عبدالله العلوي
تعدَّدت الكُتب والمقالات والمُؤلفات الشرقية حول مظاهر الاستشراق وإيجابياته وسلبياته، وأهدافه، فمنهُم المعارض قطعًا، ومنهم المؤيد ومنهم من يقف بينهما، وقد اختلفت مظاهر الاستشراق منذ بدايته إلى عصرنا هذا، وما زال الإنتاج الاستشراقي في مجالات العلوم الشرقية باقياً ومستمراً، وقد نظر العرب خاصة إلى ظاهرة الاستشراق نظرة المُتفحص والقارئ المُنتقد، مما أنعش المكتبات العربية بالمؤلفات والمقالات حول مادة الاستشراق، ولم يقتصر الأمرُ على الكتابات العربية؛ حتى في الغرب كان لهم النصيب الأوفر في قراءتهم لظاهرة الاستشراق، ومن ذلك مقال للمفكر الألماني ستفان ليدر الذي عنوانه "الاستشراق ونشر التراث العربي: الاتجاهات النهضوية والسياقات الفكرية والثقافية".
في حقيقة الأمر أنَّ الحديث عن الاستشراق في مقالٍ واحدٍ يُعد من الظلم ومن الصعوبة، لأنَّ مادته مادة غزيرة، ودراستها بهذه السرعة هضم لحقها، ولكن لا ضير أن نمر عليه مرورًا سريعًا. ويمكن أن نقول بسهولة إنَّ الاستشراق هو دراسة العلوم في البلدان الشرقية عامة والبلدان الإسلامية خاصة، ويدخل في ذلك الهند والصين واليابان وغيرها من البلدان الشرقية، وتعريف الدكتور ساسي سالم الحاج في كتابه "نقد الخطاب الاستشراقي" أعده تعريفًا سهلا مجملًا، فهو يقول بأنَّ الاستشراق هو "ذلك العلم الذي تناول المجتمعات الشرقية بالدراسة والتحليل من قبل علماء الغرب"، ومما أعجبني في التعريف هو أنَّه جعل الاستشراق علمًا، ولم يقل آراء، فهو وإن عارض هدفه العلم، ولكن في حقيقته هو علم لأنَّه نقد وتحليل ودراسة وتحقيق، وهذا ما يحتاجه العلم.
لقد تباينت الآراء في الأوساط العربية خاصة حول وجود الاستشراق، ويبدو أنَّ رأي إدوارد سعيد في كتابه الشهير "الاستشراق" كان سببًا مُباشرا حول هذا التباين في الآراء، فهو يرى أن الاستشراق "أسلوب غربي للهيمنة على الشرق، وإعادة صياغته وتشكليه ومُمارسة السلطة عليه"، وزاد من هذا الرأي أنّه عاش في وسط المجتمع الثقافي الأوروبي والأمريكي، فهو لا يتكلم عن غير معرفة ولكن يتكلم وهو في وسط المجال، مما جعل الكثير من المستشرقين يردون عليه في مقالات كثيرة نافيين كل ما قاله، مُفندين كل رأي جاء في كتابه آنف الذكر، في المُقابل هناك من المشرقيين يرون غير ما يرى إدوارد، فيرون أنَّ الاستشراق هو نهضة علمية عارمة حققت وما زالت تحقق النتاج العلمي من وجودها، وأنها مرحلة لا بد من وجودها، فقد استطاع أن يخرج الكثير من التراث العربي المطمور في الكتب، ونتيجة لاهتمامهم بالمخطوطات والمؤلفات والشروحات وغيرها ساهم في إنعاش المكتبة العربية بالنتاج العلمي.
ربما كان هدف الاستشراق استعماريًا سياسيًا، ولكن لا يُمكن أن نقول إنَّ كل المُستشرقين كان هدفهم استعمارياً أو سياسيًا، فهناك الكثير منهم من أنصف الإسلام إنصافًا حقيقيًا، فليس المستشرق خادمًا للسياسة ورجالها، ويفترض أن يكون إلى حدٍ بعيدٍ مُتجردًا من الرغبات والعواطف والذاتية والشخصية سواء كانت دينية أو إقليمية أو سياسية، ولكي يكون العلم علمًا لا بد من التَّجرد من كل شيء، لكن في المُقابل وجدنا أنَّ هناك الكثير من المستشرقين هضم حق الإسلام والمُسلمين، خاصة في المراحل الأولى من الاستشراق.
