الدماغ والتأمل: حوار بين البوذية وعلوم الأعصاب

Picture1.png

لماتيو ريكار وولف سينغر

محمد الشيخ

حين يلتقي عالم أعصاب وراهب بوذي في حوار دام أكثر من ثمان سنوات، فذاك مؤذن بحوار غني. فما بالك إذا ما كان العالِم أحد أكبر المُتخصصين في الدماغ البشري، وكان الراهب ترهب أكثر من أربعين سنة واشتغل ترجماناً للدلاي لاما وتطلبه باستمرار مراكز البحث العالمية التي تجري البحوث عن الدماغ! بل ما بالك إذا ما ائتلف في الرجلين ما قد لا يأتلف في غيرهما زمناً طويلاً: الذكاء والإنسانية، الفضول الفكري والصرامة المنهجية، المعرفة والتواضع، كما يقول مقدم الكتاب الطبيب العقلي الفرنسي الشهير كريستوف أندري! .

هو إذن كتاب عُدَّ بمثابة ثمرة حوار شيِّق ومُثير امتد على مدى ثمان سنوات، كان مُحَرِّكَاه: الفضول المعرفي لدى الرجلين والصحبة المُتبادلة بينهما، وكان مداره ـ على الجملة ـ على القضايا الأساسية المُتعلقة بالذهن البشري، وكان مقصده التوليف بين معارف كل واحدٍ منهما والجمع بين منظور ضمير المتكلم "أنا" ـ الذي جسده المتأمل البوذي بخبراته، والمتمثل في تقنية "الاستبطان" [= الأوبة إلى الذات والتَّدبر في ما يحصل فيها من مشاعر وتفاعلات وغِيَر] وآلية "التأمل" ـ وبين منظور ضمير الغائب "هو" الذي عادة ما تُعمله علوم الأعصاب. ولقد كان الرجلان واعيين منذ البدء بأنَّهما لن يقدما إجابات نهائية عن الأسئلة التي ما فتئت البشرية تناقشها منذ آلاف السنين، ولكن وضعا أملهما ـ كل الأمل ـ في توضيح بعض النقط المشتركة بينهما وتوضيح بعض الجوانب الخلافية التي بقيت عالقة بينهما، فلقد تباينا في تصاحبهما وتصاحبا في تباينهما.

أما المُتحاور الأول، فهو الفرنسي ماتيو ريكار الذي دخل سلك الزهادة البوذية منذ أربعين حولاً، وهو مصور الدلاي لاما وترجمانه الخاص، حاصل على الدكتوراه في علم الأحياء الخلوي، وباحث سابق في معهد باستور وها قد صار اليوم يؤمن بالتناسخ! وعضو مؤسسة "الذهن والحياة". سلخ عمرًا في ممارسة "التَّأمل" على الطريقة البوذية، وتطلبه باستمرار مراكز البحث العالمية التي تُجري التجارب حول الدماغ البشري. وهو يحيا اليوم بالنيبال حيث يكرس جهده لمنظمات الإغاثة. وقد صدر له أكثر من ثلاثين كتابًا ـ تأليفاً وترجمة وجمعا سواء بالانفراد أو بالاشتراك ـ من أهمها دفاعاته الثلاثة: "دفاعًا عن السعادة" (2003) و"دفاعا عن الإيثار" (2013) و"دفاعا عن الحيوانات" (2014)، فضلاً عن كتابه "فن التأمل" (2013).

وأما المُتحاور الثاني، فهو الألماني وولف سينغر، عالم أعصاب شهير، مُدير معهد ماكس بلانك لدراسات الدماغ، مؤسس معهد فرانكفورت للدراسات ومعهد إرنست شتروغمان لعلم الأعصاب، أحد أبرز المتخصصين العالميين في الدماغ البشري.

