للكاتب الهندي فيصي
ويلابوراتو عبد الكبير (مستعرب وباحث هندي)
من الدراسات العميقة التي صدرت في الآونة الأخيرة بلغة "مالايالم، إحدى اللغات المحلية الهندية، "الرسالة وعلم الطبيعيات والتيارات الروحانية والعقلانية "للكاتب فيصي، والكتاب يستحق قراءة جادة ويدعو إلى حوار هادئ بين الإيمان والعلم. يتناول الكاتب موضوع الدين والعلم الحديث في عُمقه ولكن بأسلوب سهل يصل مدارك الخاص والعام معاً ويتَّخذ منهجاً بناءً يتجاوز البيانات السطحية بردود مقنعة على أطروحات الفلسفات الإلحادية التي تكتسي باكتشافات العلم الحديث. وقد سبق للكاتب كتاب آخر تحت عنوان "دراسة نقدية عن التكوين والتطور في إبداع الكائنات الحية" الذي صدر من نفس دار النشر الإسلامي التي نشرت الكتاب بين أيدينا.
وموضوع كتابه السابق هذا كان ينحصر في الرد على نظرية الارتقاء لـ داروين وأخطارها السلبية في الحياة الإنسانية بتكثيف الضوء على التطورات العلمية الجديدة التي تطرح أسئلة أمام تلك النظرية الفرضية. ولكن كتابه الجديد يحتوي مزيدًا من المعلومات التي طرأت في نظرية التطور كما يتناول موضوعات أخرى من أهمية الرسالة للإنسان وتيارات روحانية وعقلانية معاصرة.
وبعد صدور كتاب " أصل الأنواع" لـ داروين عام 1859 ما زالت نظرية النشوء والارتقاء مفهوماً جدلياً ومحل نزاع ليس لدى المؤمنين بوجود الله فقط بل لدى بعض العلماء أيضاً بالرغم من قبوليتها لدى كثير من العلماء. كان أكثر جانب جدلي لعلم الأحياء التطوري هو أنّ مفهوم تطور الإنسان يقترح أن الإنسان لديه أسلاف مشتركة مع القردة وأن القوى العقلية والأخلاقية للإنسانية تعود لنفس النوع من المسببات الطبيعية التي شكلت السمات الوراثية عند الحيوانات. المسيحيون في الغرب كانوا في مقدمة الحملة الشرسة ضد هذه النظرية، ومجلة " بلين تروث ” ( Plain Truth ) الصادرة في الولايات المتحدة في أواخر الستينات في القرن الماضي والتي تنتمي لهذه الطائفة كان جل همها داروين و"نظريته الهدامة". ومنشوراتها بصفحاتها اللامعة وأغلفتها الفاخرة التي تصلنا نحن الطلاب عبر البريد مجانًا لا تزال في ذاكرتي حتى الآن. بينما اتخذ الخلقيون المسيحيون موقفاً سلبياً نحو نظرية التطور لأنّها تعارض ما ورد في العهد القديم عن التكوين والخلق، وحاولت طائفة أخرى منهم التوفيق بين معتقداتهم ونظرية النشوء والارتقاء بواسطة مفاهيم مثل التطور الربوبي.
وعموماً يعتقد أن شارلز داروين هو أول من صاغ نظرية التطور في إبداع الكائنات الحية بواسطة الاصطفاء الطبيعي. ولكن الدكتور محمد حميد الله العلامة الهندي الشهير الذي هاجر إلى باريس من حيدرأباد بعد سقوطها بأيدي الحكومة الهندية قد أشار في "خطاباته البهاولبورية" إلى أن إخوان الصفا هم رواد هذه النظرية حيث ورد ذكرها في رسائلهم المشهورة. وقد نسخ ابن خلدون في مقدمته نفس ما ورد في رسائلهم في هذا الموضوع بدون أي إشارة إليهم هكذا: " إن الذوات في آخر كل أفق من العوالم مستعدة لأن تنقلب إلى الذات التي تجاورها من الأسفل إلى الأعلى استعداداً طبيعياً، كما في العناصر الجسمانية البسيطة، وكما في النخل والكرم آخر أفق النبات مع الحلزون والصدف، وكما في القردة التي استجمع فيها الكيس والإدراك مع الإنسان صاحب الفكر والرؤية" (ساطح الحصري، دراسات في مقدمة ابن خلدون ، ص 302 ). وممن حاول من المسلمين التوفيق بين نظرية الارتقاء وقصة الخلق في القرآن العلامة المصري محمد فريد وجدي. وقد كتب في " دائرة المعارف " عن هذا الموضوع بالتفصيل. يعتقد أنه لو ثبتت نظرية التطور فلا تتعارض مع ما ورد في الكتب السماوية عن النظام الربوبي للكون ولا ينقضي دور الأديان حتى تصبح خبر كان. يكتب: الأمر في نظرنا يحتاج لشيء من التؤدة والسكون، فإن نصرة العقائد في كل زمان ومكان لا تكون الا بتقمص روح العصر خيرها وشرها وتحليلها تحليلاً مناسبًا لدرجة المدركات والآراء السائدة وإلا انعزل الدعاة للخير، وصاروا طائفة متميزة تقف حيث هي........... ماذا على حفظة العقائد لو درسوا مذهب النشوء والارتقاء دراسة صحيحة بأن جعلوه من مقررات موادهم العلمية ليشاركوا أهل العصر فيما يؤثر على أذهانهم ثم ينتحلون بعد ذلك جميع المدركات التي ستتبعه فيعطون الأمة علماً سائغاً لا يشوبه شك أو يقفوا على مستوى عالٍ يشرفون منه على الحقائق الراهنة إشراف عدل وإنصاف، كما هو منطوق الدين ومطلوب الحق الذي حظ الإنسان من هذه الحياة. إنني أصرح بأعلى صوتي أن النشوء والارتقاء، وإن كنت لا أقول للآن، هو أقرب المذاهب إلى العقل وأدناها شبها بفعل النواميس الظاهرة وأشبهها بسنة الخالق في تدريج الخلق في عالم الكون.”
