عاطفة المسكري
إنّ التقدم ولّد الكثير من المنجزات في مختلف المجالات كالصناعة والتكنلوجيا والثورة المعلوماتية المرتبطة بالمجال الفكري. ومن أهم السمات التي يحملها هي السرعة والتطور المستمر والملازم لهذا التقدم حيث لا يستطيع الإنسان وإن أفنى عمره باحثا وقارئا أن يلم بالتحديثات المرتبطة بكافة المجالات. هذا الزخم الهائل من الإنجازات ربط الأمور ببعضها البعض، وامتد ذلك ليشمل الأشخاص والأماكن مفضيا إلى تحويل المساحات الشاسعة إلى كتل متقاربة متصلة. وفي سياق تخصصي نجد تأثير هذه التغييرات قد لامس أيضا الموروثات حتى أصبحت لها علاقة بالمنجز الصناعي التكنولوجي الحديث. ووفقا لذلك ظهرت بعض المصطلحات كالتنمية التراثية بالإضافة للنظريات والأفكار التي تشرح علاقة القديم بالمستحدث وكيفية الاستفادة من الأخير دون التأثير على الجودة، بل لخلق ما هو أفضل منه في ظل توافر سبل أكثر سهولة لتحقيق ذلك. وتأتي مقالة منَسِّق برامج معهد المخطوطات العربية فيصل الحفيان بعنوان "مستقبل التراث المكتوب (المخطوط) في ضوء تطور الصناعات الثقافية " ليركز على جانب التراث المكتوب في الموضوع نفسه.
إنّ التراث بأشكاله كان يعد حاضرًا يعكس صنعة الإنسان الذي تطور مع الأيام مجاراة للزمن ليخلف وراءه الإنجازات لتصبح ماضيا موروثا. لكنّها تبقى قابلة للتطور إذ أنّ من صنعها بنفسه قد تطور. وأنجع طريقة لتحقيق ذلك بل أصلحها تكون عبر المزج بين القديم والمستحدث لأنّهما من الأساس مرتبطان. هناك تمازج بين الماضي والحاضر لأن الحاضر يعد خاليا دون الماضي، وبشكل عام لخلق أساس قوي يستند عليه لابد من الرجوع للماضي، ولا يشترط الأخذ منه حيث من الممكن الاقتباس منه على الأقل أو الاستفادة من الدروس الكامنة فيه ولا ضير من الاعتماد عليه كنقطة انطلاق قوية يتم الإكمال منها بدلا من أن نبدأ انطلاقا من نقطة الصفر. حيث يكلف ذلك مزيدًا من الوقت والجهد. أيضا وجود الماضي والحاضر يعد عنصرًا هاما لتشكيل المستقبل، ومن الصعب القفز عبر أي مرحلة أو تجاوزها في سبيل تحقيق ذلك. هذه الأمور النظرية تطبق على الموروثات في علاقتها بالمنجز الصناعي التكنولوجي الحديث. حيث توجه هذه الصناعات إمّا لخدمة وتطوير هذه الموروثات أو طمسها، فكلاهما ممكن تحقيقه، في جانب توجه فيه الصناعات الحديثة لخدمة هذه الموروثات من الممكن الاستفادة منها حيث تعمل هذه التحديثات على النشر السريع إلكترونيا، ما لم يكن متاحا من قبل. نتيجة لذلك تصبح هذه الموروثات لدى فئة أكبر من الناس وتخلق نوعا من الوعي حول أهميتها أكثر من ذي قبل، بعد أن كان توافرها يقتصر على من يمتلك نسخة منها، وغالبا ما تكون معدودة لعدم توفر أدوات نسخ عالية الجودة والدقة. لكن بسبب التكنولوجيا الحديثة والتصوير الرقمي تحديدا أصبح من الممكن نسخ الموروثات بدقة عالية وبنفس الجودة والتفاصيل التي تغني الباحثين الذين عادة ما يلجأون للنسخ الأصلية لضمان جودة التفاصيل والمعلومات التي يبحثون عنها.
