وإلى التواضع حتى نستطيع التفاعل مع كل الجماعات الدينية، ويجب تجنّب الارتجالية التي يمكن أن تدمّر البلاد وتقود إلى الفوضى. ويشكّل المسلمون والمسيحيون أكثر من نصف سكان الأرض، ودون سلام أو عدالة بين أكبر مجموعتين دينيتين لا يمكن أن يصنع سلام ذو معنى في العالم، فمستقبل هذا العالم مرتبط بالسلام بين المسلمين والمسيحيين. وبدون حوار بين المسلمين والمسيحيين لن يكون هناك تعايش بين البشرية.
والأسقف السويسري باول هندر هو النائب المكلّف في النيابة الرسوليّة لجنوب شبه الجزيرة العربية باللاتينيةVicariatus Apostolicus Arabiae ) منذ أكثر من عشر سنوات، وهي النيابة الرسولية التابعة للكنيسة الكاثوليكية الرومانية ويقع مركزها الإداري في دولة الإمارات العربية المتحدة. وتغطي هذه الولاية الإقليمية لأتباع الطقوس اللاتينية في الكنيسة الكاثوليكية الرومانية البلدان التالية من شبه الجزيرة العربية والمنطقة المحيطة: عمان، والإمارات العربية المتحدة، واليمن.
إلى ذلك يهدف الكتاب إلى التأكيد على حقيقة الوضع الذي يعيش فيه المسيحيون في شبه الجزيرة العربية، فيشير إلى أنه يوجد في سلطنة عمان تميّز عن باقي دول مجلس التعاون بوجود كنائس لكلّ الطوائف المسيحية ومعابد للسيخ والهندوس. وتمارس الجاليات المسيحية حرية العبادة في هذه الدولة من خلال الكنائس الخاصة بكل طائفة، وبهذا عكست سلطنة عمان تجسيداً فعلياً لحوار الأديان وحرية العبادات، وترجمت على أرض الواقع لغة العيش المشترك. وبشكل عام يمارس المسيحيون المقيمون في دول التعاون شعائرهم في أعياد الميلاد، وبحرية داخل المجمعات الكنسية التي بنيت حديثاً وتبرعت معظم حكومات دول المنطقة بأراضيها، باستثناء السعودية التي تحظر هذا النشاط. وبطبيعة الحال يمنع على الكنائس ممارسة حملات التبشير.
من الناحية المنهجية ينبغي أن نشير إلى أنّ باول هندر قد صنّف أنواع الحوار المتبادل إلى أربعة أنواع مرتبطة ببعضها البعض، وهي: 1. حوار الحياة، وفيه يعيش الناس في جوّ من الحياة المشتركة، ويتشارك الناس فيه الحزن والفرح. 2. حوار السلوك، وفيه يعمل المسيحيون وغير المسيحيين من أجل التطور والتحرر الشامل للبشرية. 3. حوار التبادل الديني، حيث يجتمع متخصّصون في حوار الأديان من أجل تعميق إرثهم الديني وتعلّم كيفية حماية قيمهم المتبادلة. 4. حوار التجربة الدينية، وفيه يتقاسم المتعمّقون في تقليدهم الديني، ثروتهم الروحية وتديّنهم. وتبدو هذه التعريفات تقنية، لكنها تصف جيدا الأوجه التي يجب عليها لقاء المحاورين المسلمين. ويقول باول إنه استعان بثلاثة عناصر من خلال تجربته في حواره مع المسلمين وهي: حوار التبادل الديني، وحوار الحياة، وحوار التجربة الدينية وذلك خدمةً للفهم المتبادل.
يعرض المؤلفّ مجموعة من التجارب الخاصّة بموضوع الحوار بين الأديان، ويقول إنّ الحوارات التي تجري في الدول الإسلامية لا يتمّ فيها احترام أسس الحوار، فعقب مشاركته في مؤتمر في مركز الدوحة لحوار الأديان سنة 2007، وبعد ختام الجلسة الأولى ومغادرة المشاركين للقاعة وقف في كل مخارج قاعة المؤتمرات طلبة الجامعة المسلمون ووزعوا على المشاركين نسخاً من القرآن الكريم. ولا يعترض باول على هذا الفعل التبشيري إذا ما تمّ تبادل الكتب المقدّسة بين أطراف الحوار، وحين يكون هذا عرضا حرًا. لكن السؤال المهمّ هنا هو التالي: هل يمكننا أن نقوم بنفس العمل بالنسبة للإنجيل في دول التعاون؟ والجواب هو بالقطع لا. في نفس السنة تلقى البابا بنديكت الثامن عشر رسالة من العلماء المسلمين يدعونه للحوار، ونشر الفاتيكان الرسالة ورحّب بمضمون الدعوة وقال بأنّه مستعد لنقاش حقيقي وديني مع المسلمين. وهنا يحيل بأول على قناعة المسلمين بأنّ القرآن هو كلمة الله، فهم لا يقبلون نقاشاً عميقاً بخصوص القرآن، لأنّهم يقولون إنّه وحي من الله، ويقول باول إنّ مع مثل هذا التأويل الحتمي يكون من الصعب التوصّل إلى حوار بنّاء وجدّي ولا يؤدي إلى حوار تثاقفي وديني دون وضع الإيمان الخاص بين قوسين، لأنّ الاختلاف لا يعني العداء، والمسيحيون مقتنعون أنّهم مثل المسلمين لديهم واجب تربوي وأخلاقي ضمن قيم إنسانية، دينية وأخلاقية.