ويدعي مؤلف دائرة المعارف أنَّ الاستشكالات التي تطرح على هذه النظرية لا تدحض أصلا واحدا من الأصول العلمية الطبيعية التي اعتمد عليها أصحاب نظرية النشوء والارتقاء. ولا يرى بأسا في اعتراف النظريات التي أقعد عليها الداروينيون مذهبهم بعد درسها وإدراك مغازيها تمام الإدراك من الوجهة العلمية. ويبرر نفسه بأنّه لاعتقادنا بصحة مقدمات مذهب داروين نفعًا عظيمًا لأنها تقرب منا الذين يشذون عنّا زاعمين أننا جامدون وأننا عن مقررات العلم بعيدون. وبالرغم عن حماسته البالغة هذه في تبرير نظرية الارتقاء نرى في موقفه تذبذبا ما بين سطوره؛ حيث يقول إنه لا بأس في أن نشك في نتيجة تلك النظرية كما يشك أصحابها لأنهم يعترفون أن نظريتهم لا تزال فرضا علميا يعوزه الدليل الحسي وإنما تمسكهم به لأنّه الطريق العلمي الفذ الذي تدرك به حقائق الخليقة وأدوار التكوين الطبيعي. وهمه الحقيقي يتضح مزيداً من كلامه التالي: " ولسنا نجزم بصحة مذهب داروين ولكننا نهدئ روع الذين يخشون من تحقق هذا المذهب في يوم من الأيام على الإسلام فنقول لهؤلاء ليهدئ روعكم فإن كل ما ورد في خلق آدم عليه السلام يمكن صرفه عن ظاهره على مقتضى أسلوب القرآن نفسه، فإن قام الدليل على صحة مذهب داروين فلا يتزعزع من المؤمنين إلا من كان جامدًا، أما الذين هداهم الله بنور العلم وبث فيهم روح الإسلام الحق فلا يخشى على عقائدهم... والخلاصة أنّ على علماء المسلمين ومرشديهم ألا ينقطعوا عن مجموع الأمة بل عليهم أن يشاركوا العصريين في أبحاثهم وألا يجعلوا نصيبهم من المُناقشة مجرد التكذيبات والإشكالات الخالية من القيمة العلمية فيتغلب عليهم خصومهم فيلحدون" ( دائرة المعارف القرن العشرين، المجلد الأول، حرف الألف – انس، ص 730 – 735 ، مطبعة دائرة المعارف، الطبعة الرابعة (1967)
وللعلامة محمد فريد وجدي شركاء حتى في كيرالا (الهند)، وكان ممن يعتقد أن مذهب داروين لا يتعارض مع العقائد الإسلامية البروفسور المرحوم (في. محمد) ، مفسر القرآن بلغة ملايالام والمفكر الإسلامي الراحل (تي. محمد) أحد قادة الحركة الإسلامية في كيرالا. وللأستاذ محمد كتاب صدر في أواخر الستينيات بعنوان "الآخرة" استمد فيه نظرية التطور لتوضيح إمكانية الحياة الآخرة. حاول فيه أن يجعل نظرية التطور أساساً للحياة الآخرة حيث يراها نوعا من التطور الثاني للإنسان. استدل بآي من القرآن لإثبات نقطة التطور مثل "وخلقناكم أطوارا" "والله أنبتكم من الأرض نباتا". لما بدأ الكتاب يثير شيئاً من الاستنكار وسط عامة المسلمين، سحبته الحركة الإسلامية فورا من السوق فتوقف توزيعه. وجدير بالذكر هنا أن ممن قام بتحليل هذه النظرية والفلسفة، التي تجري وراء من يحمل لواءها نقدًا حادًا، الكاتب الإيراني المرموق سيد حسين نصر الذي له باع طويل في مصادر العلوم الدينية ومناهل المعارف العلمية الغربية. واسم الكاتب التركي هارون يحيى الذي استفاض في الموضوع أيضًا جدير بالذكر.
