فينان نبيل
الشعبوية تيارٌ سياسيٌ يقوم على" تقديس" الطبقات الشعبية في بلد ما ويتبنى خطاباً سياسياً قًائما على معاداة مؤسسات نظامه السياسي ونخبه المُجتمعية. انتشرت أحزابه وحركاته في البلدان الغربية خاصة، مما أجج مخاوف من آثار ذلك على استقرار النُّظم الحاكمة فيها. ترجع نشأة "الشعبوية" إلى الفترة الواقعة بين ثلاثينيات وسبعينيات القرن التاسع عشر، حين بدأت نزعتها في كل من روسيا القيصرية والولايات المتحدة. وكانت في الأصل تُطلق على حركة زراعية ذات ميول اشتراكية سعت لتحرير الفلاحين الروس حوالي 1870، وتزامنت مع تنظيم احتجاجات في الريف الأميركي موجهة ضد البنوك وشركات السكك الحديدية، وبحلول منتصف القرن العشرين أخذ هذا المصطلح صبغة وطنية واجتماعية حررته من الارتباط بالتوجه الاشتراكي، خاصة في منطقة أميركا اللاتينية والأرجنتين. يرى خبراء في علوم السياسة والاجتماع أنَّه من الصعب تحديد مصطلح "الشعبوية" لأنه محمل بمدلولات مختلفة ومتناقضة أحيانا؛ في حين حاول "وينرمولر" مؤلف الكتاب إيجاد تعريف دقيق لمفهوم «الشعبوية»، حيث قدم شرحاً واضحاً ودقيقاً في إطار الواقع الغربي اليوم، الذي سمح بازدهار قوى سياسية «متطرّفة في أطروحاتها» باسم الشعب، فقدم تحليلاً للمصطلح من خلال الجمع بين الجانب النظري والجانب الواقعي، مركزا اهتمامه على ثلاثة أسئلة هامة، هي، ماذا يقول الشعبويون؟ ماذا يفعل الشعبويون عندما يتولون السلطة؟ وكيف يُمكن التعامل معهم؟ .
بدأ "مولر" بوصف الشعبوية "كشكل محدد من أشكال الهوية السياسية التي تنتقد النُّخب، وتناهض التعددية وخصص المقدمة والفصل الأول" لمناقشة التعريفات المختلفة للشعبوية، يرى المؤلف أنهم أولئك السياسيين الذين يدَّعون أنّهم يمثلون مائة بالمائة من المواطنين في حين لا يقبلون بشرعية الاتجاهات الفاعلة الأخرى التي لها مطالب نيابية. يناقش الفصل الثاني ثلاث تقنيات يستخدمها الشعبويون في الحكم عندما يتولون السلطة هي (احتلال الدولة، المحسوبية، قمع المُجتمع المدني)، على الرغم من أنَّ تلك الطُّرق قد تستخدم في أنظمة الحكم الأخرى، إلا أنَّ الحكومات الشعبية تمارس تلك الأمور علناً وتجعلها مطلبًا للدولة؛ إذ إنِّه لابد للشعبويين أو من يُمثلهم أن يسيطروا على مؤسسات الدولة، وهم لا يفضلون التعامل مع مؤسسات الدولة ويرون أنّ تلك المؤسسات تحول بينهم وبين الناس سواء كانت وسائل الإعلام، أو الأحزاب السياسية وهم يفضلون التعامل مع أناس حقيقيين بشكل مباشر، إلى أن يصلوا للسلطة يلجأون إلى "استعمار" الدولة بوقاحة وعلانية باسم الشعب، ويسعون إلى تدمير قواعد الديمقراطية، وإعداد الشعب لنوع من المُواجهة مع أعداء الشعب المزعومين، وقادة الشعبوية وأحزابهم، والقيام بأنشطة الرشوة لتوطيد السلطة، وسحق النقاد، وتغيير الدستور إذا تمكنوا من ذلك.
