الشرق الأوسط، وإعادة التفعيل

Picture1.png

لسيميون باغداساروف

فيكتوريا زاريتوفسكايا*

  "يشهد الشرق الأوسط حالاً من التصدع العميق، وما فتئت خريطة المنطقة التي تشكَّلت بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى تفقد وجاهتها، حيث تظهر للعيان كيانات تتوافر على فرص كبيرة لتغدو دولاً حقيقية، وعجلة استقلالها عن الحكومة المركزية ماضية في طريقها (...) ولا تزال الأوضاع في الشرق الأوسط منساقة باتجاه التصعيد العسكري، الأمر الذي يفرض تعاملاً غاية في الجدية مع ما يحدث هناك".

   يكرس سيميون باغداساروف، مدير المركز الروسي لبحوث دول الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، كتابه الجديد لتقييم الوضع الراهن في منطقة الشرق الأوسط، متنبئاً بتطوراتها المستقبلية وعارضًا لموقف روسيا إزاء التغيرات الجارية وذلك انطلاقاً من مصالحها المُرتبطة بالمنطقة ولا سيما المصالح الأمنية التي يضعها المؤلف في بؤرة الاهتمام الروسي والمتحكمة بنظرتها إلى المنطقة المضطربة.

   يقسم الباحث كتابه إلى تسعة أجزاء، ومن خلال استقراء مجموعة من الأحداث والقرارات والوثائق التاريخية، يُحاول أن يضع مقاربته لوصف التغير الحاصل في الخارطة السياسية والإثنية لمنطقة الشرق الأوسط كما جاء في الأجزاء الثلاثة الأولى: (الخرائط الجديدة للشرق الأوسط) ، (اتفاق سازونوف – سايكس – بيكو عبر التاريخ) ، (الاستقلالات الجديدة: بداية العملية). وفي الأجزاء الثلاثة التالية من الكتاب: (تركيا: اللعب على المكشوف) ، (كردستان: الأشياء ما زالت في بدايتها) ، (محاولة الانقلاب في تركيا: الأسباب والنتائج) وفيها يُحلل الكاتب الأحداث الأخيرة في تُركيا، مستبيناً أسبابها ومستقرئًا مئآلاتها وبؤر التوتر التي ستتمخض عنها في المُستقبل المنظور. أما في جزئي الكتاب: (روسيا: خط الحدود) ، (الشرق الأوسط كمجال لمصالحنا القومية) فيعرض فيهما باغداساروف النظرية الجيوسياسية الروسية ومفاعيلها على طول الحدود الجنوبية للبلاد، كما يوضح موقفه من ضرورة الدور الروسي القيادي في العملية التي يُسميها: إعادة تفعيل الشرق الأوسط. الفصل التاسع والأخير: (صمت المسيحيين) يناقش مسألة الإبادة التي لحقت بمسيحيي الشرق الأوسط في الحقبة المعاصرة (إبادة الأرمن في تركيا) باعتبارها "المرحلة التي تقضي على وجود المسيحية في مهدها" (ص 178).      