إنَّ النظرة السلبية القاتمة عند الكثير من المُستشرقين غير المُنصفين تجاه الشرق جعلت من بحوثهم وكتاباتهم مملؤة بالحقد والتحقير والتنقيص من شأن الشرقي عامة والعربي والمسلم خاصة، فالمستشرقون في العصور الوسطى ظلموا الإسلام ومُعتنقيه ظلمًا فاحشًا، وربما يرجع ذلك إلى تفوق الإسلام في تلك الحقبة الزمنية، فقد كانت أوروبا تُعاني من الاستبداد الديني والسياسي، وخاف الكثير منهم من ضياع المسيحية في وسط الأفكار والعقائد الإسلامية، ولا نذكر ذلك جزافًا فهناك اعترافات كثيرة من قبل مُستشرقين أنفسهم، ونعطي على سبيل المثال المستشرق الروسي ألكسي جوافسكي (Alexy Zhurarsky) حيث يقول: "لقد هيمن على الإدراك (الوعي) الأوروبي في القرون الوسطى الموقف السلبي الصريح تجاه الإسلام، على الرغم من أنَّ الأطروحات والمؤلفات المُصنفة ضمن هذا المنحى قد انتشرت عندئذ بأشكال وصيغ مُختلفة ومتمايزة" إذن فالأمر يقع ضمن إطار الدين والخوف من سيطرة الإسلام على الدين المسيحي، كما أنَّ نظرتهم الدونية إلى العربي والمسلم كان لها الدور في جعل العرب ينظرون إلى الاستشراق بأنه خطة استعمارية، لم يكتف مثل هؤلاء المستشرقين في نقدهم للعربي المسلم، بل زاد الأمر إلى المساس بشخصية مُحمد، والقرآن الكريم فوصفوه بصفات شاذة ساقطة، كما أنَّهم شوهوا الإسلام، وكل تلك الكتابات المشوهة كونت عند الأوروبيين تصورات وإدراكًا جماعيًا بأنَّ الإسلام دين الكذب والتزوير والشهوة والاحتقار والجبر والانحلال الأخلاقي، وأنَّه دين لا يعرف إلا الدم، ولم تقتصر هذه النظرة على رجال الدين المسيحي فقط، وإنما ظهر فنانون يُؤيدون الفكرة ويؤلفون لها، مثاله الإلياذة لهوميروس، وكذلك لوحات الفنان الفرنسي أنطون جان جرو، كل ذلك كان داعمًا حقيقيًا لنظرة المُسلمين في أن الهدف هو استعماري أكثر من كونه علمي.
وعندما جاء عصر النهضة الأوروبية وهو عصر التنوير أنصف المشرق العربي انصافًا حقيقيًا، رغم وجود آثار العصور الوسطى ونظرتهم السلبية، مع ذلك ظهر مستشرقون وضعوا كل شيء في ميزانه، لأنَّهم آمنوا بقدرة العقل وصلاحه، وانطلقت في مكافحة الاستبداد الديني والعلمي سواء على مستوى الكنيسة أو على مستوى الحكم السياسي، فوجدنا من راجع الكتب العربية والإسلامية، ومنهم من ترجم القرآن، ومنهم من استنبط من القرآن آراءه دون الرجوع إلى تفسيرات وتحليلات العُلماء المُسلمين، وبدأ المستشرقون اهتمامهم المنصف، فوصفوا الإسلام بالتسامح والوسطية، ولم يقتصر الاهتمام بالعلوم الدينية فقط، بل صار اهتمامهم حتى بالشعر، وبدأت التحقيقات والتفسيرات والكتابات الكثيرة، كما أنَّ اهتمامهم بالتاريخ والأدب والشعر والقصص والعلوم التطبيقية، وبدأ المستشرقون في تعلم اللغة العربية تعلمًا مُتعمقًا، وظهرت مدارس مختلفة للمستشرقين وأنشئت المعاهد الخاصة بالدراسات الاستشراقية.
مع وجود الصراع العلمي بين الشرق والغرب لا بد من تعاون صريح وتقارب صادق بينهما، فوجود هذه المشاحنات لا يُولد علمًا، وإنما يجعلنا في منأى عن العلم، "فالمعرفة الإنسانية متنوعة الروافد، ولا يمكن إرجاعها إلى إنتاج حضارة واحدة بعينها، بل هي حصيلة إسهامات مُشتركة لحضارات مُتعددة. يقول الكاتب الألماني ستفان ليدر في مقاله المذكور سابقًا: "العلم لا يبرر، ومن يهتم بالدراسات العربية والإسلامية -وإن كان غير عربي – ومن يهتم بالتاريخ الأوروبي – وإن كان عربيًا- لا يحتاج إلى التبرير، لأنَّ التراث البشري ليس حكرًا على أحد".