وكان مدار الحوار بين الرجلين على الدماغ والوعي والتأمل والإرادة الحرة. وقد شمل ألوانا من الموضوعات بعضها ذا صبغة مفاهيمية مجردة، وبعضها ذا صبغة عملية مشخصة. من قبيل المواضيع الأولى: 1- ما هو المنهج الذي ينبغي اتباعه في دراسة الوعي البشري: أهو المنهج الذي يستند إلى ضمير المتكلم "أنا" على نحو ما تدعو إلى ذلك البوذية، فيؤوب البوذي إلى نفسه فاحصاً تيار الوعي الذي يخترق إنيته ساعياً إلى تحقيق وعي يقظ خالص في ما وراء جذوة المشاعر ورين العواطف؟ أم هو منهج ضمير الغائب ـ هو ـ الذي يُعامل موضوعه ـ الوعي ـ بحياد هادئ وبموضوعية باردة كما يسعى إلى ذلك العالِم؟ أم هو في ما بين البين قائم على منهج ـ أنا/أنت ـ القائم على التحاور بين صاحب التجربة والباحث المُتمكن؟ 2- وهل توجد حقاً إرادة حرة تترتب عليها مسؤولية، أم أن دماغنا يُقرر في غفلة منا أهم الأمور التي تخصنا في ذواتنا وفي صلتنا بالغير؟ 3- هل يمكن تصور وعي بدون أساس مادي؟ أي هل يُمكن الحديث عن "نفس" من دون جسد، وعن "عقل" من غير دماغ، وعن "روح" عن كل بدن بمعزل؟

ومن قبيل المواضيع الثواني المشخصة والأقرب إلى الحياة اليومية: 1- هلَّا بمكنتنا أن "نغير" من عوائد دماغنا بواسطة من التمرن؛ أي بمزاولة رياضة "التأمل"؟ 2- ومتى يُمكن، يا ترى، أن نبدأ بمُمارسة التأمل؟ 3 – وهل النوم يُشكل لحظة مناسبة لكي نتعلم؟ 4 – وهل يمكن أن نحب الآخرين من دون أن نسجنهم في حبنا لهم، فضلاً عن أن نسجن أنفسنا في شرنقة هذا الحب؟ 5- وهل يمكن للإنسان درك سكينة النفس، وإن كان ذلك ممكنًا فكيف؟.

وكما قال مُقدِّم الكتاب، فإنّ الإصغاء إلى إجابة المتأمل والعالم على هذه الأسئلة وليمة وأية وليمة. وهو يُشَبِّهُ قراءة كتابهما بالصعود إلى أعلى قمة الجبل، وينصح كل قارئ قارئ بأن يختار السرعة التي تلائمه أثناء صعوده.

في المُقدمة التي وضعها المؤلفان، يشيران إلى أنَّ كل شيء بدأ بلقاء جمعهما بلندن عام 2005 حول حوار أول عن موضوع "الوعي". وفي العام نفسه تواجد الرجلان بواشنطن لمُناقشة الأسس العصبونية للتأمل. وطيلة ثمان سنوات استغلا كل الفرص المُتاحة لمواصلة الحوار بالنيبال وبالغابة الاستوائية التايلاندية وبقرب الدلاي لاما بالهند. وقد لاحظا أن الحوار بين العلم الغربي والبوذية يتميز عن الحوار ـ الصعب أحيانا ـ بين العلم والأديان، حتى وإن حق أنّ البوذية ما كانت دينا بالمعنى الذي يفهم به "الدين" في الغرب، فهي لا تقوم على فكرة إله خالق، لا ولا على عقيدة مقررة، وإنما يمكن تحديدها على أنها "علم للذهن" أو "طريق نحو التحول" تقود من الخلطة إلى الحكمة ومن المُعاناة إلى التَّحرر. وتتشاطر مع العلوم الغربية ملكة فحص الذهن البشري فحصًا اختبارياً. ومن شأن هذه المشاطرة أن تجعل الحوار بين راهب بوذي وعالم أعصاب ممكنًا ومثمرًا؛ إذ تمكنهما من مُناقشة حزمة واسعة من الأسئلة تذهب من الفيزياء الكوانطية إلى المسائل الأخلاقية.

كثيرة هي البحوث التي تخصصت في نظريات المعرفة والتأمل ومفهوم الذات والمشاعر ووجود الإرادة الحُرة وطبيعة الوعي، لكن ما كان هم المتحاورين جرد التصورات المُختلفة حول هذه المواضيع، وإنما المواجهة بين منظورين منغرسين في تقليدين ثَرَّيْن: المُمارسة التأملية البوذية، من جهة، وإبستمولوجيا البحث في مجال علم الأعصاب، من جهة ثانية. وكان الحوار مُساهمة في مواجهة وجهات النظر والمعارف حول الدماغ والوعي بين أهل التأمل وأهل العلم؛ أي بين معرفة على مستوى ضمير المتكلم ـ أنا ـ ومعرفة على مستوى ضمير الغائب ـ هو. كما لم يكن بمثابة حوار التِّيَسة: إذا تقاربوا تناطحوا، وإذا تباعدوا تصايحوا، وإنما أسفر في النهاية عن فهم مُتبادل لوجهات النظر المطروحة.

