دروس الميدان: أوكرانيا ما بعد الانقلاب

Picture1.png

 لنيكولاي أزاروف

أحمد الرحبي*

مُؤلف كتاب دروس الميدان، الأوكراني نيكولاي يانوفيتش أزاروف، واحدٌ من ألمع الساسة الأوكرانيين في فترة ما بعد الاستقلال عن الاتحاد السوفيتي، وشغل منصب رئيس الوزراء في حكومة الرئيس فيكتور يانوكوفيتش الذي أُطيح به في أحداث شتاء 2013 – 2014 أو ما عرف بأحداث الميدان (تنطق كلمة ميدان في اللغة الأوكرانية كنطقها في العربية). وبعد استقالته الاضطرارية ترأس لجنة "إنقاذ أوكرانيا"، انتقل بعدها إلى روسيا نتيجة العقوبات التي فرضت عليه من قبل الاتحاد الأوروبي، والتي ألغتها محكمة لوكسمبورغ لاحقاً لغياب الأدلة والمسوغات القانونية لها. ويتابع أزاروف من خارج بلاده مُجريات الأحداث الأوكرانية وتطوراتها التي يراها مشحونة بالتوتر وباعثة على القلق. ولجسامة الحدث الذي عايشه، ومن مُنطلق موقعه السياسي الذي تبوأه آنذاك، لم يفت الرجل تسجيل قراءته وانطباعاته للأحداث التي أعقبت "الانقلاب" وجمْعها في الكتاب الذي نتصفحه هنا.

    واعتمادًا على مصادر مُقربة منه أو عبر قراءة تحليلية واستشرافية، يضع المؤلف تقييماته ويبني أحكامه على سير الحكومة الأوكرانية الراهنة. ويتيح موقع المؤلف السياسي وخبرته المُكتسبة في العلاقات الدولية إبداء رأي شخصي لأحداث بلاده وتكوين نظرة ضافية على الأحداث العالمية الراهنة.

   الفصل الأول من الكتاب: "الميدان... كيف حدث ذلك؟" مُكرسٌ لتطور الأحداث في الميدان الأهم وسط العاصمة كييف والنتيجة التي انتهت إليها، والتي وفق اعتقاده لم تنل تغطية مُناسبة وموضوعية من قبل وسائل الإعلام الأوروبية والأوكرانية على حدٍ سواء. يقول  المؤلف: "جمعت في هذا الكتاب المواد الأولية الأكثر صدقية لما جرى في الميدان، حيث لم أكن شاهدًا على كل ذلك وحسب، وإنما كذلك كنت مشاركًا نشطًا فيها بصفتي رئيسًا للوزراء" (ص 25).

  يضع الكاتب الدور المفتاحي لتحشيد الناس ودفعهم إلى قلب النظام في بلادهم بيد وسائل الإعلام التي، وكما يرى، أغرقت المُشاهدين والقراء في لُجة من الأكاذيب والمُعطيات الزائفة بهدف بلورة انطباع لدى المواطن الأوكراني العادي بأنّه يتعرض لضيم حكومته حينما أجَّلت التوقيع على اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، وبالتالي حرمانه من فرصته وحقه الشرعي في التمتع بمعيشة أوروبية رغيدة كانت تتدلى أمام عينيه. والحقيقة التي يذكرها المؤلف هي أن أحدًا "لم يقرأ نص الاتفاق الذي لم يتضمن كلمة واحدة عن دخول أوكرانيا إلى الاتحاد. هذا اتفاق سياسي لا يختلف بشيء في بنوده عن الاتفاقيات المماثلة والموقعة بين الاتحاد الأوروبي وبين الجزائر ولبنان ومصر وفيتنام وغيرها من البلدان. في تلك البلدان لم يتبادر الشك إلى عاقل بأن الأفق معدوم لدخول مصر إلى الاتحاد الأوروبي (على سبيل المثال) فكيف بدا جمهورُ الميدان الأوكراني ساذجين إلى هذه الدرجة؟" (ص 44). 