يميز المؤلف بين «مفهوم الشعبوية» في أوروبا، ومفهومها في الولايات المتحدة الأميركية، ذلك أنَّ هذا التوصيف جرى إطلاقه في أمريكا منذ تأسيس حزب الشعب على الفئة التي يتم جمعها تحت عنوان «التقدميين»، بل وحتى «اليساريين الراديكاليين»، بينما ترتبط الشعبوية في أوروبا بـ «اليمين المتطرّف». يرى المؤلف أنّه لا يمكن اعتبار أنَّ نقد النخب السائدة هو السمة الرئيسة للشعبوية، ولا يكفي اعتبار أن جميع أولئك الذين يوجهون نقدهم لهذه النخب بأنهم «شعبويون» ذلك أن توجيه النقد للطبقة السياسية الحاكمة أمر مشروع في النظم الديمقراطية، بل يعتبر أن السمة التي يتفرّدون بها هي تأكيد زعمهم "أنهم وحدهم الشعب" ذلك أنّ مثل هذا الادعاء يعني بكل بساطة التقليل من مصداقية الآخرين وإلصاق تهمة الفساد وخيانة الأمّة بهم"،ولا يتردد الشعبويون في تبرير فشلهم في الانتخابات على جميع المستويات بكون الغالبية الصامتة من الشعب لم تستطع التعبير عن إرادتها. بهذا المعنى يؤكّدون دائماً أن هناك "تآمراً" ضدهم .يتسم الخطاب "الشعبوي" بالتبسيط الشديد لقضايا مجتمعية مُعقدة- يحمله عادة سياسيون يحظون بكاريزما، ويبحثون عن دعم شعبي مُباشر بتحديهم المؤسسات التقليدية الديمقراطية في بلدهم، فيتلاعبون بعواطف الناس وأفكارهم لغايات سياسية، ويعتبرون أنفسهم هم الصوت الوطني الأصيل ومُمثلي المواطنين العاديين أو من يسمونهم "الطبقات المنسية". وهم بذلك يوصفون بأنهم ذوو نزعة في التفكير السياسي رافضة لفكرة التنوع المجتمعي ومؤمنة بالتعارض بين الشعب والنخب، وجانحة للغوغائية والفوضوية التي تراهن على محورية دور "الشعب" - الذي يختلف مفهومه ما بين حركة " شعبوية" وأخرى- في الممارسة السياسية، والقائمة على التوظيف السياسي لمشاعر الغضب عند عامة الناس خاصة في أوقات الكوارث والأزمات الاقتصادية والاضطرابات السياسية.ففي 2016 كتب الرئيس الأميركي المنتخب "دونالد ترمب" مقالة في صحيفة وول ستريت جورنال قال فيها إن "العلاج الوحيد لعقود من الحكم المدمر من قبل حفنة صغيرة من النخب هو فرض الإرادة الشعبية في كل قضية رئيسة تؤثر على هذا البلد. إن الناس على حق والنخبة الحاكمة على خطأ".ومع أن "الشعبوية" ارتبطت أصلا في نشأتها بأوساط التيارات اليسارية فإنها أصبحت أيضاً تغزو اليمين واليسار الليبرالي الذي صار يشكل أكبر كتلة سياسية بالغرب، وربما توجد في صفوفهما بصورة تفوق أحياناً وجودها في اليسار خاصة في أوروبا.
أصبحت الأحزاب والحركات الموصوفة بـ"الشعبوية" قوة سياسية واجتماعية حاضرة بقوة بأنحاء أوروبا، وبأميركا خاصة في أوساط اليمين المتطرف بينما يؤكد الخبراء شبه غيابها في بلدان آسيا بما فيها الدول ذات الاقتصادات المُتقدمة مثل اليابان وكوريا الجنوبية، وضعفها في أميركا اللاتينية التي طالما كانت "الشعبوية" من العوامل المساعدة لحكم اليساريين فيها. صار مصطلح "الشعبوية" يتردد في المنابر الإعلامية عند كل عملية اقتراع تجرى في هذه البلدان. ويستشهدون بعلو أصوات التيارات "الشعبوية" في استحقاقات انتخابية عديدة، ابتداء من الاستفتاء البريطاني للخروج من الاتحاد الأوروبي، ومروراً بحملة الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، وانتهاء بالاستفتاء الدستوري بإيطاليا الذي ربما يمهد لخروجها من الاتحاد الأوروبي إثر فوز حملة حركة "خمس نجوم" الموصوفة بـ"الشعبوية" والرافضة لهذه التعديلات.أثارت موجة الصعود السياسي للحركات "الشعبوية" مخاوف المتمسكين بالديمقراطية ودولة القانون والرافضين لكل سياسة مبنية على أسس تمييزية، ورأوا فيها ظاهرة سياسية يمكن أن تُحدد ملامح مستقبل الديمقراطيات المُتقدمة في الغرب، كما توقعوا أن تزلزل مستقبلا القاعدة السياسية المؤسسة للنظم الغربية المستقرة، وتهدد بالانزلاق في مساوئ الكراهية والتحيز، بسبب تحمل جماعات "غوغائية" مسؤولية رسم سياسات ومعالجة مشاكل تواجهها كافة طبقات المجتمع.
