بودريار هذا المفكر الجذاب والغريب

31GtWNQyJCL._SX325_BO1,204,203,200_.jpg

تأليف جماعي بتحرير نيكولا بواريي

سعيد بوكرامي

يُشكل المُفكر الفرنسي جان بودريار (ولد في 27 يوليو 1929 وتوفي في 6 مارس 2007) حالة فكرية غريبة داخل النسق الفلسفي الفرنسي خاصة والنسق الفلسفي عامة. يُقدِّم نفسه بمقالاته ودراساته كمُفكر نوعي، يُغرد خارج السرب وسباحًا ماهراً يسبح ضد التيَّار. كان هذا الاختيار الفكري الراديكالي سبباً في ظهور صورة بودريار الجدلي والجذاب والغريب، وسبباً أيضًا في وضع غريب آخر، فقد أصبح بودريار يعيش تهميشًا في فرنسا وشهرة في الجامعات الأمريكية مثل فوكو، ودريدا، ودولوز، وغاتاري وجاك لاكان.

ورغم ذلك فإنِّه ينتمي باقتدار كبير إلى حلقة ما يسمى بالنظرية الفرنسية المُعاصرة، التي انطلقت من باريس وكوليجها وجامعاتها، لتسطع بأفكارها الجذرية في أنحاء العالم. لكن بودريار اليوم أبعد ما يكون عن إشعاع زملائه العالمي. هناك صمت مُريب عن معظم كتاباته في علم الاجتماع والجماليات. لماذا هذا الإصرار على نقل هذا العالم من المركز إلى الهامش؟ يجب الاعتراف مرة أخرى بأنّ بودريار نفسه فعل كل ما في وسعه للتشويش على آثاره، ورفض أي شكل من أشكال الواقعية في محاولة منه للالتفاف على المعالم الواقعية. مصرحًا بموت الواقع، ومشككاً في مظاهره البراقة والجذابة، التي يرعاها الإعلام المزيف. قد نجد مبررات لهذا الإغواء القاتل في مفارقات الاصطناع أو الباتافيزياء. ويقصد بودريار بهذا المصطلح اصطناعَ نظام تجريدي يولد النماذج، أي واقعٍ بلا أصل وبلا واقع حقيقي: يطلق عليه بودريار واقعا فوق-واقعي. وبالتالي تصفية كلّ النظم المرجعية.

عاش بودريار في صراع ما بين الذاتية والموضوعية وحولهما انتظم فكره، لكن بودريار طوال مساره الفكري تحدى ذاتيته الخاصة. وهذا ما حاول الدارسون الإمساك به بموضوعية، وهنا المُفارقة لأنّ نصوص بودريار كانت محاولة لإنتاج فكر عن مواقف معرفية من قضايا ذاتية تهمه أولاً ثم تهم الإنسان المعاصر ثانياً. حاول الدارسون في هذا العمل المشترك الجمع بين ذاتية بودريار وموضوعيته لرسم صورة صريحة عن فكره وإشعاعه الحداثي. ومن هنا أيضاً جاء عنوان الكتاب" بودريار هذا المفكر الجذاب والغريب". ربما كان بودريار غريباً حقاً، ولكنه عقلاني في كتاباته، لأنَّ الجذاب الغريب ليس مُجرد صيغة يفهم معناها بشكل حدسي، وإنما هي أيضاً موضوع رياضي: فهي بتعبير أكثر دقة تصور ديناميكي، ونمذجة تحليلية، لبعض الحالات المضطربة التي فرضت نفسها في العصر الحديث.

 جمع الكتاب الصادر عن دار لارمونت سلسلة "ضفة الماء" الفرنسية نخبة من علماء الاجتماع والفلاسفة والاقتصاديين والمنظرين للجماليات ووسائل الإعلام: في مقدمتهم المشرف على الكتاب نيكولا بوارييه وجيرارد بريش، وآلان كايي، وجان بول كورنيي، وفرانسواز غيارد، وشين مين، وكاتارينا نيميي، وآن دو روجي، وكلارا شميلك، وفرانسوا سيغوري، وجان لوي فوالو.. كان هدفهم الأساسي إعادة النظر في خطاب بودريار وإزاحة الكثير من الحجب والمغالطات عن فكره المعاصر والمثير للجدل.

