وحين تمشي في الطريق: نظرية الهلاخا في فكر فرانتس روزنتسفايغ

Picture1.png

لليون فينر

فوزي البدوي أستاذ الدراسات اليهودية

رئيس قسم الأديان المقارنة، جامعة تونس كلية الآداب بمنوبة

هذا الكتاب هو آخر ما جادت به مطبعة جامعة بار إيلان للباحث والجامعي ليون فينر دوف[1] بعنوان "وحين تمشي في الطريق: نظرية الهلاخا في فكر فرانتس روزنتسفايغ " والعبارة الأولى اقتباس من اللغة التوراتية من سفر التثنية.

وقد اجتهد المؤلف في بداية الكتاب في بيان ما اعتبره السياق التاريخي والسياسي والعلمي وحتى العائلي الذي نشأ فيه هذا المفكر ونبَّه إلى أن فرانتس روزنسفايغ هو من أكبر فلاسفة اليهود الألمان المتخصصين في فلسفة هيغل وعلماء اللاهوت من المخضرمين الذين عايشوا نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ( 1886 -1929) وبرغم أنه لم يعش طويلاً وتوفي في سن مُبكرة بسبب مرض ضمور العضلات فقد كانت السنوات التي عاشها كافية لتجعله في عداد من تفتخر بهم اليهودية من الفلاسفة والمُفكرين وعُلماء اللاهوت على وجه الخصوص.

وأشار في سياق تتبعه لمسيرة روزنتسفايغ إلى كونه قد تربى في عائلة يهودية تشبعت بقيم الهاسكالا أو الأنوار اليهودية التي دشنها على المستوى الفكري موشيه مندلسون ودعت إلى الاندماج في الحضارة الغربية والتحلل شيئاً فشيئاً من اليهودية التقليدية المُحافظة وانغمست في تلك الثورة العقلانية التي طغت في أوروبا وكان من آثارها أن انسلخ جزء من عائلته عن اليهودية ليعتنق المسيحية وكان قاب قوسين أو أدنى من أن يسير في نفس الاتجاه، لولا أنَّه سرعان ما تحول بقوة وعمق إلى اليهودية من جديد، ليصير من كبار مُفكريها وقد حدث ذلك عندما قرَّر قبل اعتناقه المسيحية أن يقضي آخر يوم فيها داخل الكنيس لحضور مراسم عيد الغفران ليُثبت أنَّ انتقاله هذا هو انتقال اليهودي لا الوثني ولكن العكس هو الذي حدث فلم يخرج من هناك إلا وهو أكثر تشبثاً بيهوديته وإلى حين الوفاة.

نبَّه الكاتب ليون فينر دوف إلى أنَّ روزنتسفايغ كان متأثرًا في بداية حياته الجامعية بأفكار هيغل حتى أنَّه كتب رسالته للدكتوراه عن "هيغل والدولة " سنة 1920 وكان مشغله الأساسي هو هل تتواءم الدولة الكونية الهيغلية مع حقيقة الدولة القوية أو دولة القوة؟ وبدأت العقلانية الهيغلية تخبو في نفسه شيئاً فشيئاً عندما شارك بنفسه في الحرب العالمية الأولى التي هزَّت معتقداته فيما يتعلَّق بفلسفة التاريخ الهيغلية التي تبرر التضحية بالفرد من أجل الفكرة وحين التقى بصديقه لاحقا هيرمان كوهين وجد أخيراً من يُشاطره هواجسه وكانت نتيجة هذه المرحلة كتابه الشهير عن "نجمة الفداء" الذي قطع فيه مع يهودية الهاسكالا في معناها الانصهاري وقطع فيها مع هيغل نهائيًا ومع المثالية الألمانية عموماً.

كما أشار المؤلف إلى أنَّه ظل يعتقد في قرارة نفسه برغم كل المرارة أنه لا يزال ألمانياً في الصميم ولكنه كان يعتبر العودة إلى يهوديته هي أكبر ضمانة ليظل ألمانياً صميماً ولم يكن يرى في يهوديته نقيصة تطال ألمانيته؛ إذ يقول في هذا الصدد" إنَّ عودتي إلى اليهودية جعلت مني ألمانياً بشكل أفضل ولم تجعلني ألمانياً سيئاً وإنني لأعتقد أن كتابي الرئيس نجمة الفداء سينظر إليه لا محالة على أنه أكبر هدية للروح الألمانية من تلك الرقعة اليهودية داخله".