في مجال الاستنتاجات التي يذكرها في كتابه يرى المؤلّف أنّ حرية التدين في المنطقة العربية التي يشرف عليها غير مكفولة لغير المسلمين. فالكثير من أتباع الهندوسية والبوذية يعانون صعوبات مع المسلمين، إذ بينما يعتبر المسلمون اليهود والمسيحيين أهل كتاب، يختلف الأمر في نظرهم إلى هؤلاء، وكان أحد المسلمين قد قال له: "يمكنني أن أفهم أنّ الإنسان يمكن أن يكون مسيحيّاً أو يهوديّا، لكن لا يمكنني أن استوعب أن المرء هندوسي أو بوذي. هذا إيمان ضال".
ويقول باول إنّ الأمر صعب أكثر في المملكة السعودية، رغم حاجة السعوديين إلى اليد العاملة الأجنبية الخبيرة، وحديث بعض المصادر عن أكثر من ثلاثة ملايين عامل أجنبي، إلاّ أن الممارسة العلنية للدين المسيحي محظورة، ولا توجد كنائس، أمّا امتلاك رموز مسيحية أو أشياء لها علاقة بها أو بالإنجيل أو بالصليب فهو ممنوع. وقبل ثلاث سنوات نادى الشيخ عبد العزيز بن عبد الله المفتي العام في السعودية، بوجوب هدم جميع الكنائس في شبه الجزيرة العربية، قائلاً إنّ الجزيرة تخضع لدين الإسلام فقط وإنّ الرسول يقول (لا يجتمع في جزيرة العرب دينان). ويتساءل باول: ماذا لو عاملت أوروبا المسلمين بالمثل فهدمت مساجدهم في أمريكا وأوروبا؟ ويشير باول إلى حقيقة مجهودات ألمانيا وسويسرا الجبّارة وبتعاون مستمر مع السعودية على منع مآلات هذا الغضب على مثل هذه الفتوى، لأنّ المال يفوز على الإيمان، واقتصاديا تمنح السعودية لسويسرا إمكانية اقتصادية كبيرة بسبب سوقها الكبير، فسويسرا تصدّر الساعات والآلات والمنتوجات الصيدلية، ومن ناحية أخرى تقدّم السعودية شروط استثمار مريحة جداً للدول الناطقة بالألمانية، بسبب الإصلاحات الداخلية العميقة في هذا البلد الخليجي. وحاليّاً تعتبر السعودية الشريك التجاري الثاني لسويسرا في الشرق الأوسط بعد الإمارات العربية.
في كلّ الأحوال، وبخصوص الحديث عن حرية الدين المقيّدة، فعلى الأقل في دولة الإمارات أو في سلطنة عمان لم تكن لدى باول أية مشاكل، فلم يتعرض قط لهجوم أو لعمل عدائي، وكان شعوره بالحرية الدينية في هذين البلدين الذين أتاحا له التجوّل باللباس الديني المسيحي دون أية مشاكل، كبيرة جدّاً، حتى أصبح الأصدقاء من الأهالي يمازحونه لأن لباسه الديني يشبه كثيراً الكندورة التي يلبسها المحليون. ففي الإمارات يمكن للمسيحي وضع رموز مسيحية في السيارة دون مشاكل وهو الأمر الذي يستحيل في العربية السعودية.
يركّز باول هندر في كتابه على ثلاثة مفاهيم أساسية في الحوار بين الدين المسيحي والدين الإسلامي، وهي مفهوم الاهتمام ومفهوم الرحمة ومفهوم اللامبالاة. بدون اهتمام لن يكون هناك بالطبع لا حوار أكاديمي ولا حوار يومي. فمثلاً من المؤكّد أنّ المسيحيين لا يطلبون اعترافاً رسمياً بأعيادهم، لكن الاحتفال هو حق مشروع. هذا ما يتمناه باول أيضا في ألمانيا وسويسرا والبلدان الأوروبية بخصوص أعياد المجموعات الدينية مثل اليهودية والبوذية. وقد عاش باول في منطقة تورغاوThurgau ذات الأغلبية البروتستانتية، رغم ذلك كان يحصل هؤلاء على العطلة المدرسية أثناء الأعياد الكاثوليكية. وهذه الثقافة تقابلها اليوم في كلا المنطقتين في الشرق وفي الغرب ثقافة التخويف وثقافة التخوين. ولكن يبقى الأمل كبيرا في الزجّ بأصوات أخرى في الحوار بين الأديان والتبادل مع الثقافات بهدف منع الاشتباكات والوصول إلى العيش المشترك والابتعاد عن احتقار حرية التديّن. فالأمر متعلق بالحوار التثاقفي، خاصة الحوار الديني الذي يجب أن يؤدي إلى الحد من التعصب والتشدد.
