عاطفة المسكري
يطرح الكاتب والمفكر اللبناني رضوان السيد مفهوم الأمة على المستويين الديني والسياسي في مقالته عن "الأمة والانتماء المشروع". ويرتبط هذا المفهوم بالجانب السياسي في مختلف المراحل بالتاريخ الإسلامي وتحديدا بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ حيث تشكل ليحتوي المجموعة التي ورثت الدين عن محمد في سبيل تنظيم كل ما يتعلق بالجوانب الدينية المرتبطة بهم. فكان المقصد أن تكون هذه الأمة هي الداعية إلى التوحيد والإيمان بالله سبحانه وتعالى حيث يشكل ذلك المستوى الأول لإدراك معنى الأمة الداعية والمستخلفة. لكن كلما تقدمنا نحو مراحل متأخرة في التاريخ الإسلامي نجد انطلاقة أكبر نحو الفكر الإسلامي السياسي وارتباطٍ أكبر بينه وبين مفهوم الأمة.
يؤكد الكاتب ريتشارد سكوفيلد هذه الفكرة في دراساته حول النزاعات الإقليمية التاريخية حيث أشار إلى مفهوم الـ "Umma" تحت حكم الـ "Khalifa" في قانون الدستور الإسلامي كما جاء في كتابه، إلا أن كل ذلك ارتبط بالأيديولوجية والاعتقاد فقط ولم يكن له علاقة لا بالسياسة ولا مساحات الأراضي التي تعد تحت السيطرة عندما ابتدأ؛ على عكس المعنى المتداول حديثا في القانون الدولي الذي يربط السلطة بالأرض وساكنيها بشكل مباشر. فبعد وفاة الرسول تم ترشيح الصحابي أبي بكر ليتولى الخلافة وقيادة الأمة، ومن بعده جاء عمر ثم عثمان فعلي. توالت عصور الخلافة من بعد الخلافة الراشدة إلى الخلافة الأموية والعباسية والعثمانية وما تبعها من ظروف اختلفت من عصر لآخر. وتركزت خلافة الأمة غالبا على الجماعات لتحقيق التماسك والوحدة الاجتماعية بينهم ومن ثم نشر رسالة الدعوة. لكن بعدها تغيرت الظروف وتبلورت فكرة الحاجة إلى جماعة سياسية تنشر الدعوة الإسلامية وتنقلها وسلطان سياسي يوطدها وينطق باسمها ويذهب بها إلى الآفاق. وهنا موقع الجدل حيث يشار إلى مسألة هذا التحول كجانب سلبي بحجة توافر إمكانية بقاء فكرة نشر الدعوة مرتبطة بالاعتقاد دون المساس بالجانب السياسي. من منطلق أن الأمة ليست بحاجة إلى دولة لممارسة وظائفها والإسلام ليس بحاجة إلى تسيس لينشر رسالته. وذلك بالاستناد على الوقائع التاريخية بعد انتشار الإسلام لدرجة أصبحت فيها الأمة الإسلامية غير مرتبطة بدولة معينة وبقعة جغرافية محددة؛ ومع زيادة انتشار الإسلام أيضا بالتعايش والتسامح أكثر من انتشاره بالسيف ورسم الحدود السياسية.
