الإصلاح البروتستانتي في أوروبا خلال القرن السادس عشر

Picture1.png

لوتشِيا فيليتشي

عز الدين عناية*

بحلول شهر أكتوبر من العام الجاري تكون قد انقضت خمسة قرون على وجه التحديد منذ انطلاق حركة الإصلاح البروتستانتي الهائلة في أكتوبر 1517م، وذلك عقب تعليق احتجاجات الراهب مارتن لوثر الخمسة والتسعين على باب كاتدرائية ويتنبيرغ. فقد خلّف ذلك الحدث صدى واسعا في الأوساط الكَنَسيّة ولدى الشرائح الاجتماعية على حدّ سواء، وانعكسَ تحولاً جذريا في القارة الأوروبية، امتدّت آثاره إلى كافة أرجاء العالم الغربي. فما كان احتجاج لوثر أمراً دينياً، محصورا في جوانب لاهوتية مسيحية فحسب، بل كان ثورة "إيتيقية اجتماعية" أيضًا، تخلّلها بعدٌ حداثيٌّ بارز، أثّر في مسارات الإنسان الغربي. بما أضفاه من موجة إصلاح لأوضاع دينية متردّية، ومن تحوير جذري لمسار أوروبا، انعكست أبعاده على مجريات التاريخ العالمي أيضاً.

فعلى إثر الموجة العارمة من الاحتجاجات، نشأت في الغرب كنائس ودولٌ وأفكارٌ وقيم جديدة، غيّرت بشكل فاعل إطار المجتمعات المسيحية المعهود، ودشّنت مسارا جديدا باتجاه العصر الحديث. ما كان ذلك التحوّل يسيرا ولا خاطفًا، بل جاء عسيرا وطويلا، تخلّلته حروب مُدمّرة وانتهاكات فظيعة وفتن متتالية، غير أنّ بوصلة الإصلاح ما حادت عن هدفها المنشود، رغم العراقيل المتنوعة، لتسيرَ صوب إرساء الحرية وترسيخ التسامح وعلْمَنة الدولة والمجتمع. يحاول هذا المؤلف إعادة بناء تلك المخاضات الإصلاحية فكريا وسياسيّا، مبرزا الأوجه العقدية والأيديولوجية التي شكلت حاضنة ذلك التحول، مع تقديم إطار عام وشامل للإصلاح البروتستانتي بكافة رجالاته وتياراته التي رافقت لوثر وكالفن وزونجلي ومونتزر. كما يُولي عناية للجانب الإيطالي في المسألة، رغم وقوف روما خصماً عنيدا للإصلاح، لم تدّخر فيه الكنيسة جًهدا لاجتثاثه والانحراف به، عمادها في ذلك حملة مناهضة، عرفت في تاريخ الكنيسة بحركة "الإصلاح المضاد". إذ صحيح أنَّ دولة الكنيسة تحضر قوة نافذة في الفضاء الإيطالي، ولكن هيمنتها تشمل كافة أوروبا الغربية تقريباً، ليحضر حبرُ الكنيسة الأعظم بمثابة ملك الملوك الأرضي.

والجلي أن بحث البابوية عن تنفّذٍ في الأوساط السياسية قديمٌ، وقد انطلق منذ أواخر القرن الحادي عشر مع اعتلاء البابا غريغوريوس السابع سدة بطرس سنة 1075م، وتدعّم ذلك في القرنين اللاحقين مع أحبار الكنيسة غريغوريوس السابع وإينوسنت الثالث وبونيفاس الثامن، بجمع السيفين (السلطة الزمنية والسلطة الروحية) في غمد واحد. إذ ما كانت لتلك الصياغة التي صاغها أحد أبرز آباء الكنيسة سيبريان القرطاجي "لا خلاص خارج الكنيسة" (extra Ecclesia nulla salus) دلالةٌ دينيةٌ فحسب، بل دلالة سياسية أيضا، ناهيك عمّا منحه توما الأكويني بعمله اللاهوتي المحوري "الخلاصة اللاهوتية" من أرضية صلبة لكنيسة روما، أَكسَبت البابا دعامة قوية.