هناك قضايا مشتركة بين الحركات "الشعبوية" ساعدت على تقدمها في الاستحقاقات الانتخابية-، تأتي في مقدمتها مناهضة: العولمة، والهجرة واللجوء، وسياسات التقشف المالي التي تُضعف الإنفاق الحكومي على الخدمات الاجتماعية، إضافة إلى النزعة القومية والدفاع عن الهوية الوطنية، والتركيز القوي على سياسات الدفاع، والسخرية من حقوق الإنسان، وقد يعود الارتفاع الحالي للتيارات "الشعبوية" إلى التوسع في العولمة منذ تسعينيات القرن العشرين، مع تحرير التدفقات المالية الدولية، وإنشاء منظمة التجارة العالمية، وتباطؤ النمو الاقتصادي العالمي، وتفاقم عدم المساواة في الدخل والثروة، وانعدام الأمن الاقتصادي، وتزايد موجات الهجرة العالمية. ويقول المراقبون إن الجماعات التي تتشارك "الآيديولوجية الشعبوية" تشمل تيارات متنوعة ومتباينة، وتوجد في البلدان الراكدة والمزدهرة اقتصادياً على حدٍ سواء، إذ تقدمت "الشعبوية" سياسيا في دول تعتبر معدلات البطالة فيها منخفضة والدخول في ارتفاع. ومن الأمثلة على ذلك حزب الاستقلال البريطاني، وحزب الجبهة الوطنية الفرنسي، وحزب البديل الألماني، وحزب بوديموس الإسباني، وحزب الحرية النمساوي، وحركة "النجوم الخمس" الإيطالية.
تتبنى الشعبوية خطاب كراهية تجاه "النخب" السياسية والثقافية لذا يجب أن يظهر زعماؤها بمظهر المثاليين الذين يوبخون النواب بوصفهم "انتهازيين" "فاسدين"، "لصوصا"، "مرتشين"، "فاسقين"، غارقين في شجارات تافهة، ناهبين للمال العام، مُقدمين لناخبيهم وعودا كاذبة مستحيلة التحقيق، مفتتين للأمم؛ مما يلزم طردهم عن طريق عملية تطهير واسعة وحل أحزابهم. نخبة المثقفين أيضا - في نظر الشعبوية-، خطيرة. فهي عاجزة عن فهم
ما يتماشى مع المصلحة القومية. تبقى الشعبوية دائمًا افتراضية ما لم تلْق زعيمًا كاريزميًا يعرف كيف يتوجه إلى الشعب. و يزعم أنّه وحده حامل لهموم الجماهير. على ذلك، الميزة الأساسية لهذه الحركات هي إيمانها بمحورية دور الشعب في العملية السياسية، التي يجب أن تعكس بشكل مُباشر الإرادة الشعبية. ولذلك، فإن لهذه الحركات معارضة ونفورا من النخب والمؤسسات السياسية المختلفة التي تحول بين هذه الإرادة الشعبية، وتحقيق أهدافها. إن ظهور الحركات الشعبوية يعتبر إفرازا طبيعياً للنظام السياسي الديمقراطي نفسه، حيث إنها مرتبطة بحركة الشد والجذب بين وجهي الديمقراطية: الوجه "البراجماتي" - الذي تمثله المؤسسات الديمقراطية من أحزاب وانتخابات وجماعات ضغط، والتي يتم صنع القرار فيها من خلال توافقات وتفاعلات أعداد كبيرة من الفاعلين السياسيين، والوجه" المثالي"، الذي تمثل فيه الديمقراطية طريقاً لحياة أفضل من خلال تحقيق إدارة الشعب لأموره، وتنفيذ إرادته في تحديد مستقبله، وعندما تعجز العملية السياسية عن تحقيق عالم "أفضل وأكثر عدالة" للشعوب، أو عندما ترفض النخبة الحاكمة تحقيق الإرادة الشعبية، تظهر الحركات الشعبوية التي تسعي إلى أن تستبدلها بنخب سياسية أخرى أكثر تحقيقاً لإرادتها.