والكاتب الهندي فيصي نجده أيضًا يتخذ نفس منهجهما في معالجة الموضوع. وليس تحليله مبنياً على "التكذيبات والإشكاليات الخالية من القيمة العلمية" كما يتهم العلامة محمد فريد وجدي بعض العلماء الذين اصطفوا ضد النظرية الداروينية في عصره. ويمكن أن يعتبر هذا الكتاب لاحقاً لكتابه السابق الذي ذكرناه آنفاً. وقد أشار نفسه إليه في مُقدمة كتابه الحالي. الفصول الثانية والثالثة والرابعة أجزاء مكملة لما ورد في كتابه السابق. ويحاول الكاتب هنا أن يقدم بشكل رئيسي نقطتين هامتين لإثبات موقفه. أولاهما أن الغلبة التي حصلها العلم على الدين ظاهرا في الصراع بينهما منذ القرن الثامن عشر قد بدأت تتقهقر تدريجيا. وثانيهما أن النظرية الداروينية لم تستطع أن تخرج من إطارها الكلاسيكي، كما أنها بدأت تواجه مزيدا من التحديات والأسئلة. ويضرب له مثالين في كتابه الجديد – في مُقدمة الكتاب وفي الفصل الرابع تفصيلا. المثال الأول هو مزاعم أصحاب داروين عن التطور في تشكل العين. يزعم الداروينيون أن عضو حيوان يأخذ في تشكله مراحل تطور يمتد إلى ملايين من السنين. أما كيف تنفع هذه التطورات ذلك الحيوان فلا شرح لديهم عن ذلك. وكذلك لايزال الداروينيون يعترضون منذ زمن على إجابة الأسئلة المطروحة من قبل "الخلقيين" والمتعلقة بقدرة عقل الإنسان ونطقه اللذين يتميز بهما عن الحيوانات الأخرى. وتلاحظ أيضًا التحولات التي تعرضت لها النظرية الداروينية الحديثة. فبعد أن اكتشف العالمان جيمس واتسون وفرانسيس كريك مكونات الحمض النووي (DNA) التي تحمل المعلومات الوراثية أخذ بعض العلماء من مؤيدي نظرية الاصطفاء الطبيعي سابقا يشيرون إلى ضرورة مرشد وراء نظام الكائنات. وينقل هنا عالم الرياضيات "فريد هويل" الذي قال إنَّ فرصة تكوين خلية أولى بالصدفة يشبه فرصة حدوث إعصار في منطقة قمامة ومخلفات فيكون منها طائرة من طراز 747 العملاقة تعمل بالصدفة البحتة دون تدخل ذكي، رغم أنّه عمليا ثبت خطأ احتمالية تكوين حياة على الأرض. وكلام جمال الدين الأفغاني يشبه قول هويل: وعلى زعم داروين هذا يمكن أن يصير البرغوث فيلاً بمرور القرون وكر الدهور وأن ينقلب الفيل برغوثاً كذلك (الرد على الدهريين ص 65).
ومن خصائص هذا الكتاب أنّ مؤلفه حين يتناول مآزق نظرية التطور فهو لا يعتمد على آراء العلماء المؤمنين فقط بل يستفيض بنقل وجهات نظر المُحققين الملحدين المعروفين الذين تحكمهم المصلحة العلمية البحتة في بحوثهم مما يجعل الكتاب أكثر موثوقية لدى القراء المحايدين، ويلقي أيضاً الضوء على ما يجري من تعتيم تلك الآراء في محافل العلم و"الجورنالات" العلمية التي استولت عليها مجموعة من العلماء المتحيزين.
- المخاطر الاجتماعية الناتجة عن النظرية الداروينية التي لم ينتبه إليها من انخدع بـ "بريقها" وهرول إلى تبنيها للتماشى مع العصر جذور الهيمنة العرقية الأوروبية وبذور الاستغلال الرأسمالي المخفية تحتها. كان داروين يعتقد أن الأوروبيين هم في مُقدمة الحضارة الإنسانية. الأتراك الذين وصلوا في ذلك العصر إلى أوج الحضارة العالمية حدد داروين مكانتهم في شجرة أنواع الجنس البشري على درجة تلي درجة الأوروبيين. وعلاوة على هذا فإنّ المبدأ الدارويني " البقاء للأحق" هو الذي يستقوي منه النظام الرأسمالي لاستغلال طبقة الضعفاء.
