قيس الجهضمي
شهدت الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي مطالبات أفضل للتراث والثقافة السائدين في الوطن العربي باعتبارهما مصدرين للتخلف، وقد وصلت هذه المطالبات لأوجها في الثمانينيات، مما أدى إلى ظهور وعي مناهض في الحقب التالية يرفض فكرة إنقاذ الوجود عن طريق التضحية بالذات، ومن هذه التحولات يتناول الكاتب "احميده النيفر" في مقاله "التجديد الإسلامي ورؤية العالم من النقد إلى التأسيس" في مجلة التفاهم حركات التجديد ودورها في النهوض بالمجتمع العربي والإسلامي.
سعى التجديديون العرب من منتصف القرن التاسع عشر إلى رفض الحتميات ورحلات الشك في الموروث الثقافي والحضاري للنخب العربية مما أعطاهم هذا الموقع النقدي المميز، فجعلوا التجديد العربي يتجاوز المنظومة السابقة وقدراتها في السير على خطى التجديد، ليأخذوا في صنع منظومة يحاول فيها العقل استيعاب معقولية الموروث وتاريخيته في التجديد، لذا فإن أهم خصائص هذا التوجه للتجديد هو التمكن من العلل التي حكمت الماضي، وتأسيس وعي بديل ينهي حالة التدهور بالوعي بالعالم، فالتجديد لا يختلف عن الإصلاح والحداثة في مسألة وحدة التاريخ التي تسير فيها مختلف الشعوب لمراجعة موقعها لكي تصنع خطى التقدم، فأكد التجديدون على آلية المثاقفة التي تعني "استيعاب معارف ومنظومات وقيم جديدة لمزيد التفرس في الذات والتعمق في خصائصها" كما يعرفها الكاتب، فالمثاقفة هي رفض التقليد والحتمية التاريخية وهي تسعى لصنع الحضارة بدل نقلها، فالتجديد إذا هو الوعي بالذات ضمن دائرة زمن المعرفة العالمي والمثاقفة هي آلية هذا الوعي.
جهود الجيل الأول من العلماء:
كان الهدف من جهود الجيل الأول من العلماء في التجديد هو استخراج النقاط المضيئة في التراث لتفعيل آليات التفكير فيها، مما أدى إلى تجاوز التقيد بالمذهبية وغربلة التراث، وقد صنعت هذه الجهود حدودا تميزها عن الخط السلفي في تلك الفترة التي تميز فيها بمبدأين نقاوة الأصول وتصور المجتمع والإنسان على علائق دينية أساسا، بينما سعت الجهود التجديدية إلى إذكاء الحس التاريخي لمراجعة المجالات الحياتية المعاشة ومعالجتها وإثبات قدرة الإنسان على الوصول للحقيقة عن طريق الدليل مما يجعله يفكر في الآراء والممارسات التي لديه والتي مع الآخر.
جهود إقبال والجيل الثاني من العلماء:
كانت سمة الجيل الثاني الذي ظهر في الأربعينيات من القرن العشرين بناء فكر نسقي يسمح لمفهوم التجديد أن يكون أكثر وضوحا، وكان بروز هذا الجيل في الفترة التي ترجم فيها كتاب محمد إقبال المعنون بـ"تجديد التفكير الديني في الإسلام"، فإقبال هو "المفكر المسلم الأول الذي طرح على النخب مسألة التجديد من الداخل والتأسيس لها عبر آليات إنتاج المعرفة عن طريق حركة التداول والتبادل بين فكر قديم وفكر حديث"، وفي الخمسينيات وما تلاهما من العقدين ظهرت طروحات تختلف مع إقبال في المضمون والمنهجية، ثم في السبعينيات ظهرت محاولات في التأسيس التجديدي لإقبال، وذلك بمساعدة عاملين: أولهما تراجع المدرسة الإصلاحية وظهور الاصلاح بمظهر الاستلاب للغرب، والثاني مأزق التيار التحديثي حين ربط بين التخلف والإسلام، ثم ابتدأ ظهور المناهج المعاصرة لتحديد العلاقة مع التراث وإعادة تركيب الفكر الديني ليساعد في تقديم تفسير جديد للأفكار معتمدا على الرؤية المختلفة جذريا للعالم.
