أم كلثوم الفارسي
نستخدم مصطلح التحضر بكثرة وبأشكال مختلفة خلال حياتنا اليومية، فنقول هذا مجتمع متحضر، وهذا شاب متحضر، وغيرها من الجمل الكثيرة، فالتحضر "هو كل ما يميز أمة عن أمة أخرى، من حيث العادات والتقاليد، أسلوب المعيشة والملبس، والتمسك بالقيم والأخلاق" والتحضر يحمل في اللغة معاني الاستقرار والرفاه وهذا ما اختاره العالم ابن خلدون في توصيفه للتحضر على أنه:"نمط من الحياة المستقرة ينشئ القرى والأمصار ويضفي على حياة أصحابه فنونا منتظمة من العيش والعمل والاجتماع والعلم والصناعة..." من هنا ندرك بان الحضارة مفهوم وصفي وليس قيميا: بمعنى أن الحضارة نمط حياة لا يحمل في مضمونه أي معنى للخير أو الشر: بمعنى آخر الحضارة حالة اجتماعية فقط.. وإنّ اعتبار الحضارة مفهومًا قيميًا يترتب عليه كثير من المحاذير في إدخال بعض الحضارات القائمة إلى قائمة أهل الخير.
وجدير بالذكر أنّ التحضر لا ينشأ إلا بعوامل فاعلة يرجع بعضها إلى الإنسان ذاته وبعضها إلى البيئة الطبيعية التي يعيشها الإنسان. وقد حصرها مالك بن نبي رحمه الله في أربعة عوامل: الأفكار (بصورة عامة) والإنسان والتراب والزمن. وأول هذه الشروط هي الفكرة: أي أن قوما ما يؤمنون بفكرة واحدة ثم ينطلقون لتطبيقها في الواقع بحماس يوازي قوة إيمانهم بها.
ومما لا شك فيه أن أساس الحضارات أصولها الفكرية والأخلاقية التي قامت عليها حيث أن كل حضارة تصطبغ في منهجها كله، وفي إنتاجها جميعه بلون الفكرة التي منها نشوؤها وتطورها، حتى يتكون من ذلك في كل حضارة فقه خاص بها، يتمثل في منطق داخلي تقام عليه بنيتها، وتتحكم به سيرورتها، انفعالاً بالفكرة التي نشأت منها. وأن المنطق الذي يحكم الحضارات، يختلف من حضارة إلى أخرى، تبعاً لاختلاف الأفكار التي أنشأت كلاً منها، وبالتالي تبعاً أيضا للخلفية الفكرية والعقدية والأخلاقية. ومن ذلك كان تمايز الحضارات وتنوعها عبر التاريخ وبذلك استحقت الحضارة الإسلامية أن تكون جديرة بلقب الحضارة النورانية لأنها أشعت بنورها السماوي الصافي على كل الحضارات وبفضلها استطاعت الحضارة الغربية أن تخرج إلى النور بعد أن أخذت ببقايا الحضارة الإسلامية فقامت عليها.
وبناء على هذه المقدمة سنتناول في هذا المقام مقالا للباحث التونسي - نور الدين الخادمي - حول فقه التحضر من منظور مقاصد الشريعة الإسلامية والذي يهدف من خلاله إلى دعم التوجه الرامي إلى إحياء الدور الحضاري للإسلام برؤية فقهية جديدة، حاول فيه أن يقدم تحديدات هي الأكثر وضوحاً وتماسكاً لمفهوم (فقه التحضر) بحيث يعطي هذا المفهوم إمكانية التقبل العلمي والموضوعي، أو على أقل تقدير إخراج هذا المفهوم مما يمكن أن يحيط به من ضبابية وغموض، ويضع له حداً منطقياً، على الأقل ليبرر لنفسه استعماله بقناعة ووضوح.
حيث استهل الكاتب مقاله، بتوصيف المفاهيم الخاصة بفقه التحضر ومقاصد الشريعة، وذلك لتقديم رؤية عامة لفقه التحضر، انطلاقا من كونه فعلا حضاريا إسلاميا معاصرا، مبنيا على مرجعية مقاصد الشريعة، حيث إن من المعلوم أن الفعل الحضاري، هو الإنتاج المادي والروحي، وتحقيق النفع وتقرير العبادة والعمارة في مستقر الأرض، أمّا مقاصد الشريعة فهي قواعدها العامة وغاياتها المنشودة بوسائلها المشروعة، وإسناد الفعل الحضاري لمقاصد الشريعة تفعيلا للغايات الشرعية، بتفعيل وسائلها الموصلة إليها مفرداتها المكونة لها، على نحو الضروريات والحاجات والتحسينات في مجال الحياتين- الدنيا والآخرة- وجلبًا للسعادتين – سعادة الدنيا وسعادة الآخرة - وكذلك على مستوى مراعاة مآلات الفعل الحضاري، ومدى تحقيق مقدار المصلحة جلبًا، والمفسدة دفعًا، ومراتب ذلك وآثاره على الفرد والمجتمع.