- نفس المنهل شرب العالم البيولوجي البريطاني رتشارد دوكينسون واتبعه الملحدون الجدد في العصر الحاضر. النظرية الداروينية هي المرجعية العليا في نضالهم ضد الأديان وخاصة الإسلام. ومن كتب دوكينسون الأكثر مبيعًا في مكتبات المطارات "الوهم الإلهي" (God Delusion) الذي يقرأه أتباعه بخشوع بالغ ككتاب مقدس. وفي هذا الكتاب وكتابه الآخر " The Selfish Geon " نجد أسس الظاهرة الجديدة التي وصفتها صحيفة "والستريت جورنال " بالإلحاد المتطرف". هو الذي قال في إحدى مناقشاته أن مصدر تطرف المسلمين هو القرآن ذاته. ثم اعترف فيما بعد بأنّه لم يقرأ القرآن. ونرى أكثر الملحدين الجدد، الظاهرة الغريبة التي رفعت رأسها في العقد الماضي، يركزون هجومهم على الإسلام والمسلمين، ولا فرق في ذلك بين اليساري المترقي واليميني المُحافظ. واليساري العقلاني المشهور " كريستوفار هيتشنس" الذي كان في مُقدمة المناضلين ضد الكولونيالية الجديدة قبل فترة، حين كتب كتاباً عنوانه "الله ليس بأكبر" ( God is Not Great ) ، كان يهجو شعار الإسلام "الله أكبر" . وصدرت كتب تدحض أغلوطات الملحدين الجُدد ولكن أغلبها من طائفة المسيحيين المؤمنين. " الوهم الشيطاني " ( Devils Delusion) للكاتب الأمريكي "ديفيد بيرلين" أكثر مبيعاً من هذه الكتب. وتأليف الكاتب الهندي فيصي الذي نستعرضه هنا هو أول كتاب بلغة "ملايالام" يثبت أنَّ حجج الملحدين الجُدد واهية ليس لها أيّ أساس علمي.
وقد خصص فصلا في الكتاب يحاول فيه أن يوضح فلسفة الرسالة بالتفصيل لإثبات ضرورتها في الحياة الإنسانية على خلفية الأديان العالمية القديمة مثل اليهودية والنصرانية والبوذية والـ " فيداندية الهندوسية " كما حاول في فصل آخر بعنوان "التيارات الروحانية المشرقية" أن يميز حقيقة الفرق بين الوحي الإلهي والكشف الصوفي وتجارب الأنبياء والروحانيين. وهنا يحلل المحاولات الحديثة الخرقاء ليربط بين طريق الفيزياء وطريق فلسفة الروحانية الهندوسية والبوذية. وفي الآونة الأخيرة احتفل بعض التيارات الروحانية الهندوسية بنظرية "طاو الفيزياء" التي صاغها الفيزيائي الأمريكي – النمساوي فريتجوف كابرا لتقديم خزعلبات معتقداتهم في ملابس العلم الحديث. يدعي كابرا أن مفاهيم الفيزياء الحديثة والأفكار الأساسية في التراث الفلسفي الديني الهندوسي تلتقي في رؤيتها للعالم إلى حد كبير. ويضرب له مثلاً رقصة صنم " ناداراجا " في الـ " الفيدانتا (الفلسفة) الهندوسية "ويقول إنَّ الفضاء الخارجي ليس سوى رقصة كونية عملاقة مثل رقصة "ناداراجا". يؤكد فيصي في كتابه أنَّ مزاعم كابرا مجرد تمرين فكري أقرب إلى الشطحات الصوفية منه إلى الحقيقة العلمية ويمكننا أن نؤول "علميا"، هكذا، أي مفاهيم روحية في ديانات أخرى. ينقل الكاتب هنا تحليلات الكاتب الكبير الهندوسي الملم في الفلسفة الهندوسية "سوكومار ازيكود " الراحل ليكشف عن زيف "كشف" كابرا. اختصارا يمكننا أن نقول إن هذا الكتاب وليمة شهية للقراء الجادين.
--------------------------------------------------------------------------------------------------
اسم الكتاب: الرسالة وعلم الطبيعيات والتيارات الروحانية والعقلانية
اسم المؤلف: فيصي
عدد الصفحات : 133
لغة الكتاب: مالايالام (إحدى اللغات المحلية في الهند )
االناشر : Islamic Publishing House,Fourland Building,
Kozhikode -673012,Kerala, India
سنة النشر :2016