   وعن ذروة الأحداث التي ينعتها بانقلاب مكتمل الأركان، يرسم لنا أزاروف صورة تآمرية وأيديا خارجية قامت بتحريك المشهد في كييف وتوجيه سير الأحداث. فالمعلومات والإفادات الأولية التي كان يتلقاها من وزيري الداخلية والصحة تختلف جذريًا عن تلك المتواردة في وسائل الإعلام. يقول في هذا الصدد: "لقد بدأت أتحسس يد المُخرج الماهر الذي يتحكم بالمشهد. كان الوضع يتصاعد بنفس الوتيرة التي حدثت مؤخرًا في تونس ومصر وليبيا وسوريا وجورجيا ومولدوفيا. واتضح لي أنَّ عملية خاصة تدار ضدنا" (ص 16). 

   وفي خضم حديثه عن وسائل الإعلام يسوق أزاروف الأفلام التسجيلية الأجنبية المستقلة التي غطَّت الأحداث الأوكرانية، ويأتي في طليعة تلك الأفلام فيلم المخرج الفرنسي بول موري "أوكرانيا... أقنعة الثورة" وعرضته القناة الفرنسية "كنال بلاس" على رغم مطالبة السفارة الأوكرانية في باريس بوقف عرض الفيلم. وبحسب المؤلف فإنَّ سبب اعتراض السفارة على الفيلم هو محتواه الذي يشير إلى أنَّ حطب الثورة كان مستوردا من أمريكا وبأن رجالات في الداخل مرتبطون بالولايات المتحدة استعانوا بجماعات متشددة لتحقيق مآربهم.  

   يطرح المؤلف قضية استخدام القوة ضد السلطة وكيفية الرد عليها أو كبحها، وهذه إشكالية لطالما وجدت لها تفسيرات مختلفة وفقاً للحالة محل المعاينة. بالنسبة لأوكرانيا يذكّر أزاروف بمشاهد اقتحام المتظاهرين لوحدات الشرطة واستيلائهم على المباني الحكومية وتعطيل عمل المؤسسات. كما ينوه إلى أن الرئيس وقتذاك يانوكوفيتش لم يصدر أمرا باستخدام القوة للقضاء على الاحتجاجات المسلحة واكتفى  بردعها، عمد بعدها إلى ترك السلطة ومُغادرة البلاد. وفي استعراضه لهذه المسألة، يستهجن نيكولاي أزاروف رد السفير الألماني على سؤاله عن ردة فعل السلطة الألمانية لو أن هجومًا شن على مكتب المستشارة، حيث كان الجواب أن ألمانيا بلد ديموقراطي ولا يمكن حدوث أمر كهذا فيها. 

   في الفصل الثاني من الكتاب: "أوكرانيا قبل الميدان... كيف نتذكر سنوات الاستقلال" يعرض أزاروف أهم الأحداث التي شهدتها أوكرانيا ابتدءًا من انهيار الاتحاد السوفيتي سنة 1992 والتصدعات التي رافقت ذلك وحتى سنة 2016 ومعها كل العقبات الشائكة التي طرأت على البلاد وما زالت.