إنَّ ظهور هذه الحركات مؤشر على وجود خلل في العملية الديمقراطية، يجب على النخب أن تنتبه إليه وتتعامل معه. ويختلف تعريف "الشعب" بين الأنماط المُختلفة للحركات الشعبوية، فقد ينصرف التعريف إلى مجموع سكان دولة ما، وقد ينصرف إلى جزء منه تجمعه روابط عرقية أو إثنية أو ثقافية. وفي الحركات الشعبوية اليسارية، ينصرف مفهوم الشعب إلى طبقة أو قاعدة اجتماعية معينة، مثل الطبقة العمالية.
وتعد إحدى المشاكل المرتبطة بظهور الحركات الشعبوية هي إمكانية انزلاقها إلى العنصرية والتحيز، حيث تحمل جماعة ما، بدون أسس عقلانية، مسؤولية المشاكل التي يواجهها المجتمع سواء كانت أزمة اقتصادية أو اجتماعية. تظهر هذه الحركات بشكل عام أثناء فترات الاضطراب والتغيير، أو بسبب سيطرة نخبة فاسدة تهتم بتحقيق مصالحها الخاصة على حساب المصلحة العامة، كما قد تظهر في حالات الحروب أو الكوارث الطبيعية. وكثيرا ما تـُصعِد هذه الحركات قيادات سياسية جديدة تتميز بالكاريزما والجاذبية، تنجح في إقناع أنصارها بأنّ وصولها إلى الحكم سوف يؤدي إلى تحقيق الإرادة الشعبية الحقيقية.
في المحصّلة يؤكّد المؤلف بروز وتصاعد قوّة الحركات الشعبوية في العالم الغربي في الفترة الراهنة. ويرى أنه لا يمكن تجاهل وجودها، ومن غير المجدي استبعاد أحزابها وقواها من النقاشات السياسية الدائرة. ذلك أن هذا يشكّل سلاحاً بيدهم باسم «إبعاد الشعب» عن اهتمام النخب. ولكن التأكيد بالوقت نفسه أنه ينبغي المحافظة «على بعض الخطوط الحمراء حول مواضيع شائكة تتعلّق بالهجرة والمُهاجرين الذين جعلتهم الحركات الشعبوية عموماً هدفاً لها، وأحد الموضوعات الأساسية في برامجها السياسية. وبالتالي الانتخابية. ويحدد المؤلف القول إن الحركات الشعبوية في الغرب تشهد أوج ازدهارها. والإشارة في هذا السياق إلى أن الشعبوية تشكّل تهديداً حقيقياً للديمقراطيات الغربية الهشّة التي يبدو اليوم أنها تعاني أكثر من أي يوم مضى.
يرى المؤلف أن الشعبويين إذا ما توفر لهم ما يكفي من القوة، فإنهم يخلقون دولة استبدادية تستبعد كل تيار لا تعتبره جزءًا من "الشعب، لذلك يقترح المؤلف في النهاية ضرورة التعامل مع الشعبويين، وأخذ مطالباتهم السياسية على محمل الجد دون أخذها على علاتها وبالتالي، فإنّه يتعين على الساسة ووسائل الإعلام مُعالجة القضايا التي أثارها الشعبويون ولكن بوضعها في أطر مناسبة.
المؤلف
جان ويرنر مولر هو أستاذ العلوم السياسية وتاريخ الأفكار في جامعة برنستون الأميركية.
-----------------------------------
الكتاب: ما هي الشعبوية؟
المؤلف: جان ويرنر مولر
الناشر: جامعة بنسلفانيا ــ 2016
اللغة: الإنجليزية