في إطاره التاريخي، يسرد الكتاب الخط السياسي المتقطع لروسيا حيال مصالحها في منطقة حيوية كمنطقة الشرق الأوسط، فيلومها على التَّخلي عن التوجه البرغماتي الذي وسم السياسية الأمريكية والبريطانية في تعاطيها مع تلك المنطقة. كما يشير إلى الفرص المهدورة لروسيا بسبب قيام الثورة البلشفية عام 1917؛ فبينما كان الغرب يشمّرون عن سواعدهم لتقاسم تركة الرجل المريض (الدولة العُثمانية) كانت روسيا مشغولة بمخاضها الداخلي، ولولا ذلك (وبحسب التقديرات التي يوردها المؤلف) كان مهيئاً لها أن تهتبل الفرصة وتقتطع مكاسبها في إسطنبول وفي المضائق المحيطة بها ذات القيمة الإستراتيجية الكبيرة، إلى جانب غرب أرمينيا. وتساوقاً مع رؤيته التاريخية المثالية لسير الأحداث، يقدم الباحث قراءة إرشيفية عن التواجد الروسي القيصري قبيل الثورة البلشفية في منطقة الشرق الأوسط: "كانت مهام السرية الخاصة (في الجيش القيصري) تشمل منطقة واسعة تبدأ من حدود تركيا المُعاصرة وتمتد حتى الخليج العربي. وكان من أولوياتها تطهير المنطقة من نفوذ الإمبراطورية العثمانية ومملكة السويد؛ وبالنسبة للسويد فليس في الأمر غرابة إذ استعان الدرك الفارسي بمستشارين من ذلك البلد الشمالي. وقد أبلت السرية الخاصة بلاء حسناً حيث وصلت إلى مدينة همدان العريقة ودخلت مدينة قم – المركز الديني والعلمي للشيعة" (ص 42). 

   وبعد هذا الاستشهاد بالخلفية التاريخية للتواجد الروسي في المياه الدافئة، يورد الكاتب متفرقات عن السلوك العام للعساكر الروس في إيران وتعاملهم مع شؤون الناس في إشارة إلى طريقتهم الناعمة لتحقيق المصالح. يقول في هذا الصدد: "عند دخولهم مدينة قُم شدَّد الجنرال نيكولاي باراتوف على أفراد سريته عدم إزعاج السكان، وأن يلتزموا احترام رجال الدين (...) وأصدر أمرًا سارياً بمنع عمليات السطو على المُمتلكات، كما أوصى جنوده بدفع الذهب الخالص في عمليات شرائهم (...) وإلى جانب تمتعهم بقدرات عسكرية طوعوا من خلالها التضاريس الجبلية والصحراوية الصعبة، فقد عكفوا على إبداء فنهم الدبلوماسي وإدارة المباحثات مع زعماء القبائل ورجال الدين ورؤساء الإدارات المحلية" (ص 42 – 43).

   يؤكد الباحث على أوجه الشبه بين الوضع العام للشرق الأوسط قبل مئة عام وبين وضعه الراهن، وما تحركاتنا حيال الوضع هناك سوى عود على بدء: "جرب أن تبدّل التواريخ وسترى ملخصاً للأحداث الأخيرة. لذلك فعندما نناقش بعض النقاط التاريخية لا ينبغي علينا أبدًا تجاهل إمكانية تكرارها" (ص 75).

وفي غير موضع من الكتاب، يُقيم المؤلف مُقارناته بين السياسة الخارجية الروسية ونظيراتها الغربية، ولا سيما سياسة الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، ويخرج بخلاصة أنَّ السياسية الروسية لم تتسم مطلقاً بالبرغماتية (كما هو حال السياسة الغربية) ما جعلها عرضة لفقدان مستمر للمكاسب وضياع المواقف. أما رؤيته للسياسة الخارجية لكل من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة فيجدها المؤلف متمثلة في مقولة لرئيس الوزراء البريطاني أرثر بلفور (المعروف بدوره الحاسم في الشرق الأوسط): "ليس المُهم شكل النظام السياسي الذي سيوفر لنا النفط.. كل ما أعرفه أنَّ النفط يمثل مصلحة حيوية لنا". فبينما تتعاون الولايات المتحدة – وبرغم كل شيء – مع الصين الشيوعية، والحركات الكردية ذات المنحى الشيوعي والتي كانت تمثل الشر الأعظم لها إبان حربها الباردة مع الاتحاد السوفيتي، وحين تتعاون أمريكا مع البلدان التي لا تنسجم مع مُقارباتها لحقوق الإنسان، نجد أن روسيا مستمرة في تمسكها بقواعد آيدلوجية معينة لا تحيد عنها، ما يبعد البلاد عن الأحداث والبؤر العالمية المؤثرة ويحرمها من المكاسب السياسية والاقتصادية المترتبة عن ذلك. يقول في هذا الصدد: "إنّ عملنا يتسم بالبساطة. فها هنا رئيس سوريا – بشارالأسد الذي علينا أن نؤيده. وها هو رئيس العراق حيدر العبادي الذي علينا أن نقف معه. أما الأمريكان فعملهم يختلف جذرياً. إنهم يؤيدون هذا الزعيم أو غيره، ولكن حين تنقلب الموازين لصالح المعارضة لا يضيرهم شيء أن يقفوا معها. لا يضع الأمريكان بيضهم في سلة واحدة ويوزعون جهودهم بين مُختلف الأقطاب، أما نحن فما أن يسقط حجر في السلة حتى ينكسر جميع البيض.. وبعدها نشتكي من الخداع" (ص 136).