الفصل الأول

التأمل والدماغ

من مزايا هذا الكتاب وجود مُقدمة مختصرة في بداية كل فصل تأخذ بيدك برفق إلى الموضوع المطروح ولا توغلك فيه الإيغال المؤلم. مدار هذا الفصل على ملكة التعلم لدى بني البشر: هل يمكن تدريب الدماغ على أن يصير أكثر نباهة واعتبارا للغير وصرامة؟ وهلَّا أمكننا تدبير مشاعرنا المزعجة برفق؟ وما التحولات التي تحدثها مثل هذه التمارين التأملية على الدماغ؟.

في البدء ترد ملاحظة ماتيو التي تقول بأنّه وعلى خلاف الحضارات الغربية، لم تركز الحضارة البوذية على معرفة العالم الخارجي ـ الطبيعي ـ حتى وإن وُجِدت كتب في علم الكون وفي الطب التقليديين، وبالضد فإنَّ هذه الحضارة سعت منذ خمس وعشرين قرناً إلى استقصاء عميق لعالمنا الداخلي ـ الذهن ـ مراكمةً في ذلك ثروة من النتائج الاختبارية، هذا بينما علم النفس الغربي لم يبدأ إلا منذ أمد قصير. وقد أنشأ بناءات ذهنية عن النفس لا يمكن أن تضاهي ألفي سنة ونصف من الفحص المباشر لعمل الذهن، وذلك بفضل استبطان عميق قامت به عقول شديدة الدربة بلغت مرتبة عالية من صفاء الذهن. وقد كان همها نزع ما يرين على النفس البشرية من مشاعر سلبية ـ الغضب، الحسد، الأنانية، الكبر ... ـ وزرع سمات بشرية إيجابية جوهرية ـ الطيبة، الحرية، السكينة ... وإذ يجد وولف في تقدمة ماتيو إقداما شديدا، فإنه يستشكل كلامه: لماذا يعتبر ما وهبتنا الطبيعة إياه من مشاعر أمرا سلبيا بحيث يتطلب إجراء مرانات ذهنية خاصة بغاية نزعه؟ ولِمَ تُعَد هذه الممارسات التأملية تعلو على التربية التقليدية وأشكال العلاج النفسي المُتعددة بما في ذلك التحليل النفسي؟ وجواب ماتيو أن ما وهبتنا الطبيعة إياه ما كان بالسلب قطعاً، وإنما كان البداية فحسب، ذلك أن أغلب قوانا الفطرية تبقى في حال كمون تحتاج إلى استثارة. ونحن نعلم أن ذهننا يمكن أن يكون أفضل صديق لنا، كما يمكن أن يكون أكبر عدو لنا؛ فإِنْ نحن لم ندبر أمره فنحمله على الخيرية، دبر لنا كل الشرية بأن صار وبالا علينا وعلى الغير. إذ نمضي الوقت في رياضة جسمنا، ولا نهتم بدربة ذهننا. ولا تركز التربية التقليدية على تبديل عوائد الذهن، ولا على اكتساب سمات أساسية شأن الطيبة والنباهة. وهنا يُقدم ماتيو تصوره عن وعي خالص كأنَّه مرآة مجلوة أو نار موقدة تُنير كل شيء ولا تحتاج إلى أن تنار. ويتهمه العالِم بالقول بالثنائية ـ في الإنسان كيانان ـ إذ يدعي وجود "عين" جوانية بمثابة مرآة مثالية لا تؤثر فيها الأحاسيس، بما يشي عن مزقة في الشخصية: ثمة ملاحظ خالص مفتَرَض بريء من المشاعر، وثمة جزء آخر من الذات تمزقه الصراعات، فهل تمرين الذهن يسير إلى خلق هذه المزقة؟ ولئن كان هذا هو مطلب التأمل، أفلا يُعَد مطلبًا خطيرًا؟ وجواب المتأمل: لا يتعلق الأمر بتشظية الأنا، ولكن بجعل ملكة المُلاحظة تلاحظ نفسها لكي تتحرر من المعاناة، والأمر أشبه بالمحيط وبالموجات، فالذات الملاحظة تلاحظ عدم وعينا الذي يلقي بنا إلى الوهم وإلى المُعاناة، ومناهج البوذية التأملية ترتئي الحد من خطورة هذه الموجات بالانفصال عنها؛ فإذا ما نحن انفصلنا عن الغضب، مثلا، ولم نتماه معه فنصير نحن الغضب الذي ننظر من خلاله إلى كل شيء شيء، عملنا كمن يصب الزيت على النَّار. وهنا يُعيد العالِم تذكيرنا بأن العواطف الإيجابية قد تكون أيضًا خطيرة بخلقها للوهم الذي يحمينا الحماية الموهومة. وجواب المتأمل: العواطف الإيجابية خلق لمُجتمع المحبة، وما كانت هي حجاباً للواقع. وهنا يُشغب العالِم من جديد: أتريدون كائناً عرياً عن الحب، خلياً من الحزن: أهذا هو هدف البوذية؟ وهلّا أمكن لكائنات هذا شأنها أن تحيا اللهم إلا إن هي حظيت بامتياز العيش في مجتمع محمي كل الحماية؟ ويرد المتأمل: كلا، ما كان الهدف ألا نشعر بمشاعر، وإنما ألا نصير لها عبيدا ... وهكذا يتواصل الحوار في متعة قل أن تجد لها نظيرا ...