وقد تضمن الكتاب مجموعة من الدراسات، التي لم يكن هدفها اتباع منهج فلسفي أو حتى موضوع مُشترك، ولكن البحث عن مُقاربات متجاورة تبحث عن سر جاذبية أعمال جان بودريار في علم الاجتماع على نقيض بعض الدراسات التي تحاول عادة تقديم بودريار كفيلسوف بيد أنَّ هذا الأخير اشتهر أكثر بتحليله للمجتمع الاستهلاكي، ودراسة الحياة اليومية ونقده للماركسية. هذه الدراسات الجاذبة جعلته يحتل مكانة خاصة في الأوساط الفكرية الفرنسية، ونال عنها الكثير من التقدير"خاصة في الولايات المتحدة" لمشاركته في النقاش العام والتهميش داخل الجامعة. يقدم الكتاب تحليلاً مولّدا متناقضًا أحيانًا لكنه وفيّ ويأخذ بعين الاعتبار الطابع الفكري والسخرية اللتين تميزت بهما مؤلفات بودريار ودراساته. تتميز أبحاث الدارسين بالتزامها ترابطا منطقيا، وهيكلا موضوعاتيا يستوعب أبعاد أعمال بودريار كلها.

بعد المُقدمة الشاملة التي كتبها نيكولا بوارييه، عن ضرورة إعادة قراءة بوديار وفق المعطيات والمستجدات الراهنة، نجد القسم الأول المكرس لمشكلة المجتمع الاستهلاكي. وهنا يتساءل سيرج لاتوش إلى أيّ مدى يمكن أن يوصف فكر بودريار بالإيكولوجي وكيف أثر في البيئة السياسية. ويلاحظ أن انتقاد بودريار للعالم التجاري ونظام العلامات ساهم بالفعل في بلورة نقد بل وحركة مجتمعية تنتقد سلبيات النمو الاقتصادي. توقف الباحث أيضاً عند علاقة بودريار بظهور التفكير المناهض للنفعية (بما في ذلك الحركة المُناهضة للنفعية في العلوم الاجتماعية) ويقول آلان كاي: في الواقع ساهم بودريار في "إعادة اكتشاف" مارسيل ماوس 1872-1950) عالم فرنسي اهتم بالأعراق البشرية وعلم الاجتماع)، ولكن استخدامه لمفاهيم هذا الأخير وتحاليله الشاملة اتسمت بالكثير من السُّخرية، وبطريقة ما، أكثر تشاؤماً. بالنسبة إليه، جهود التحرر الشعبي، وخاصة في التقاليد الاشتراكية، ليست سوى وهم وكانت دائمًا كذلك. ثم تختم الباحثة آن دي روجي هذا القسم بدراسة مبتكرة عن الدراسة المشتركة لبودريار التي أنجزها رفقة الكاتب جورج بيريك وكلاهما درسًا وظيفة الأشياء، في فضاء الطقوس اليومية ودلالاتها.

في القسم التالي سيتناول جيرارد بريش علاقة بودريار بالماركسية. في البداية يدفع الباحث بودريار وماركس إلى عقد حوار نقدي بينهما. بالنسبة للباحث فالأول لم يفهم كلياً الثاني. وحتى وإن حملته حساسيته الباتافيزيائية (الباتافيزياء: مصطلح هجائي وضعه ألفرد جيري للإشارة لعلم الحلول الخيالية الذي يستند بشكل رمزي للرسوم الأولية وملكية الأشياء الموصوفة استناداً لافتراضيتها) إلى تحليلات فريدة لمجموع فكر ماركس، بحيث أثار مسألة سطوة السلع على أصحابها. هذا المفهوم "لم يمنح قيمته الحقيقية." وتوضح ملاحظات جيرارد بريش النظرية المعاتبة الهوة الكبيرة بين المادية (في تجلياتها كلها) وفكر بودريار، الذي يعتبر تجليات المادية والواقع مجرد أوهام، مشيدة على نظام من التصورات الرمزية أو على الأسوأ نظام من التصورات، حيث انتصر الرمز، وهذا الأخير ليس غير مجتمع الفرجة. أما دراسة نيكولا بواريي فأكثر تباينا، حتى وإن توافق مع "بريش" حول بعض النقاط، فهو يقف خصوصًا عند النقلة النوعية التي صاغها بودريار حول مكانة المادة، بدلاً من البقاء مثل التيارات الماركسية الجديدة أسير سياق الاقتصاد السياسي. ومن ذلك رفضه فكرة إمكانية بناء انعتاق أو إنهاء ارتهان الفرد أو الشعب داخل مجتمع منظم وفقاً لنظام إنتاج اقتصادي. لأنَّ العامل مستلب بعملية الإنتاج نفسها، التي لا وجود لها خارج الإطار الرأسمالي. وبصيغة أخرى، الاشتراكية الإنتاجوية هي مجرد وهم لا يُمكن أن يؤدي إلى تحرير الأفراد. وتلاحظ الباحثة في النهاية الأهمية القصوى التي يمنحها بودريار للألفاظ. هذا الجانب يسلط الضوء على أهمية فرانسوا سيغوري في دراسته التي تختم القسم الثالث. لكن الملاحظ أنَّ الدراسة هي تمرس في الأسلوب وليست ممارسة فكرية، فبدل أن يتحدث عن الباتافيزياء عند بودريار فهو يمارسها. وفي معرض تعليقه على التاريخ الفكري لبودريار، يرسم صورة فلسفية وباتافيزيائية من خلال علاقاته مع جاري، وباتاي، وبنيامين، وبارت، وغيرهم.