   أما الفصول التالية من الكتاب: "أوكرانيا وصندوق النقد الدولي" ، "المسائل الاقتصادية والاجتماعية لأوكرانيا ما بعد الميدان" ، "عن الاقتصاد" فتنطوي على نظرة قاتمة وبالغة السوداوية لوضع هذا البلد الأوروبي الكبير مساحة وبعدد سكانه البالغ 50 مليوناً. واستنادا إلى وثائق ذات مصداقية كتقرير محكمة المُدققين الأوروبية لعام 2015 وتقرير منظمة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان الخاص بأوكرانيا والمُعطيات الرسمية لوزارة الصحة الأوكرانية والبنك المركزي الأوكراني وتقدير أوكرانيا للمصرف الاستثماري الأمريكي وغيرها من المصادر، يتوصل المؤلف إلى نتائج كارثية. يقول في ذلك: "لا يوجد سابقة في التاريخ على ما جرى في أوكرانيا. ولم نسمع من قبل عن بلد كان متوسط الحال بجميع المعايير يتحول فجأة إلى أفقر بلد في العالم، وأن يفقد نحو نصف إنتاجه الإجمالي ويحتل المرتبة الأولى في معدل الوفيات كما انهارت صادراته إلى النصف وأصبح ثمانون في المئة من سكانه يعيشون تحت خط الفقر" (ص 296). ويورد المؤلف مقارنات بين الوضع في أوكرانيا قبلاً وما وصلت إليه بعد أحداثها الأخيرة. يقول: "مثلت أوكرانيا البلد الوحيد في العالم المصمم والمنتج لأكبر طائرات شحن - حمولة وحجما - آن 225 وآن 124 وآن 70. وبأمر من الولايات المتحدة عطّل الرئيس بوروشينكو اتفاقية التعاون مع روسيا في هذا المجال. وفي أيامنا هذه يتم التوقيع بين روسيا والصين حول إنتاج مشترك لسلسلة من الطائرات ذات الجسم العريض. أما قطاع صناعة الطائرات الأوكراني فقد أهيل عليه التراب" (ص 175 – 176). ويبدي رئيس الوزراء الأوكراني السابق أسفًا شديدًا على إلغاء التعاون مع البرازيل في مجال الفضاء الذي فتح لأوكرانيا بابًا في هذا المجال الصعب والتنافسي، ولكن الباب ما لبث أن أغلق.

   في فصل "الجيل الجديد" يؤكد نيكولاي أزاروف على أهمية التعليم في بناء الشعوب واستيعاب مُتغيرات العصر وتجاوز المحن. كما ينتقد بشدة أساليب التعليم الجديدة، المستوردة معظمها من الخارج بشكل جاهز ومعلب، والتي، وإن كانت مغلفة بإطار براق من التقانة الحديثة إلا أنَّ مخرجاتها لا تشكل أساسًا راسخاً لبناء أجيال مُثقفة. ويتساءل المؤلف: ما الذي فقدناه من جراء سلسلة الإصلاحات التي اعتمدناها بشكل مسرف؟ يقول في معرض إجابته عن السؤال: "لقد فتح تطور التكنولوجيا المعلوماتية أفقاً هائلاً للمعرفة، ومع ذلك فلا يُمكن لهذه التكنولوجيا أن تكون بديلاً للفطرة الإنسانية، والإلهام الطبيعي، وجدلية التفكير. وبدون التعليم الأساسي الذي يعتمد على صقل الشخصية وتقويم التفكير وتدريب الذاكرة، والقدرة على تحليل الحقائق، والاستنتاج، والمجاهدة في طلب العلم، وتقوية الشكيمة لذلك، من دون كل هذا سيظل وعي الأفراد راكدا وفاقدا للحوافز الإبداعية. إنني آمل من الناس أن يعوا أنَّ أهم معايير النظام التعليمي هو إعداد جيل يستطيع أن يُفكر بطريقة مستقلة، ويمتلك المقدرة على تحليل المعطيات، ويبتكر الحلول السريعة في الظروف الطارئة، جيل يعرف حاجته الحقيقية ويختارها بعناية من بحر المعلومات. أما نظام الامتحانات الذي يخيّر الطالب بين ثلاثة أجوبة جاهزة فلا يُساعد على تحقيق تلك المهام التعليمية؛ وسرعة الرد في هذه الحالة لا تعني بالضرورة جودة التفكير، كما أن الذي وضع تلك الأسئلة ليس أيزينشتاين بكل تأكيد (...) اليوم يتدافع شبابنا الذين هم أملنا ومستقبلنا إلى العالم الافتراضي وميادين الوهم ويعرضون عن دراسة الحقيقة وتغيير الواقع. كما نشهد الارتباط الوثيق للكثير من الشباب بشبكات التواصل الاجتماعي والأجهزة الحديثة مع انخفاض الاهتمام بالأدب والفن والعلم (...) إن ثقافتهم وفنهم تسلية واسترخاء قبل وبعد كل شيء، والنتيجة هي نقص في التربية والذوق السليم. لا شك أنَّ ثمة أمثلة مخالفة لما أقوله ولكنني أتحدث هنا عن التيار الغالب" (ص 263 – 265).