   يصيغ الباحث رأيًا نقدياً للدور الروسي في القضايا المستجدة في الشرق الأوسط  ويجد أنّه غير كافٍ لضمان المصالح الأمنية للبلاد، ويُعلل ذلك بالخلل الذي يعتري مؤسسات الدولة والهيئات الحكومية ذات الاختصاص وغياب التنسيق فيما بينها. يقول عن ذلك: "لا نمتلك حتى اليوم قاعدة بيانية عن نفسية العاملين في الهيئات المسؤولة عن أمن البلاد، والتي يمكن لها أن تعيننا على أداء العمل. لا يوجد تأهيل للكادر المُختص. أما المعاهد فوظيفتها تدوين التقارير التحليلية المعقدة لكبار الموظفين، وحتى هؤلاء لا يقرؤونها. وقد اعترتني الدهشة مؤخرًا من مقترح وزارة التعليم الروسية لإلغاء اختصاص الاستشراق والدراسات الإفريقية من برامج الجامعات وإحلال مكانه اختصاص بمسمى فضفاض: "الدراسات السياسية والإقليمية". لكم هو أمر سخيف هذا! لقد تورطنا في آسيا الوسطى (أفغانستان) ونتورط الآن في أحداث الشرق الأوسط وفوق ذلك يأتي منّا من يقول إننا بغير حاجة إلى خبراء في الاستشراق!" (ص 116 – 117).           

   حازت المسألة السورية مكانة مركزية في الجزء التحليلي من الكتاب، وفيها يلخص المؤلف الموقف الرسمي لبلاده من القضية السورية، ويعد المطالبة بالإطاحة بالرئيس الأسد كشرط أساسي للحل، يعدها  ضربًا من السذاجة والمراهقة السياسية. ويؤكد الكاتب على أنّ: "أصل المواجهة في سوريا ليس بسبب شخصية أو أداء الرئيس بل في سطوة القوى الخارجية والتي عزمت على تبديل النظام العلماني بنظام آخر سني" (ص 13). أما حل المسألة السورية فيراه الباحث موزعاً على ثلاثة مداخل، الأول مدخل طوباوي يتمثل باستعادة الأمور لما قبل عام 2011، والثاني هو أن يتشكل على الأرض السورية كيانات تتشبه بالدول، والمدخل الثالث (وهو ما يعتبره الكاتب الخيار الأمثل مع صعوبة تحقيقه في الوقت الراهن) فيتمثل في محاصصة السلطة على الطريقة اللبنانية، أي على أساس طائفي.