 يغامر القسم الثالث، على وجه التحديد، في مجال فلسفة الباتافيزياء. حيث تتناول فرانسواز جيلارد فكر بودريار من زاوية خصائصه الراديكالية وهذا ما جعل منه مفكراً قوياً ومحفوفًا بالمخاطر حينما يصف كيف أن الوهم العقلاني في طريقه إلى الزوال، وكيف أن"الحقيقة"، و"المعنى" سيختفيان. لا يدعي بودريار إعادة بناء الحقيقة، أو أي حقيقة، وإنما يعلن وفاتها النهائية؛ أو بتعبير جيلارد "يمتنع فكر جان بودريار عن شرح الأمور، وهذا ما أدى إلى أن يصبح في نظر الآخرين راديكاليا" (ص 123).

يركز القسم الرابع على التعليقات السياسية الجدلية لبودريار. فيعود جان لوي فوالو إلى التَّلقي الذي حظي به كتاب "اليسار المقدس"، كتاب الذي يضم مقالات بين 1978و1984 التي سعى من خلالها بودريار إلى نقد المجموعات اليسارية التي حاكمته في النهاية محاكمة علنية. وقد انتهز فوالو الفرصة ليعيد أجواء خيبات الأمل والأوهام التي سادت ناخبي اليسار في فرنسا في ذلك الوقت. خاصة مع التحول الصارم لحكومة ميتران في عام 1983.

أما مساهمة كاتارينا نيماير فتهتم بكتابات بودريار عن الأعمال الإرهابية واستمرار راهنيتها. في البداية كشفت عن الجدل الدائر حول موقف بودريار حول 11 سبتمبر 2001، و من "ذهنية الإرهاب"، التي أفرزت نهاية الجوهر والمرجعيات، وأسفرت عن واقع يتجلى في نماذج فاقدة للواقعية، ومجتثه عن أصولها، كشبح يرتاد لعبة قوامها التمويه والمغالطة والزيف. ومن هنا يستحضر بودريار دور الإعلام الذي حول الضحية إلى جلاد والجلاد إلى ضحية. ويخلص المقال إلى الحديث باستفاضة عن تفجيرات باريس عام 2015 والسياق الإعلامي الذي ساد في 2001. هذه المقارنة استدعت انتقادات بودريار للنظام الإمبريالي الذي يولد وحوشه الخاصة، لكن نقده المثير للجدل في أوساط ما بعد الهجوم لم يناقش، للأسف، بجدية وعُمق.