ويُشكّل هذا الفقه (فقه التحضّر) أحد المطالب الملحّة في العصر الحاضر، معرفيا ومنهجيا وتاريخيا وإنسانيا، بما يحقق التخصص والتنوع والإضافة والإبداع والوعي بالذّات وبالآخر، ورسم مسار من الاتّفاق أو الوفاق والتعايش والتسامح والتثاقف، وفق أرضيّة معرفيّة وحضاريّة مشتركة محدّدة المعالم والضوابط والآليّات.
ثمّ إنّ القول بأنّ التحضّر هو قمّة التمدّن أو قمّة العمران، أو انتقال إلى الكماليّات والترف والتحسينات، يُفهم منه تقرير كون الضروريّات مطلبا ابتدائيّا أوّليّا لعمليّة التحضّر؛ إذ لا يُصار إلى طور الكماليّات والتحسينات إلاّ بعد تحقيق الضروريّات والأساسيّات، فلا يُعقل أن يزاول المرء متاعا تكميليّا وهو مهدّد في حياته أو إحدى ضروريّاته اللازمة. فالوعي المتبصر بالمقاصد سبيل للبناء الحضاري، وفقًا للإمكانات ومراعاةً للزمن واتباعا لمقاربات ذلك.
ومما تجدر الإشارة إليه أنّ هناك توافقا إلى حدّ كبير بين مضمون الضروريّات المقاصديّة الشرعية والضروريّات الحضاريّة فيما يتعلق بالتحضر، وإن كان الأسلوب التعبيري يختلف أحيانا كثيرة. ومما يؤكد ذلك وجود عبارة الضرورات التي يذكرها المفكّر الفرنسي(جورج باستيد) عند تعريفه للحضارة بأنّها التدخّل الإنساني الإيجابي، لمواجهة ضرورات الطبيعة، تجاوبا مع إرادة التمرّد في الإنسان، وتحقيقا لمزيد من اليسر في إرضاء حاجاته، ولإنقاص العناء البشري. ويقابل هذا القول ما جاء عن الإمام الشاطبي قوله: (تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق). وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام: الأول أن تكون ضروريّة والثاني أن تكون حاجيّة والثالث أن تكون تحسينيّة. (فأمّا الضروريّة) فمعناها أنّها لابدّ منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فقدت لم تَجْرِ مصالح الدنيا على استقامة؛ بل على فساد وتهارج وفوت حياة. وفي الآخرة فوت النجاة والنعيم، والرجوع بالخسران المبين. وعلى أي حال، فإنّ الضروريّات المقاصديّة الخمس أو ما يعرف بالضروريّات الخمس، أو بالكليّات الخمس، وهي: حفظ الدّين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال، تكون شاملة لكلّ شؤون الحياة، سواء بالإبقاء على عددها وترتيبها المعروف -مع إمكانيّة التفصيل والتفريع والتوسيع، بحسب بعض الاعتبارات العلميّة والمنهجيّة والواقعيّة- أو بزيادة بعض الكليّات وتغيير العدد المعروف. وهذا كلّه رهين ببعض المنطلقات والحيثيّات الّتي يتّخذها الباحثون والناظرون في تحديد ما يريدون وضبط ما يطلبون.
أظن غالبا وراجحا أن إحالة التحضر -بمضمونه المتكامل وبأشكاله المتنوعة وبأبعاده المختلفة- على المنظور المقاصدي الإسلامي الضروري، سيحقق الخير الكثير على مستوى الالتقاء على تعزيز المشترك الإنساني في مجالات الإنتاج المعرفي والمادي والروحي والبيئي، وغير ذلك.
ودراسة فعل التحضر من منظور المقاصد الضرورية لا يعني وقوع التطابق الكامل -أو ربَّما التطابق الأغلبي- بين هذه المقاصد وبين التحضر الإنساني المختلف الأبعاد والمظاهر، باعتباره فعلا إنسانيا متعدد المنطلقات الفكرية والثقافية والمذهبية؛ إذ إن هذا التعدد في المنطلق يكون أحد أسباب التعدد في طبيعة التحضر وسماته وأشكاله وآلياته، وإنما يعني تقرير التوافق أو التقارب بين مختلف الصنائع الحضارية خدمة للمشترك الإنساني، وانطلاقا من البعد المقاصدي الإسلامي الضروري الذي يشكل مساحة مرجعية مرنة ومتسعة وثرية، يمكن أن يتحقق به هذا التوافق أو التقارب.