الفصل الثاني

اللاوعي والمشاعر

مدار هذا الفصل على اللاوعي وعلى الهوى. ترى ما هو اللاوعي؟ الراهب البوذي أميل إلى إنكاره أو التَّقليل من قيمته: إنما الجانب الأعمق من وعينا هو الحضور اليقظ، الذي هو أشبه شيء بالشمس المُنيرة، وما يعتبره التحليل النفسي لا وعيا إِنْ هو إلا صنعة ضبابية. أما بالنسبة إلى عالم الأعصاب، فإنّ ثمة قدرًا من المُعطيات مكدسا في ثنايا الدماغ من دون أن نكون على بينة من أمره. أكثر من هذا، هو الذي يحدد العمليات المعرفية التي نعي بها كل الوعي. وهو أظهر ما يكون حين يكون علينا اتخاذ قرارات سريعة لا نعلم كيف اتخذناها. وعند المتأمِّل، الفارق بين التحليل النفسي والبوذية أن التحليل النفسي نباش في المكبوت، بينما البوذية طاردة لكل الأفكار الرديئة ما أن تظهر. وهو ما يرى فيه العالِم مداراة للمشاكل لا مواجهة لها، متسائلاً: كيف لنا أن نتخلص من الأهواء والعواطف وهي محرك ومنشط حياتنا؟ خذ مثلاً هوى الحب، ألا تسعى البوذية إلى جعلنا كائنات بلا حب؟ وجواب المتأمِّل: إنما هي تسعى إلى محاربة الهوى الأناني فينا لا حب الغير غير التملكي له.