قديما كان النسخ يفتقر في بعض الأحيان لبعض التفاصيل الموجودة في النسخ الأصلية حيث يتجاهلها الناسخ توفيرًا للوقت والجهد وهذا ما يقصد بالصدق والدقة العاليين عند النسخ والمتوفرة في الأجهزة الحديثة دون غيرها من الأساليب التقليدية في السابق. من الأمور الإيجابية كذلك رخص تكاليف النشر وتوفير النسخ لسهولة العملية التي قد تتم في دقائق معدودة أو أقل أو أكثر بعدما كانت تستغرق أسابيع أو أشهرًا على حسب حجم الموروثات أو المخطوطات المراد نسخها من قبل الناسخ. تستفيد من ذلك هيئات ومؤسسات تختص وتُعنى بالتراث في مختلف الدول. نجد ذلك حاضرا في وزارة التراث والثقافة بالسلطنة حيث يتم استغلال الأجهزة المستحدثة الاستغلال الأمثل لتوفير نسخ إلكترونية لكافة الموروثات المكتوبة "المخطوطات " خاصة وأن ذلك يتيح أيضا فرصة أكبر لحفظها؛ لأنّ النسخ الأصلية تتعرض للتلف مع مرور الوقت وتحتاج إلى الترميم بين الفينة والأخرى بالتالي يصعب نقلها لأغراض البحث على عكس النسخ الإلكترونية التي تحفظ وتنقل وتنشر بسهولة. من لا يفقه قيمة الموروثات سيعد هذه التحضيرات ترفا إلا أنّ الواقع يعكس شيئا آخر وخاصة. وفي زمن الثورة المعلوماتية تشكل الموروثات بما فيها من تفاصيل أساسًا لا غنى عنه للتثبت من الأمور المرتبطة بالماضي، حيث يفني بعض الباحثين أعمارهم في المؤسسات التي تعي أهمية هذا الأمر في التحقق من صحة حدث تاريخي ما ذكر في مخطوطات قديمة.
قديما عندما لم تكن الأجهزة متوفرة كان يستغرق الأمر فترات طويلة حيث يتطلب ذلك السفر في بعض الأحيان إلى حيث توجد هذه المخطوطات المتعلقة بموضوع البحث. لكن مع توافر هذه الأجهزة نجد مثل هذه الأمور حلت واختصرت في سويعات قليلة. أيضا من جانب التراث الفكري الإسلامي تحديدا، يمثل جزءا من ثورة المعلومات هذه التي انتقل بعض منها إلينا عبر هذه المخطوطات. وهنا نستطيع استخدام الأجهزة المستحدثة المتعلقة بالصناعات الثقافية تحديدا لتشكيل ذخيرة من المخطوطات الإسلامية في العالم التي يستفاد منها من الجانب التاريخي وللحاضر والمستقبل أيضا. في هذا السياق لا بد من ذكر بعض الأمور التي نشأت بتوفر أدوات الصناعة الثقافية المستحدثة. حيث ارتأى أصحاب التراث أنّ الطرق المستحدثة ما هي إلا محاولات للعبث بهذه الموروثات وأنّها ستفضي إلى إفساد محتوياتها.
بإمكاننا القول إنّ هذه النظرة طبيعية إذ تظهر بمستويات متفاوتة مع بداية ظهور كل شيء جديد؛ إمّا بسبب الجهل أو عدم وضوح الفائدة الحقيقية من أمر ما، لكن ينتهي بها المطاف في الغالب بالتلاشي بعد أن يُفهم المغزى من الأمر وتتضح الصورة لدى أصحاب الموضوع. فكانت النتيجة مماثلة لدى أصحاب الموروثات، على الرغم من تمسكهم وحرصهم الشديد عليها إلا أنّهم أقل صلابة من الأمس. حيث يحتفظ بعض الأفراد بهذه الموروثات التي ورثوها عن أجدادهم مثلا باعتبارها أملاكا خاصة. فتلجأ المؤسسات المختصة بهذا الشأن بشرائها منهم بأسعار باهظه في الغالب، وأحيانا يرفض الأشخاص تسليمها للمؤسسات ولو كان ذلك بسعر عال. فتقوم هذه المؤسسات بعمل ورش توعوية لملاك هذه المخطوطات تحديدا في كيفية الحفاظ عليها لفترات زمنية أطول. أيضا تتيح لهم معرفة فوائد استغلال الأدوات المستحدثة في سبيل الاستفادة من هذه المخطوطات.
على كل في حالة نقل هذه المخطوطات لنسخ إلكترونية وما شابه، لا بد أن تتوافر في الناسخ أو الناقل بعض الصفات كالدقة والحرص الشديدين، وكان التركيز على ذلك في السابق بشكل أعمق؛ لأنّ العملية كانت تتم بشكل يدوي. أيضًا لا بد من مراجعة أي عمل جدي يرغب في جعله متقنا. لذا من الملاحظ أنّ الجانب الإيجابي يطغى على الرغم من أنّ الأخطاء واردة في كل المراحل، ما قبل استحداث الأدوات وما بعده إلا أنّ العنصر الفارق أو الفيصل في الأمر هو عامل السرعة حيث لم تعد الأساليب التقليدية محتملة في التعامل مع النصوص لأنّ السرعة تعني الاقتصاد في الجهد والزمن.