ونبه ليون فينر دوف إلى أنّه لم يكن من الممكن فهم نظرية فرانتس روزنتسفايغ الأخلاقية والهلاخية دون فهم شعوره المرير من هذه الحضارة التي انبنت على "نظام من العقلانية" أدى إلى كوارث أخلاقية وإلى صورة من صور العقل التاريخي المقيت التي ستؤدي لا محالة إلى نشوء صيغة من الأمل على أنقاضهما ولعل هذه العودة إلى اليهودية الممزوجة بروح من التصوف هي بشائر هذا الأمل كما بدت له.

كان على روزنتسفايغ أن يقف في وجه عملية انصهار اليهود الألمان وتماهيهم مع الآيديولوجية الكونية التي روجت لها الهيغلية، ويقف ضد الحركة الصهيونية الناشئة من جهة أخرى بما هي شكل الخلاص الذي يُريد أن يكونه أحد بالنسبة إلى اليهودية التي كان يراها أكبر من الصهيونية. وكان جوهر تفكيره يقوم على رفض اللوغوس باعتباره مبدأ الوجود البشري ليستعيض عنه بظاهرة اللغة؛ ومن هنا جاء اشتغاله على اللغة العبرية وترجمة التوراة وكانت هذه الأفكار هي القادحة لنظريته الهلاخية والفقهية التي عبَّر عنها بنجمته السداسية القائمة على مبادئ ثلاثة هي: الله، والعالم، والإنسان التي تخترقها مبادئ ثلاث موازية هي: الخلق، والوحي، والفداء.

كان روزنتسفايغ يعتبر أنَّ اليهودية هي الحلقة الناقصة في الهيغلية الألمانية ودليل فشلها؛ فالدليل على فشل الهيغلية هو بقاء اليهودية في التاريخ ولو كان هيغل على حق لكانت اليهودية قد اختفت، ولأنَّ اليهودية لم تختف فذلك دليل ساطع على أن هيغل وفلسفته التاريخية كانا على خطأ بحسب عبارة أحد دارسيه المُعاصرين.

ولأنَّ اليهودية تتمتع في فكر روزنتسفايغ بكل هذه المنزلة كان واجباً العودة إلى نصوصها لتدبرها. وهو ما فتئ يحذر من أنها ليست عودة إلى الدّين؛ فالعودة إلى النصوص لا تعني عودة إلى الدّين ولا إلى التدين في شكله التقليدي. إنِّها عودة من نمط خاص: عودة إلى الدرس وليس للإيمان؛ فالدرس أهم من الإيمان في نظره وأهم من الارتباط الطفولي والعاطفي بالدين. وهذا الدرس هو الذي جعله يُعطي أهمية بالغة للقبالة اليهودية أو التصوف اليهودي لا في أشكاله الفلكلورية بل في أشكاله الراقية، كما عرفها إسحاق لوريا. ولا شك أنَّ غرشوم شوليم كبير الأخصائيين اليهود في مجال التصوف اليهودي قد تأثر بمثل هذه الأفكار في كتابه الشهير عن الاتجاهات الكبرى في التصوف اليهودي.

وقد أدرك روزنتسفايغ أنَّ عودته إلى الدّين لن تستقيم دون الاهتمام بجانبها الفقهي الهلاخي الذي يقف مستعصياً أمام أية نظرية فلسفية لا تعتبره جوهر اليهودية؛ فاليهودية كانت دومًا ديانة فقه.

ويقول ليون فينر دوف أن روزنسفايغ قرَّر وقد انتهى من كتابة أثره الأساسي نجمة الفداء الذي سما به إلى أعلى درجات التفكير الفلسفي وبعد أن بدأت أعرا ض المرض تنال من جسده المنهك أن يقضي بقية حياته في الاشتغال بالفقه اليهودي مقرًا بأنَّه قد أتى هذا المجال والغاية من ذلك كما يقول هو محاولة الوقوف على أسس نظرية للهلاخا اليهودية تماما كما فعل هيغل من قبل في كتابه أسس فلسفة الحق

وقد قسم المؤلف كتابه هذا إلى بابين كل منهما إلى ثلاثة أقسام أطلق على الأول اسم بنية الهلاخا والمتسفا (الفقه وأحكام الوجوب) والثاني الوحي ومصدر الإمكان والوجوب، والثالث بعنوان من الداخل والخارج: الشعب الأبدي وتطور الهلاخا، والرابع الآن وهنا: فينومينولوجيا الخضوع إلى أحكام الميتسفا.