الفصل الثالث

كيف نعرف ما نعرفه؟

هذا الفصل مناط بمفهوم "الواقع": هل يمكن أن ندرك الواقع كما هو؟ وجواب الرجلين بالسلب: إنما المعرفة بالواقع تأويل له، وما كانت هي نسخاً له بما هو وكما هو. وما هذا الواقع الذي ندركه؟ يلوذ العالِم هنا بكانط: نحن لا ندرك من الأشياء إلا ظواهرها، أما سرائرها فتبقى دوننا موصدة. وهو ما يُوافقه عليه صاحب التأمل، لكنه يضيف بأنه لئن هي كانت الحواس البشرية هشة، فإن ثمة طبيعة غير نهائية للواقع لا تدرك بالحواس. وحقيقة الواقع أنه سيال بدال: هذه الوردة مثلاً ليست كما يُخيل إلينا كائنا مستقلا بذاته ـ تلك معرفة غير مطابقة ـ وإنما هو تلاقي أشياء ـ وتلك هي المعرفة المطابقة. على أنَّ البوذية تسعى إلى تقليص الهوة بين الأمرين حتى تحد من معاناتنا الناتجة عن معرفتنا الخاطئة بطبيعة الأشياء. غير أن العالِم يشكك في ما إذا كان بمكنتنا ـ معشر البشر ـ أن نزيل هذه الهوة. إذ ما من إدراك إلا وهو تأويل؛ أي عزو صفات إلى أمارات حسية، وبالتالي ما الإدراكات سوى تشييدات ذهنية ليس إلا. ويتفق البوذي مع العالِم في أمر الإدراك الحسي، لكنه يستميت في الدفاع عن فكرة أنَّ ثمة طبيعة نهائية للعالَم ندركها بالوعي الخالص اليقظ. ولا يرى أن أوهمنا عن الأشياء أوهام "بصرية" وإنما هي أوهام "إعتقادية". ويتساءل العالِم: ما الذي يعنيه "الواقع" إِنْ لم يكن النظر إلى الشيء نفسه من مُختلف زوايا النظر. ويرد ماتيو أن الواقع ليس من شأنه أن يستقل عنِّا، وهل يوجد عمل فني جميل في ذاته باستقلال عن ثقافة الناظر إليه؟

الفصل الرابع

فحص الذات

يدور هذا الفصل على مفهوم "الذات": هل الذات كيان يستوطن كينونتنا أم هي مركز قيادة في دماغنا؟ أم هي ديمومة لتجارب تعكس ماضي الشخص؟ يعمد الناسك البوذي إلى تفكيك مفهوم "الذات" التي يُفترَض أنها واحدية مستقلة، فلا يرى فيها إلا كائنا سيالا بدالا، على نحو ما كان قد نظر إلى "الواقع" من ذي قبل، بينما يؤكد العالِم العصبي ألا باحة من باحات دماغنا بشاهدة على تأدية دور مركزي وقيادي في الدماغ حتى نسميها موطن الذات أو مركز الشخص. ومعنى هذا أن تصورنا عن "الذات" من حيث هي قائد أوركسترا مجرد وهم. ويتساءل: هل من الضروري وجود أنا قوية لضمان صحة عقلية تامة؟ لكن، أليس من شأن التخلص من الاعتقاد الأعمى في "الذات" أن يجعلنا ذوي هشاشة؟ يرى البوذي أنَّ كل البلاء موكل بافتراض وجود "أنا" يُتصوَّر على أنها كيان مستقل، ففي هذا الاعتقاد تشويه للواقع يغذي أوهامنا عن أنفسنا ويتسبب في كل الحالات الذهنية المتعبة. قوة النفس لا تتأتى من الأنانة [أنا أنا] وقد شُيِّأت، وإنما من الحرية الجوانية، وبصيرورة الأنا أنانة تؤذن بميلاد أنانية الملكية: "أنا" و"لي" و"عندي" ... وتلك هي القوقعة بعينها. إذ ليس يُمكن لسعادتنا أن تحدد إلا بالمعية مع سعادة الغير؛ أي إلا بالإيثار والبدل والمشاطرة. والحق أنَّه ما كانت الذات سوى اصطناع أنشأناه توهمًا. فلماذا إرادة حمايتها بكل ثمن؟ لكن العالِم سرعان ما يعترض: ولِمَ لا السعي إلى حماية الذات؟ أليس هذا هو الدرس الذي أفادنا إياه منطق التَّطور؟ وجواب البوذي: ذاك تشرنق لا دفاع عن النفس.

الفصل الخامس

حرية الإرادة والمسؤولية والعدالة

هل الإرادة الحُرَّة موجودة؟ إذا كانت قراراتنا تهيء لها عمليات عصبونية لا نعي بها إلا بوعي جزئي، فهل نحن حقاً مسؤولون عن أفعالنا؟ وهل بمكنة تمرين الذهن تغيير مضمون وسيرورة العمليات غير الواعية؟ وما أثر ذلك على مسألة المسؤولية الشخصية وعلى مفاهيم "الخير" و"الشر" و"العقاب" و"العفو"؟.