ويتساءل القسم الأخير عن التقارير النظرية والعملية لبودريار عن الجماليات، بما في ذلك التصوير الفوتوغرافي. بحيث يعود جان بول كورنيي إلى جدل المؤامرة الفنية، من خلال سلسلة النصوص، التي حلل فيها بودريار وانتقد تطور الفن ومفهوم الفن المعاصر على وجه الخصوص. حينما أدان بودريار مؤامرة "الاعتراف بالمصطنع، والتفاهة والابتذال، والرفع من قيمتها" (ص 177) و ما وراء انتقاده لماهية الفن وموضوع الفن المعاصر، كرس بودريار رأيه الشهير أن "الفن الجديد" أصبح غير قادر على استيعاب "وجود الواقع" (ص 188)، أي بعبارة أخرى، لم يعد الفن يصبح انعكاساً للواقع المحمل بشيء مما وراء الواقع. ويوضح كورنيي أن بودريار يقصد (المعنى، والعظمة، والجمال). أما كلارا شميليك فتركز بدورها على نظريات بودريار حول التصوير الفوتوغرافي، وبشكل أكثر تحديداً على تطبيقاته التحليلية على الصورة الصحفية أو الإخبارية؛ مع ظهور التكنولوجيا التي جعلت العلاقة بين المشاهد والمعلومات علاقة افتراضية بحيث تحول الإنسان من واقع حقيقي إلى (واقع افتراضي) مما فتح حسب الكاتبة مستوى جديدًا من فهم الأحداث التي توقعها بودريار. لقد مكنت فرضياته الإبستمولوجية وبالأخص ما يتعلق منها بالإعلام وإعلانه موت الواقع، كما أكد بوديار أنّ هناك وحشًا يقف وراء الصور والمعلومات التي تقدمها وسائط الإعلام التي تدعي امتلاكها الحقيقة ومراعاتها لحُرية الرأي والتعبير، لهذا وبلغة بودريار فإنّ العالم يعيش لحظة انقلابية تنقلنا من عصر الواقع إلى عصر موت الواقع بسبب موت أو نهاية أو تحلل المبدأ المؤسس للواقع، مبدأ الصراع والمواجهة الجدلية والتناقض والنفي والقطيعة والمجاوزة والثورة والتقدم. وهذا نتج عنه حضارة التسطيح الإنساني المعاصرة التي تفتق عنها وحش ملتهم سعى بكل إمكانياته إلى تكريس عنف عالمي تشيَّد على وهم إقامة عالم متحرِّر من كلِّ نظام طبيعي.

 وفي ذات السياق يعود الباحث لين تشى مينغ، إلى التجربة الفوتوغرافية لبودريار، وتصريحاته بشأن مُمارسته التصوير الفوتوغرافي وعلاقته مع نصوصه الفلسفية والاجتماعية، بما في ذلك البعد "السحري" للتصوير الفوتوغرافي الذي يتيح له تغيير العلاقة بين الذات والموضوع، وتجريد هذا الأخير من محمولاته المادية و"حصره" في حاسة البصر فقط.

تكمن أهمية الكتاب في محاولة مجموعة من الباحثين استكشاف الأفكار الهامشية وغير القابلة للتصنيف في الفلسفة الفرنسية، ومن خلالها إعادة قراءة فكر جان بودريار بصيغة أخرى وصورة أعمق وأشمل، لسبر مناطق من أفكاره الثقافية المجهولة والجذرية التي حملها الفيلسوف ضد جميع التيارات والانتقادات بإبداع وروح تهكمية من الخطابات الراهنة، مستشرفاً بها أفقاً ابستيميا أبعد من الحداثة وما بعد البنوية. سيبقى بودريار مفكرًا مثيراً للجدل ببحثه عن الحقيقة بين أوهام الواقع والإعلام والمضاربين بواقع المجتمعات من أجل آيديلوجيا الفكر والمال والهيمنة.

وفي الختام أعتقد أنَّ الكتاب صدر في أوانه لأنّ الاحتفال بذكرى جان بودريار تمّ في السادس من شهر مارس. كما قدم صورة مثالية عن مفكر جدلي، لأنّ معظم الدارسين تخبطوا في فائض من المتناقضات، التي فرضها عليهم فكر بودريار المتأرجح بين رفض الواقع وارتباطه المفرط بمظاهره التكنولوجية والإعلامية والسياسية، ولكن مع ذلك يمكن القول بأن الكتاب لملم صورة بودريار وحاول تجميع قطعها المتناثرة، ليمنحنا على وجه التحديد صورة عن الوهم الذي لا يتعارض مع الواقع. هذا الوهم الذي يسمح لنا اليوم بالتعبير عن الإعجاب بهذا المفكر الجذاب والفذ والغريب ونحن ننظر إلى تجليات أفكاره النقدية وفرضياته الفكرية والسياسية والاجتماعية وهي تتجسد على أرض واقعنا الأشد تعقيدًا تكوينياً وذهنيًا وتفاعليًا. ونحن أيضاً على مشارف تخليد ذكرى وفاته.

-------------------------------------------------

عنوان الكتاب: بودريار هذا الجذاب الغريب

مؤلف جماعي تحت إشراف نيكولا بواريي

الناشر: لارمونت، ضفة الماء، سلسلة مكتبة موس.فرنسا.

سنة النشر: 2016

الصفحات: 220 صفحة

اللغة: الفرنسية.

 

 

أخبار ذات صلة