أما الباب الثاني فأطلق عليه إعادة تجديد المفاهيم والاصطلاحات داخل الخطاب الهلاخي وقسمه إلى ثلاثة فصول أولها: في الهلاخا باعتبارها نظاماً إنسانيا، وأطلق على الثاني: الاعتراض على "الشولحان عروخ" שֻׁלְחָן עָרוּך والشولحان عروخ هو عنوان أشهر كتب الفقه اليهودي، وتعريبه المائدة المنضودة للربي يوسف قارو (ت 1563 ) من علماء مدينة صفد الفلسطينية. وأطلق على الفصل الثالث: الخروج عن الأحكام وتدنيس اسم الإله الأعظم باعتباره عنصرًا في خدمة فكرة الألوهية. ثم أنهى الكتاب بخاتمة عامة وببيليوغرافيا تفصيلية.

وقد سعى المؤلف في الباب الأول إلى حصر المدونات التي يمكن من خلالها رصد ملامح نظرية فقهية "أو قانونية" ببعض التجوز في العبارة، وهي في نظره ما كتبه فرانتس روزنتسفايغ في إحدى رسائله إلى الفيلسوف اليهودي المعاصر له مارتن بوبر، وهو الذي جمعته به صداقة لم تنقطع إلا بالموت عرفت أوجها سنة 1925 عندما قررا ترجمة التوراة إلى الألمانية، وهو المشروع الذي سيمضي فيه بوبر وحيداً بعد وفاة روزنتسفايغ.

وفي بعض هذه الرسائل توجد أهم الموارد الهلاخية التي يُمكن من خلالها تلمس نظرية روزنتسفايغ في القانون أو الشريعة اليهودية، وفي هذه الأبواب تعرّض المؤلف إلى المقدّمات النظرية من الخلق والوحي والفداء التي سبق له أن خصص لها كتابه الأساسي نجمة الفداء، وتعرض فيه إلى منزلة اليهودية من المسيحية وتدوين الفقه اليهودي والمشنا والتوراتين الشفوية والمكتوبة، وصلتها بنحت ملامح اليهودي المتوحد كما يحلو له أن يُسميه.

وفي الباب الثاني حاول أن يكشف الجانب الإنساني في النظام الفقهي اليهودي وانشغل ببيان نقاش روزنتسفايغ بكل من الربي موشيه بن ميمون نسر الكنيس وديان اليهود ومن نسبته عند اليهود إلى الفقه اليهودي كنسبة أرسطوطاليس إلى علم المنطق عند اليونان، قياسًا على عبارة الرازي في المفاتيح عند حديثه عن الشافعي، كما كشف عن وجهة نظره حول الربي نحمانيد، وفصل الحديث في التمييز بين أخلاق الواجب وأخلاق الإمكان والقدرة، وهي النقطة الأساسية التي بنى عليها روزنتسفايغ كامل نظرية الفقهية الهلاخية.

ولم يفت المؤلف في النهاية أن يقف عند موقف روزنتسفايغ من التصورات الحسيدية للفقه، كما عرفتها مدارس أوروبا الشرقية وركز على قضية تدنيس الاسم الأعظم فيما يُشبه قضية التكفير عند المسلمين، وربطها بقضية الشرّ وثنائية أخلاق الواجب والقدرة السابقة، محاولاً إلقاء الضوء على الصلات بين نظام الميتسفا أو الأحكام الواجبة والإرادة الإلهية مفصلاً الحديث في كيف أنَّ الأحكام في مذهب روزنتسفايغ ليست غاية لذاتها بل هي السبيل ليُدرك الإنسان صلته بالخالق ومنزلته من الوجود. وهي لا تجد دلالتها في الخضوع القهري بل في استبطان الأحكام بما هي تعبير عن إرادة حُرة، وهو ما عبّر عنه هذا الفيلسوف واللاهوتي في اللغة الألمانية بقوله إنَّه انتقال من الوجوب إلى الإمكان انتقال من Ich muss إلى Ich kann ولعل هذا هو ما أراد التوقف عنده في إجابته الشهيرة عن سؤال "هل تضعون التفلين؟ فأجاب أنا لا أفعل ذلك حتى الآن ولكن قد أفعل ذلك في المستقبل؛ فجوهر الفعل الهلاخي هو هذا الإمكان وليس ذاك الوجوب.