المنطلق هنا هو النقاش حول مدى مسؤولية الشخص عمَّا "اقترفت يداه". والذي عند العالِم أن مجمل الظواهر الذهنية التي تلج إلى حيز وعينا إنما هي نتيجة النشاط العصبوني الذي ينتج في عدة مراكز للدماغ، والتي يُفترض أن تتعاون في ما بينها لكي تنتج الحالات الذهنية الخاصة التي نعيش تجربتها، وذلك سواء تعلق الأمر بالإدراكات أو القرارات أو الأحاسيس أو الأحكام أو الإرادة. من هذا المنظور كل الظواهر الذهنية نتاج وليست سبب العمليات العصبونية. وعند العالِم ما يفترضه المتأمل من وجود حُر يعلم ما يُريد فعله إنما يفترض أنّ للشخص أهدافاً عادلة محقة وأنّه لا يتأثر بالنوازع والميولات والدوافع الموروثة عن التطور البيولوجي والاستعارات الثقافية، فلئن تركناه يفعل ـ وهذا وهم من المتأمل ـ فإنِّه لن يفعل سوى الخير. إلا أنَّه للأسف ـ كما يرى العالِم ـ لا يُمكن للإنسان أن يفعل ما يأمله، لأنَّ ثمة قوى سلبية تتمثل في الأحاسيس المتصارعة أبدًا على الرغم من أنَّ الذات الواعية والاستعدادات السلوكية كلاهما ينبع من نفس الدماغ، ولا يمكن للتمرين الذهني التأملي أن يقصي كل سمات الطبع المنغرسة بعُمق في داخلنا. فليست الأنا سيدة في بيتها.

الفصل السادس

طبيعة الوعي

هل الوعي واقعة اختبارية؟ وما مصدره؟ هل يُختزل إلى نشاط الدماغ أم أنَّه "واقعة أولية" لا يمكن فهمها إلا بالخبرة المباشرة التي تتقدم على كل خبرة؟ تعتبر البوذية الوعي ظاهرة أولية لا تقبل الاختزال إلى أي شيء آخر. ثمة طريقتان لدراسة الوعي: من الخارج ـ انطلاقا من ضمير الغائب "هو" ـ أو من الداخل ـ بدءا من ضمير المتكلم "أنا". وهي تفضل الطريقة الثانية على الأولى. لكن ثمة طريق ثالث لا تستبعده أيضا هو طريق "أنا – أنت"؛ أي المتأمل والملاحظ. وفي التقاليد القديمة كان هذا الملاحظ هو الشيخ، والآن صار الوعي يدرس في مختبرات أمام العالِم. ومهما يكن، عند البوذية معرفة الوعي لا تتم إلا بالخبرة، وحين نختبر وعينا لا نعثر فيه على ما أمسى يسميه العلماء الغربيون: العصبونات. أما العالِم فيعالج الوعي على أساس عصبي، فيرى أن الظواهر الذهنية ـ ومنها الوعي ـ لا تكون أبداً مستقلة عن أساسها ومكمنها في الدماغ البشري، بما يفيد ألا وجود لشيء اسمه "الروح" من غير قابل مادي مستقل عن الدماغ، فلا توجد في عالم روحي أو غير جسدي، وتؤثر مع ذلك في الدماغ. أما خلود الذهن، فليس يمكن إلا من خلال خلود عمل الشخص: معتقداته، مفاهيمه، قيمه، معارفه، رموزه ... وهي حقائق غير مادية لكنها تؤثر في دماغ أناس آخرين. ويتصور المتأمِّل أن الفكر الغربي ذو نزعة واقعية صلبة ـ مادية ـ بينما الثقافات الشرقية يمكنها تصور وعي خالص يقظ نوراني أو تجربة خالصة نقية. وبينما أمست الثقافات الغربية تميل إلى الواحدية المادية، فإن الثقافة الشرقية لا تزال تؤمن بثنائية الروح/الجسد.

وفي النهاية، حين ينكسر الحوار على ثنائية الروح/الجسد بين معتقِد ومنتقِد، يدعو أهل التأمل إلى ترك هذه المسألة الشائكة مفتوحة لاستكشافات المستقبل في تعاون بين منظوري "هو" الغائب و"أنا" المتكلم الحاضر.

--------------------------------------------------------------------------------

عنوان الكتاب: الدماغ والتأمل: حوار بين البوذية وعلوم الأعصاب

اسم المؤلفين: ماتيو ريكار وولف سينغر

لغة الكتاب: الفرنسية

دار النشر: Allary Editions

سنة الصدور: 2017

عدد الصفحات: 500

أخبار ذات صلة