وقد تميز جهد إقبال التجديدي على رأي الكاتب بثلاثة مستويات: المبادئ والمفاهيم والإشكالية المركزية، فتركزت المبادئ على إلغاء مقولة موت التراث والتخلي عن فكرة ربط مصير المجتمع على النظام الاجتماعي والسياسي ورفض الحتميات التاريخية، أما المفاهيم فكانت إعادة صياغة مفاهيم هي مفاتيح للتعاطي مع القضايا في الفترة المعاصرة مثل: الذات والدين والنبوة، وكانت الإشكالية المركزية كما طرحها إقبال هي "هل الدين ممكن؟" بمعنى إمكانية وصول المسلمين لإنتاج عقل يستطيع التفاعل مع الحداثة مع بقاء الخصوصيات التي تميزهم في الحياة.
الثقافة والتجديد:
تحول التراث بعد الجهود التأسيسية للتجديد إلى مبحث ضروري يتطلب دراسة فكرية وحضارية لفاعليته الكبيرة في الواقع، وقد ساعد في ظهور هذا التصور عنصران: الأول لا تناقض بين الدين كوحي وبين الفكر الإسلامي الذي هو تفاعل بين عقل المسلم ونصوص الوحي والثاني: تجاوز فكرة الصدام بين الشرق والغرب، وأفضى هذا التصور لتأكيد أهمية العنصر الثقافي في الممارسة السياسية والاجتماعية من خلال تجارب الدول العربية في التحديث، مما أعاد الاعتبار للثقافي ليس على خاصيته المعرفية والفكرية فقط بل لصبغته العلمية والحضارية في إحياء الممارسة السياسية والاجتماعية وكل أنماط السلوك في المجتمع.
لذا يتجلى الغزو الثقافي في فقدان الثقافة الخاصة أو عدم قدرتها على تحقيق ذاتيتها في الواقع المحيط، فمن هذا المنطلق أخذ التجديد معنى "تفعيل الثقافة الخاصة حتى يصبح المسلمون واعين بزمانهم ناجعين في مساهمتهم فيه" كما يذكر الكاتب، والتجديد هو إنهاء لمرحلة "لا تاريخية الفكر العربي" ومناقشة العرب والمسلمين قضاياهم ومعتقداتهم وأفكارهم من خلال العقلية الإنسانية، وهو مشروع ذو بعدين أساسيين: بعد داخلي مؤسساتي يمكن النخب من الكفاءة والتحرر والانسجام، وبعد إنساني فكري يحقق العلاقة بين الذات والعالم لكي تنتج الإبداع والحضارة.
وكما أكد خطاب التجديد في الفكر الإسلامي على أهمية العنصر الثقافي فقد ركز على أهم مفاهيم التحليل الثقافي "رؤية العالم"، لكنه بقي عاجزا عن تجاوز الإطار التقليدي في التعامل مع هذا المفهوم في فضاءاته الثلاثة: دار الإسلام - دار الحرب- دار الصلح، وزاد صعوبة التعامل مع هذا المفهوم ظهور المسائل الثقافية عن طريق قضايا صراع الثقافات أو حوارها، لذا بحث النخب عن المعاصرة الملتزمة بشروط الوعي بالعالم فقدم طارق رمضان فضاءً جديدا اختار له اسم "دار الشهادة" يكون فيه المسلمون المتصفون بالمواطنة شهداء على الناس محققين لقيمهم وخصوصياتهم الثقافية في محيطهم المعاش، فمع هذا المفهوم يصبح الدين عنصر ألفة وانسجام عوض أداة صراع كما يصبح التجديد تفاعلا مع الذات وتحولا في فهم الآخر، وفي نفس سنة صدور كتاب رمضان صدر بالغرب أيضا كتاب "تسمية الفيل ورؤية العالم" لـ جامس سير إذ يذكر فيه أن العالم يشكو من انعدام رؤية تجمع كل ما توصل إليه العالم من علوم مختلفة في نسق واحد لتوجه المسائل الثقافية نحو التجديد، وأرى أن التجديد في الخطاب الديني مسؤول في الوقت المعاصر عن معالجة التحولات في الذات المسلمة وفق النظام المعرفي أو العلمي بما يتيح التطور والانسجام مع الحياة العالمية بعيدا عن التفكير عبر المناهج الأيديولوجية التي تحاول السيطرة على الذات وفق أطر لا تسمح للعقل بتجاوزها والتعاطي مع القضايا التي تشغلها أو مع قضايا الآخر.