لقد سعى المؤلف ليون فينر دوف من خلال هذا الكتاب الجديد في المكتبة العبرية إلى أن يجد في ما تناثر من كتابات روزنتسفايغ ورسائله وتكوينه وسياقه الفكري وصداقاته ما يسمح بالحديث عن تصوراته الفقهية التي يمكن القول إنِّها لخصت جوهر هذه الفرادة اليهودية التي حاول روزنتسفايغ أن يدافع عنها ضد الهيغلية وضد الصهيونية التي حاولت احتكار اليهودية وتقليصها إلى مجرد مشروع سياسي وديني بالتبعية قبل أن يقوم الربي كوك في ثلاثينات القرن الماضي بمحاولته الشهيرة لإيجاد تقاطع بين اليهودية والمشروع السياسي الصهيوني.

لقد أثبت المؤلف ليون فينر دوف من خلال هذا الجهد الكبير أنَّه لا يمكن فهم الفكر الهلاخي لهذا الفيلسوف واللاهوتي والمتصوف دون الرجوع إلى مؤلفه الأم نجمة الفداء فبدونه لا يمكن فهم عمق تفكير الرجل وهو الكتاب الذي أثر بعمق في مُفكرين يهود كبار أتوا من بعده، وعلى رأسهم رائد الدراسات القبالية غرشوم شولام بل حتى في مارتن هايدغر في كتابه الشهير عن الوجود والكينونة وفي الفيلسوف الفرنسي اليهودي إمانويل ليفيناس لاحقاً. ولعله قد آن الأوان حقاً أن يُبادر العرب إلى ترجمة هذاالكتاب إلى العربية وهم أحق الناس بتتبع ما ينشر في الأوساط اليهودية عملاً بوصية الرسول الأعظم إلى زيد بن ثابت الأنصاري.

أخيرًا ما الذي يهم القارئ العربي من ظهور هذا الكتاب؟

لا شك أنَّ ظهور هذا الكتاب هو دعوة لكل المشتغلين بمسائل الفقه الإسلامي، وهم كثر، إلى أن ينظروا إلى تجارب مُختلفة في عوالم وأديان أخرى، لعل اليهودية هي أقربها إليهم بحكم غلبة الجانب التشريعي عليهما؛ فاحتلت الهلاخا في الأولى والفقه في الثانية حيزا كبيرا جدا مما خلفته القرون. وفي هذا الكتاب ما يستوقفهم من محاولات فلسفية لإعادة تأسيس الهلاخا فلسفيا في سياق تاريخ جديد وتجربة تاريخية جديدة والنظر في قضايا الشر والوجود والألوهية والخلاص في صلتها بالإنسان، وهو أمر مطلوب من الأوساط الإسلامية المشتغلة بقضايا الفقه أن تجد فيه رجعاً لصدى مشاركة للمسلمين القدامى في علوم عصرهم وانشغالاتها، وهم يسعون إلى تدبر منزلة الفقه في الثقافة الإسلامية الحديثة.

الكتاب: وحين تمشي في الطريق: نظرية الهلاخا في فكر فرانتس روزنتسفايغ

تأليف: ليون فينر دوف

اللغة: العِبْرية

منشورات جامعة بار ايلان يناير 2017.

عدد الصفحات: 316 صفحة

----------------------------------------------------------------------

[1] أستاذ الفكر اليهودي الحديث والأدب الرّباني في المعهد العبري الموحّد بالقدس وهذا الكتاب هو أطروحته بإشراف الأستاذين آفي ساغي والربي يهودا أمير ومن آخر اهتماماته مقالة في الاعتراضات على كتاب الشولحان عروخ في الفقه اليهودي

أخبار ذات صلة