الكتاب الذي نعرضه هو من تأليف لوتشِيا فيليتشي، أستاذة التاريخ الحديث بجامعة فلورنسا الإيطالية، التي سبق لها أن نشرت العديد من الأبحاث حول الإصلاح البروتستانتي وحول مسألة التسامح في القرن السادس عشر. نذكر من بينها: "نبوّات الإصلاح وأفكار الوفاق الديني" (2009)؛ "جان كالفن وإيطاليا" (2010)؛ "الإصلاح الجذري في أوروبا خلال القرن السادس عشر" (2012).

تُقسّم الكاتبة مؤلفَها إلى أربعة أقسام، مستعرضةً في القسم الأول مختلف إرهاصات الاحتجاج المبكرة، التي دبّت في مختلف البلدان الأوروبية ضدّ سائر أشكال الفساد والانحراف والزيغ التي تنخر الكنيسة، مُطلقةً عليها "روما البابلية"، لما تحوزه مدينة الشرق القديم بابل في المخيال المسيحي الغربي من رمزية مدنّسة مقابل أورشليم المدينة المقدّسة، وهو تصوّرٌ قديمٌ مستوحى من التوراة، حاول لوثر توظيفه عبر رسالة شهيرة صاغها إبان استفحال الصراع مع كنيسة روما بعنوان: "شرور الكنيسة البابلية" (1520-1521م). ونصُّ لوثر في الأصل مدوّنٌ باللاتينية، تخطّى فيه صاحبه حدود الخطاب الموجه لرجال الدين، من إكليروس وكهنة، إلى معالجة قضايا على صلة بالإصلاح الطقسي وأسرار الكنيسة ليعرضَ طروحات تحوّر من مهام كنيسة روما برمّتها. ويمثّل استغلال رمزية روما-بابل من قِبل الدعاية البروتستانتية محوراً أساسيا في استراتيجية الاحتجاج.

في القسم الثاني من الكتاب المعنوَن بـ"لوثر من الاحتجاج إلى بناء الكنيسة" يلوح جليا مدى اتساع حركة الإصلاح، رغم أنها بدت شبه معزولة في البدء. فقد سرت دعوة لوثر في كافة شرائح المجتمع الألماني لتعدُّدِ مضامينها الدينية والمدنية على حد سواء. وكما لقيت حظوة في أوساط اللائكيين بِحثّها على الإصلاح الاجتماعي، لقيت بالمثل ترحيبا في أوساط طائفة من رجال الدين أيضا، ممن تطلّعوا إلى التسيير الروحي المستقلّ عن هيمنة المركز في روما. إذ سرعان ما وجدت دعوة لوثر هوى لدى الأمراء الألمان ممن أثقل كاهلهم الرضوخ القسري لروما، لِيمثّل الإصلاح بالنسبة إليهم فرصة للتحرر السياسي والمالي. حيث شكّل العامل الاقتصادي عنصرا حاسما في تشجيع الأمراء الألمان حينها لموالاة لوثر ومناصرته. ومثّلت دعوات التحرر من هيمنة البابا فرصة سانحة للدول والإمارات الأوروبية للتخلص من وِصاية كنيسة روما، وبالمثل أملا واعدا لتحقيق الاستقلال والتخلص من هياكل النظام الإقطاعي البالية والتحول باتجاه أشكال حديثة.

فقد وَجدَ ذلك التحالف الجلي للوثر مع المناهضين السياسيين للكنيسة صدى في رسالته: "الأمة الألمانية وسموّ الرسالة المسيحية بقصد الرقي بأوضاع المسيحية"، وهي عبارة عن نداء للإمبراطور والأمراء والنبلاء الألمان لترسيخ سلطاتهم المدنية وموالاة الإصلاح بما يتجاوز الولاء للكرسي البابوي. وبالمثل في رسالة أخرى بعنوان: "حول حرية المسيحي" (1520-1521م)، وهي عبارة عن معالجة لمسألة الحرية من زوايا دينية ومدنية، حاول لوثر ملامسة مشاغل المسيحي الأوروبي الحقيقية من خلالها. إذ ما كان للوثر أن يحقق نجاحًا مظفراً لولا تحالف اللائكيين والأمراء الألمان معه، فقد كان كلاهما يسعى لترسيخ استقلالية على المستوى الاجتماعي والسياسي والاقتصادي.