   يولي المؤلف اهتماماً بالغًا للوضع التركي والذي يراه منطوياً على أحداث دراماتيكية، ويرسم لمجريات الأحداث في تركيا خطًا قاتمًا بل ومخيفاً في بعض الأحيان. أما منبت العلة في الأوضاع التركية فيلخصها الباحث في شخص الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وفكرته في استعادة المجد الإمبراطوري وفي سياسته التوسعية. يشير باغداساروف إلى أن: "الحرب غير المعلنة الجارية اليوم في تركيا والتي تصلنا أخبارها بشكل متقطع إنما تدور في ثمان محافظات، وتستخدم فيها المعدات العسكرية الثقيلة، ونجد مظهر المدن فيها شبيها بمدن سورية، فثمة الخراب والقتلى وشلال الدم. (ص 52) ويضيف الكاتب أنّه في حالة تدخل قوي لأطراف خارجية في الشأن التركي فإنّ البلد مهدد بالانقسام ليس من جهة المحددات الكردية وحسب، وإنما كذلك حدود البحر الأسود، أي المناطق الساحلية المحاذية لروسيا وهي أرض تقطنها أقوام مُتعددة الأعراق. وإيغالا في نظرته العابسة التي يُلقيها على تركيا يتوسل المؤلف مقارنات وتخريجات من التاريخ المعاصر: "لا أستبعد تكرار ما شهدناه خلال الحرب العالمية الأولى (...) لقد كان الاتحاد السوفيتي صخرة قبل أن يسقط ولم يكن أحد يتوقع انهياره، ولكنه انهار. فهل تركيا دولة أقوى من الاتحاد السوفيتي؟ (ص 52). ولكن الكاتب يعود ويرسم وضعاً مركباً لتركيا، زاد من تعقيده محاولة الانقلاب الفاشلة التي وقعت عام 2016 وما أعقبها من تصفيات طالت قادة مُحنكين في الجيش، الأمر الذي تسبب في إضعاف المؤسسة العسكرية. ويخشى المؤلف أن تكون الإزاحات وإجراءات ما بعد الانقلاب مؤشراً لتفاقم الوضع في هذا البلد إلى أمد طويل، ولن تحميها العصبة القومية مثلما يتردد دائماً. يقول في هذا الشأن: "وعلى رغم وجود القوم التركي الغالب في تركيا، إلا أنَّ هذا العرق بذاته متنقل ويضمر في داخله أرومات تمثل عشرات الأقوام المختلفة" (54).

  تتصدى قراءة الكاتب للوضع التركي (رغم تعقيداته البينة) مع المزاج السياسي في روسيا تجاه تركيا، ذلك المزاج المُتأرجح بين اعتبار تركيا عدوا متمترسا في الضفة الأخرى من البحر الأسود تارة وصديقاً لدودا تارة أخرى، وذلك حسبما تجود به رياح السياسة. وبرأي المؤلف فإنّ الوزر الأكبر لما آلت إليه الأحداث في تركيا يتحمله الرئيس أردوغان. ومن هذا المنطلق يرسم الباحث الروسي صورة لأردوغان تقترب من الأسطورة الأدبية "دون كيخوته" الذي دفعته حميته وافتتانه بذاته إلى مقارعة طواحين الهواء، فكانت النتيجة أنَّه أدخل بلاده في نفق النزاعات الدامية والصدامات السياسية. ويبلغ المؤلف تبرمه من الواقع السياسي في تركيا حداً نفى فيه واقعية العلاقات التركية الروسية الراهنة، وشكك في إمكانية بناء روسيا للمفاعل النووي في منطقة أكويو التركية حيث لا يرى في ذلك أية جدوى اقتصادية تعود لبلاده.

   يستعرض الباحث الروسي سيميون باغداساروف الأوضاع المضطربة في منطقة الشرق الأوسط ويربط بها المصالح العميقة لبلاده، الأمر الذي يحتّم على روسيا رسم استراتيجية طويلة النظر وبعيدة الأثر في التعامل مع قضايا الشرق الأوسط، مهما كانت الأمواج عاتية، حيث إنَّ النكوص عن ذلك لبلد بحجم روسيا يُعد مخاطرة كبرى. أثر أ

----------------------------------------------------------

الكتاب: الشرق الأوسط... وإعادة التفعيل.

المؤلف: سيميون باغداساروف.

الناشر: "آ" موسكو 2016

اللغة: الروسية.

عدد الصفحات: 288 صفحة.

 

*مستعربة وأكاديمية روسية

أخبار ذات صلة