على كلٍ لم تكن مرحلة التحول هذه مرحلة عادية في تاريخ نشر رسالة الدعوة الإسلامية؛ فإلى جانب كونها نقلت الجماعة الإسلامية من الاجتماع الديني فقط إلى توجهات سياسية أعادت- بمعنى ما - تأسيس رسالة النبوة نفسِها عبر دمج كلا الجانبين الديني والسياسي معا مما أعاد تشكيل الإسلام أو أضاف فيه جانبا سياسيا غير قابل للانفكاك. من زاوية أخرى، ربما تعد مرحلة الانتقال تلك حتمية نتيجة للتوسع حيث لا يشترط أن يتعارض الجانب السياسي مع سمو الإسلام وروحانيته؛ بل من الممكن أن يتم تسخير مثل هذا الجانب في خدمة الأهداف المراد تحقيقها كتطبيق أحكام الإسلام وتنفيذها بطرق شرعية بما يتوافق مع الظروف والأنظمة في الحياة العامة. على الرغم من أن التحدي في ذلك يكمن في كيفية المحافظة على التوازن بين الطاقة الروحية المتمثلة في الاعتقاد والتوحيد الذي يحمله الإسلام وأن يكون له أثر ملموس ينعكس في كافة الزوايا المتعلقة بحياة المسلمين العامة والخاصة ودون أن يتم تحويل الدين إلى أداة توظيف بيد الدولة أو السلطة لتشريع ما يعد غير مشروعٍ لمصالح الفئة التي تتبوأ السلطة، وأن تصبح كذلك عاملا مساعدا على التماسك المجتمعي الروحي والنفسي للأمة المسلمة على اختلاف مواقعهم وانتشارهم في مختلف بقاع الأرض.
لا بد من العودة للطرح المتعلق بعدم حاجة الأمة للدولة أو السلطة كي تمارس وظائفها، حيث إن الوقائع تثبت عكس ذلك وخصوصا عندما تعرض المسلمون في بداية أيام نشر الدعوة الإسلامية إلى الكثير من الضغط والأذى من قبل كفار قريش لكونهم يمثلون شريحة بسيطة من المجتمع، وكان عددهم قليلا جدا ولا يمكن مقارنتهم بقريش لا من الناحية العددية ولا الاقتصادية ولا العسكرية. كانت قريش تسيطر على القوة الاقتصادية في ذلك الوقت، ولها ائتلافات تجارية قوية مع الكثير من القبائل العربية، بالإضافة إلى سيطرتها على مساحات شاسعة مترامية الأطراف، تسكنها قبائل عريقة كبيرة تمتلك حضورا كبيرا. فكيف يتوقع من المسلمين ممارسة وظائفهم بأريحية أمام هذا الحضور الطاغي لقريش التي كانت تبحث عن أسباب بسيطة لخلق الصراع بينها وبين المسلمين. هنا تكمن أهمية السلطة وامتلاك القوة السياسية في سبيل تيسير نشر الدعوة بأقل قدر من الأذى مع استخدام السلطة والجانب السياسي المتعلق بها كأداة لتحقيق الغايات لا أن تصبح هي بنفسها غاية. فهذا الخلل وإن حدث لا يعود إلى الدين نفسه إنما في طريقة فهمه وتفسيره. فمن خلال المبادئ التي نص عليها القرآن – الشورى- يتضح لنا ذلك. إذ تعد الشورى من المبادئ الإسلامية التي تم الأخذ بها في القضايا التي تعلقت بالمسلمين حيث تعني الأخذ بمختلف الآراء ووجهات النظر المطروحة في قضية من القضايا حتى يتم التوصل إلى ما يعد صوابا أو إلى ما هو أصوب ليعمل به حتى تتحقق أحسن النتائج. وينطبق ذلك على جوانب سياسية كثيرة في التاريخ الإسلامي. نتيجة لذلك لابد من إيضاح فكرة التوسع ومقتضياتها التي شملت الأمة الإسلامية. حيث إن الجانب السياسي لم يكن إلا ليخدم الغاية السامية في نشر الدعوة الإسلامية وفق ما هو مطلوب أما النتائج والنماذج السيئة من الطغيان والتسلط التي آلت إليها السلطة بعد ذلك ما هي إلا نتاج فهم خاطئ أو الضعف الذي تشكل أمام مغريات امتلاك السلطة التي تعني امتلاك أجهزة القهر والسيطرة من جانب، وبسط المساواة والعدل من جانب آخر ربما؛ حيث تحقيق الأمن والسلام الذي ينادي به الدين وتحقيق التعايش السلمي بين الأمم على اختلافها.