وفي قسم ثالث بعنوان "مسالك أخرى نحو الإصلاح" تطرّقت الكاتبة لوتشِيا فيليتشي إلى توسع حركة الإصلاح، التي شملت شخصيات كثيرة إلى جانب بروز وسائل جديدة في ترويج الأفكار ما كانت معهودة، مثل الصحافة والطباعة. فمن جانب فسح المسار الذي دشّنه لوثر الطريق أمام زعامات إصلاحية أخرى في أوروبا، بدا ذلك جليا مع جان كالفن في سويسرا، وهو الذي شهد العمل الإصلاحي معه طورا لم يعهده رفاقه. فقد كان تأثير كالفن على مستوى أوروبي لافتا، ليمتدّ لاحقا إلى أطراف العالم الجديد. في ذلك العهد كانت جينيف، مدينة كالفن الأثيرة، معقلاً للاجئين والمغتربين والكتّاب والسياسيين من كافة أصقاع أوروبا، من فرنسا والبلاد المنخفضة وأسكتلندا وإنجلترا ومن شرق أوروبا ومن بوهيميا ومن المجر ومن بولونيا، ما سنحَ لدعوته بالرواج على نطاق واسع والتواصل مع فضاءات نائية ما كانت متاحة لمصلحين آخرين. ومن جانب آخر، وعلى خلاف منهج لوثر في الإصلاح، تركّز عمل زونجلي بالأساس في الجانب الطقسي وألحّ على إدخال تحويرات جذرية على مستوى الشعائر والأسرار وأنظمة الكهانة. جعل ذلك التنوع بين رجالات الإصلاح حركة الاحتجاج شاملة في أوروبا، وما انحصرت بالشأن الديني تحديدا، بما مسّ مفاهيم العمل والزمن والمجال الديني والمجال المدني والمسائل الجنسية وغيرها.

وفي جانب توظيف المبتكرات الجديدة لترويج رسالة الإصلاح، بدا ذلك حاسما وفاعلا مع مجال الطباعة، وهو من أبرز المجالات التي تسلّطت عليها الرقابة الكنسية في روما. حيث مثّل فنّ الطباعة الناشئ مسرح نزاع بين مروّجيه ومستغلّيه من جانب، ورجالات الرقابة الموكلين من قِبل الإكليروس من جانب آخر. فقد كان لتوظيف فنّ الطباعة في ذلك العهد دورٌ حاسمٌ في انتشار أفكار الإصلاح التي نادى بها الرواد. وسرعان ما ارتبطت الطباعة بحروف متحركة، وترافق انتشار الإصلاح البروتستانتي بنشأة هيئات كنسية حاولت إضفاء مراقبة.

لم تدّخر كنيسة روما جهدا في محاصرة الإصلاح بشتى السُّبل، رغم ما كان يعتمل بداخلها من خَوَر معرفي وجُمود فكري، فما كان تكوين الرهبان الديني عميقا أو مؤثرا، إذ كانت تسود في أوساط الكنيسة معرفة مدرسية وعقدية جامدة بالدين وباللاهوت، لكن تلك المحدودية الدينية ترافقت مع تطور للجهاز الرقابي الكنسي وذلك منذ تأسيس محاكم التفتيش في القرن الثاني عشر التي تولى أمرها الفرنسيسكان والدومينيكان بدعوى محاصرة الانحرافات في العقيدة. فقد حصل تراجع فعلي في إعداد اللاهوتيين الناشطين في الكنيسة وعوّضه جهاز رقابي مؤثر، وحتى المنضويات من الراهبات، فما كن يسلكن طريق الرهبنة طوعا بل في الغالب قسرا، مما كان مدعاة لانحرافات أخلاقية جلية في تلك الفترة.

في عام 1526م، كتب الأفينوني فرانسوا لامبرت أن الله قد أوحى بفنّ الطباعة؛ بهدف نشر الفكر الإصلاحي، كما أعلن لوثر ذاته -الذي كان أكثر من يُجيد استخدام التقنية الجديدة- أن "الطباعة آخر وأعظم نِعم الله؛ لأنه أراد أن يُعرّف بها جوهر الدين الحق في كل مكان، وحتى أقاصي العالم، وينشره في جميع اللغات". في ذلك الجو المتوتر كان ظهور ردة فعل من جانب كنيسة روما حتمياً، حيث سادت نظرة إلى الكِتاب باعتباره خطراً، أو مرضاً معدياً، يجب الحدّ من انتشاره، بل ومنعه بشتى السّبل، وشكّلت الكنيسة، خلال أعوام قليلة، جهازاً رقابياً واسعاً ومركبًا امتد من الباعة والمروجين إلى رجالات التعليم والمثقفين، وكان من المزمع أن يمتد نشاط الرقابة وفق ما خُطّط له إلى القارة الأوروبية بأكملها، وقد صار نموذجاً لأي تنظيم رقابي، بوليسي، ينوي سيطرته على التفكير المستقبلي، كما ترك آثاراً بليغة على حياة الأفراد، وعلى علاقتهم بالواقع، والسلطات، وعلى تطور العلوم، والمعرفة بشكل عام.