ويرى الكاتب الألماني محمد خورشيد في كتابه "الإسلام هو الرحمة" أنّ أهمّ تيارات وتوجهات الدّين المعاصر تتجلّى في صفة الله كما جاءت في القرآن وهي الرحمة، فالكلمة العربية مشتقة من الرحم. ومفهوم الرحمة له معنى فزيولوجي ومعنى روحي مرتبط بالحب الأمومي، فقد خلق الله البشر من رحمته رغبة منه في سيادة الحب والرحمة. وجهود تثبيت "تقليد الرحمة" في الحياة اليومية سواء في الإسلام أو في المسيحية يمكن أن تكون إحدى النقط المركزية في حوار الحياة بين المسلمين والمسيحيين. ويؤكد المسلم خورشيد والمطران المسيحي كريستوف شونبورن Schönborn على أنوثة الرحمة الإلهية وربطها بالأم. إنها نقطة ربط جميلة من أجل حوار مستمر وشامل وفهم عميق للرحمة. وهنا يتحدّث باول عن أهمّ مشكلة لدى المسلمين – حسب وجهة نظره- وتكمن في أنه يصعب عليهم استيعاب وجود أشخاص يؤمنون بطريقة مختلفة عنهم.
وبخصوص مشكلة المسيحيين، فقد ألحّ باول في بداية فترة عمله مطراناً، على الأوروبيين وعلى وسائل الإعلام الأوروبية بأنّ التديّن لا يضمّ الحداثة بل يتعايش معها، وأنّه "علينا أن نتعلم –حسب وجهة نظري- عدم اعتبار التطوّر الأوروبي هو قمة تطور البشرية التي يميل إليها ويرغب فيها الجميع. لا أشكك في قيمنا، لكن يجب الانتباه إلى مثل هذه الأمور ونكون في الوضع الذي يسمح لنا بكل جرأة ليس فقط الاعتراف بالتطورات في الثقافات الأخرى إنما في بعض النقاط الاعتراف بالتطورات بشكل أفضل مما هو عندنا".
يقول باول إن الحوار بين الديانتين ممكن ويجب أن يكون ممكنا: "يجب على المرء أن يلاحظ بأن الحوار المتداخل الديانات هو طلب له طابع وقائي، هدفه هو تشييد علاقات جيدة مع الناس الذين لهم انتماءات دينية مختلفة، والذين نساعدهم على العيش في سلام وتوافق مع بعضهم البعض".
يرتبط الحوار بالتسامح، وبالاهتمام الذي يعني "الحضور والمشاركة، والاختلاط"، هذا يعني الاهتمام بالجذور وبالإيمان الذاتي كما الاهتمام بالأصل وبالقناعات عند الآخرين، ودون اهتمام لا يمكن لأي حوار أن يتم. وفيما يخص الحوار مع الآخرين، فإن ضياع الاهتمام هو "اللامبالاة" التي في بعض الأحيان نخلط بينها وبين التسامح. فاللامبالاة تساعد على التشدّد، وحين نكون غير مبالين، نكون نحن أيضا مشاركين في الذنب: "لقد آمنت دائما بأن عكس الحب ليس هو الكره، بل هي اللامبالاة، وعكس الإيمان ليس هو الغطرسة، إنّما هي اللامبالاة، وعكس الأمل ليس هو الشك، بل هي اللامبالاة. واللامبالاة ليست هي بداية عمليّة ما، إنّما هي نهاية العملية".
تكمن القيمة العلمية لهذا الكتاب في كونه يقارب موضوعاً فريداً ويخوض صاحبه مغامرة علمية جريئة بمحاولته الكشف عن مسالك الحوار بين المسلمين والمسيحيين من خلال عرضه وتحليله للعلاقات التاريخية والثقافية والمشترك الإنساني وحاجات عالمنا المعاصر، وهي كلها عوامل تجعل العيش المشترك والاحترام المتبادل بين مختلف الديانات مطلباً كونيّاً لا تختصّ به جماعة دينية دون غيرها، بل هو ملك للبشرية جمعاء، ولعلّ ترجمة لهذا الكتاب إلى اللغة العربية قد تكون مسلكاً مهمّا ضمن مسالك الحوار التي نحتاجها في هذه الفترة العصيبة من تاريخ أمتنا.
*باحث في الدراسات المقارنة/ المغرب
----------------------------------------------------------------------------------------
الكتاب: أسقف في شبه الجزيرة العربية، تجاربي مع الإسلام.
الكاتب: باول هندر
لغة الكتاب: اللغة الألمانية.
دار النشر وسنة النشر: دار هردر، فرايبورغ، بازل، فيينا، 2016.