   أولى الكاتب والسياسي الأوكراني اهتمامًا بلقاءاته واستشاراته مع رئيس جمهورية سنغافورة "لي كوان يو" الذي يكن له إعجابًا شديدًا لإنجازاته التي حول بها واحدة من أفقر المستعمرات البريطانية، التي كانت تستورد ماء شربها من ماليزيا إلى أغنى ثالث دولة في العالم. ويُسدي المؤلف نصائحه لبلاده أوكرانيا بأن الاتجاه إلى الشرق وليس الغرب هو الأجدى لها وبأن على القادة، إن هم أرادوا النجاح والترقي لبلادهم، أن يتعرفوا على القطاعات المُجزية في المستقبل ويستثمروا فيها منذ اليوم.

   في فصل "ذكرى الزملاء الأوكرانيين الذين ساهموا في السياسة الدولية" يترحم الكاتب على وجوه بارزة من مواطنيه من الساسة والكتاب الذين غابوا عن المشهد بهدوء أو غيّبوا عن طريق القتل بعيد تغيّر النظام في البلاد، ومن أبرزهم الكاتب المعروف أوليس بوزينا والسياسي المعارض أوليغ كالاشنيكوف، وبحسب قوله فإنّ مقتلهما لم يثر أية ردود من قبل الحكومات الغربية.

  وفي الفصل نفسه يستدعي المؤلف ذكرى عالم الاقتصاد الأوكراني البارز يوري باخوموف، كما يورد مقاله "مصير أوكرانيا في سيرورة التطور المتقطع وإهمال الإستراتيجية وتجاهل ثقافة الوقت" يورده في كتابه كاملاً. ويجد أزاروف في هذا المقال أهمية بالغة تسرد فكرة الترابط بين ازدهار الدولة الحديثة في القرن العشرين وما تلاه وبين تبني ثقافة مختلفة وجديدة للوقت، ولا سيما فيما يتعلق بانتقال الإنسان الحديث من ثقافة الوقت الدورية (الحصاد وغيره من المواقيت الموسمية) إلى ثقافة الوقت التي تتسم بتصميمات مستقبلية طويلة الأمد. وبحسب الكاتب فإنَّ الفكرة تعبر عن الفرصة التي فقدتها أوكرانيا كدولة في خضم أزمتها السياسية الأخيرة. وفي السياق نفسه يستعيد أزاروف تجربة الصين التي أخضعت نظامها الشيوعي إلى مُراجعات مستمرة جنبته الثورات وحمته من التعالق مع صندوق النقد الدولي، وما حدث أن الصين خلال ثلاثين عاماً، وهو عمر أوكرانيا المستقلة، تحولت من بلد متخلف تكنولوجياً، وبأعباء جغرافية وسكانية هائلة إلى البلد الأول في العالم في حجم الإنتاج الإجمالي والأول في مجموع المُنجز التقني. إلى جانب الإحصاءات الاقتصادية والمدونات السياسية التي احتواها الكتاب، كان هناك جانب من مذكرات الكاتب الشخصية وتقديراته الفكرية في بناء الدولة الحديثة والطموحة التي تتوسل الإنسان لبناء المستقبل واجتراح المعجزات.  

---------------------------------------------------------

  الكتاب: دروس الميدان... أوكرانيا ما بعد الانقلاب.

المؤلف: نيكولاي أزاروف.

الناشر: دار نشر "فيتشي"/ موسكو 2017.

اللغة: الروسية.

عدد الصفحات: 320 صفحة.

*كاتب عماني

 

أخبار ذات صلة