في القسم الأخير وتحت عنوان: "الإصلاح الجذري"، تُبرز الكاتبة لوتشِيا فيليتشي عمق المضامين اللاهوتية لثورة الإصلاح، علاوة على الأبعاد السياسية والاقتصادية والحداثية. بالإضافة تبيّن أن رفع البروتستانتية شعاريْ "الكتاب وحده هاديا ودليلا" (sola Scriptura) و"بالإيمان لا غير تحصل النجاة" (sola fide) كمطلبين جوهريين، سعياً لسلب كنيسة روما مشروعية الوصاية على ضمائر الناس، وبغرض تحرير الدين من المفاهيم البالية. فقد نشأ الإصلاح بدافع التخلص من "الطغيان البابوي" ولأجل بناء حرية المسيحي الروحية، فكان نعت حبر الكنيسة الأعظم بالمسيح الدجال. وفي جدل الإصلاح مع رجالات الكنيسة استحوذ هاجس بناء "كنيسة الرب الحقيقية" على لوثر. لكن لا يخفى ما لتلك الموجة العارمة من آثار سلبية على المجتمعات الأوروبية، فكان من نتائج الإصلاح المباشرة نشأة ما يُعرف بـ"الأديان المسلَّحة" والمقصود التوجهات التأويلية المسيحية المتضاربة والمتصارعة، بالقول وبالفعل، وهو ما خلّف حروبا طاحنة على نطاق واسع ورسّخ تحالفات سياسية وعسكرية، حتى أُطلق على ذلك العهد "قرن الحديد" لضراوته وحدّته.

والجلي أن الإصلاح لم ينشأ من فراغ، بل سبقته إرهاصات متنوعة. ويمكن الحديث عن الإصلاح البروتستانتي بما يشبه الانفجار الهائل الذي سبقه احتقان واسع. فمنذ القرن الثاني عشر كان فالدو دي ليون يبشِّر في جنوب فرنسا وفي شمال إيطاليا بالفقر الرسولي وبإشاعة الكتاب المقدس في أوساط العامة. وبعد قرنين جاء جون ويكليف (1330-1384)، وكان يوجه انتقادات صارمة للكنيسة من منظور سياسي. ولاحقا كان موقف إرازم مسكونا بطابع إنساني كوني ينحو للمصالحة بين الأديان. لم تخل فيه دعوته من الانفتاح على الرؤى المسيحية الجديدة وبما يفوق انفتاحه على الأديان الأخرى. كما شكلت الحركة الإنسانوية ضربة صاعقة للاحتكار الثقافي الكنسي من خلال الإلحاح على كرامة الذات البشرية، والمناداة بسمو العقل والعودة للأصول. ناهيك عما وفرته الفيلولوجيا، التي تطورت مع لورنسو فالا، من أدوات مناهضة للدغمائية.

مارتن لوثر هو شخصية متجذرة في القرون الوسطى بيْد أنه شخصية منفتحة على العصر الحديث. أدخل بطروحاته قطيعة جذرية مع المدوّنة المسيحية التي سادت على مدى قرون، بما ولّد طروحات مجتمعية جديدة. حيث سرّعت الاحتجاجات اللوثرية من وتيرة التحولات داخل الدول وداخل الكنيسة، وبالمثل في الاقتصاد وفي الثقافة، وهو ما غيّر وجه أوروبا.
--------------------------------------------------------------------------------------------------

الكتاب: الإصلاح البروتستانتي في أوروبا خلال القرن السادس عشر.

تأليف: لوتشِيا فيليتشي.

الناشر: كاروتشي (روما) 'باللغة الإيطالية'.

سنة النشر: 2017.

عدد الصفحات: 326ص.

 

* أكاديمي تونسي مقيم بإيطاليا

أخبار ذات صلة