صيرورة الحداثة عبر التاريخ: بين الشرقي -الغربي والأوروبي-الأمريكي

أمجد سعيد

في هذه الآونة الحرجة من صيرورة العَالم، وعلى هذا المُنعطف الضيق جداً، يأتي دور المُفكرين لتأدية ما عليهم تجاه هذا العالم، ليس فقط برصد التغيرات التي تطرأ عليه بتسارع محموم، بل يجب عليهم تأطير هذه المجموعة من التغيرات وحزمها ببعض الآيدولوجيات المُتماثلة والمُمارسات المُستحدثة أو الحديثة والزج بها في إطار زمني مُعين، ومن ثمَّ عليهم تسمية هذه الحقبة باسم تعاقبي معين ليتسنى لمُتتعبي التأريخ أن يبتلعوه بسلاسة. هذا ما يُشير إليه الباحث السوري رضوان زيادة في مقالته البحثية بعنوان: تصدع الحداثة: الصراع على العالمية، والتي يرصد فيها أهم التغيرات التي تسبق وتلي الفترة الزمنية الفكرية التي تُسمى الحَداثة.

لا شك في أنَّ الحداثة هي نتاج غربي صرف، وأنَّ هذا النتاج لم يُولد فجأة بل كان نتيجة التراكمات المعرفية لحضارات عرقية في القارة العجوز، كالحضارة اليونانية أو الإغريقية، مروراً بعصر الأنوار ومن ثمَّ الثورات التي حرَّرت الفرد الإنساني لتنتهي الحداثة بأنَّها تلك المحصلات المعرفية المُكثفة من العصور القديمة والتي اصطبغت الآن بصبغة إنسانية. أما المصطلح فبحسب بيتر بروكر فإنَّ استخدام اللفظ كان حديثاً جداً ومحصوراً في الحقل الأدبي، وكان يعني الجدة في العمل الأدبي، من حيث إنَّ الجدة هنا بمعنى الحداثة التي كانت الأمر الذي يضفي سمة الإبداع والرؤية الخلاقة.

أما من جانب المفهوم فإنَّ العقلانية التصقت بالحداثة التصاقاً وثيقاً، فكما يقول ديكارت: العقلانية هي أساس المعرفة والفهم، وهي الحد الفاصل ما بين عالم الإلهيات القديم وعالم التكنولوجيا والصناعات الحديثة المتقدم، ويصر على ذلك الآن تورين عند قراءته لمشروع الحداثة، ووصوله إلى أنَّ العقلانية هي الجذور الأولى للحداثة.

إنَّ للحضارات سواء متداخلة أم منفردة لها خصائصها الفريدة التي تميزها عن باقي الحضارات الأخرى وإذ يعتقد البعض أن مفهوم الحضارة قد تزعزع قليلاً من الناحية التاريخية فإنَّ ذلك يعود إلى التنافس العالمي للحصول على شرعية ممارسة الحداثة وعدم إبقائها كخصوصية ثقافية غربية. ويرى البعض الآخر أنَّ هذه القيم الحضارية التي تتمثل في الحداثة وما بعدها لا تمت بصلة للوجود الكوني وهي إنما صيرورة دينية غربية تنحدر من المسيحيين- اليهود عندما يأتي المؤمنون لتفنيد آراء الحداثة وما يليها، وهذا ما يُحيلنا إلى أنَّ الثقافة الغربية بكل ما جرته معها من تطورات ومُساهمات عبر الزمن، سواء مساهمات إنسانية، أخلاقية، علمية أم دينية فهذا أبعد من أن يكون هنالك أية صلة لهذه الصيرورة الزمنية بأن تكون ثقافة كونية، ولذلك نرى أنَّ التصدع الحاصل في الثقافة الغربية يشي بذلك بقدر كافٍ، وما هو أقرب للإدراك أنَّه لم يُوجد إلى الآن تصور واضح لماهية الثقافة الكونية.

ولتوماس باترسون رأي آخر في ماهية الحضارة وصيرورتها؛ إذ ينطلق من اختراع كلمة الحضارة وضمنية المعنى لكلمة الحضارة، وبأنها كلمة تفضي بنا إلى وجود فريقين أحدهما مُتحضر ومُتقدم والآخر مسحوق ودوني، يحمل صفة الرجعية. وتأتي هذه الرمزية على دلالة تاريخية للشعوب الغربية، إذ إنَّ الاستناد على التاريخ قد يدلنا على حدث مفصلي زمني وهناك قد تحدث التغيرات الجذرية، كعام 1492، الذي أرجح المسلمين بين كفتين، سقوط الأندلس، وفتح القسطنطينية مما يجعلنا نرصد التغيرات التي حدثت بعد ذلك، من تراجع المُسلمين وتضخم المركزية الأوروبية والأنا الغربية.

ويرى ديكارت أنَّ مفهوم التنظيم الاجتماعي هو من خلق مفهوم الدولة، ليُسلمها شرعية تنظيم أمور المُجتمع، وتتابع الأمر ليأتي روسو بفكرة العقد الاجتماعي، وأن الشعوب تتوق للرجوع إلى حالتها الأصلية لولا أنَّ الحكومات هي التي تشكل الثيرموميتر المسيطر على اتزان هذه الشعوب وبقائها على حالتها المُتقدمة. ونجد أن لدينا نتيجة منطقية لذلك؛ إذ إنّ المجتمع الأوروبي حصل على تنظيم اجتماعي يفوق بمرات عديدة من جميع النواحي التنظيم الاجتماعي الذي حصل عليه الشرق، ولذلك نرى أنَّ المجتمع الأوروبي يمحو الأسقف والحدود التي تقف عرضة لتقدمه.

قد نجد أنَّ هنالك صراعين أساسين يشهدهما العالم من فترة زمنية سحيقة، وهما صراع غربي-شرق وصراع أوروبي-أمريكي وفي الأخير تتبين للعالم بعض الفجوات التي خلقها الاكتشاف الكبير للأمريكتين، ونرى ذلك واضحاً حتى في أمور التأييد والمعارضة لأبسط الحقوق والقرارات، مثل التعارض الذي حصل بين رفض الأوروبي الحرب على العراق وتأييده من قبل الأمريكي، وهنا نرى أنه بعد هذا التطور الزمني، قد هدأت وطأة التدخل والاستعمار الأوروبي وانتقلت العدوى إلى أمريكا، فحكومات أوروبا تنشد السلام الآن أكثر مما مضى، أما الجموح الأمريكي فقد أطال أظافره بحثًا عن اللحم ليغرز فيه أظافره المُدببة.

يقال قديماً إنَّ النصيحة الوحيدة التي قد يستمع المرء إليها هي التجربة، ونرى أن الأمريكان قد بدأوا برفض النصيحة من الغير والاستماع لتجاربهم والتعلم منها وتفنيدها، ولكن هل يدوم هذا الصراع الغربي البحت الصراع الأوروبي-أمريكي؟ هل تستطيع أوروبا وهي القارة العجوز ترويض أمريكا وكبح جماحها والسيطرة عليها؟ إذ إنّ هنالك مناوشات وحوارات عديدة بين القارتين، كما يقول وزير الخارجية الأسبق الفرنسي أوبير فيدرين: "نحن الغربيين ننسى دائمًا ماضينا الأسود عبر قليل من الندم وكثير من فقدان الذاكرة."

أخبار ذات صلة