لأنطون بيرفوشين
فيكتوريا زاريتوفسكايا *
* أكاديمية ومستعربة روسية
لماذا وكَيْف احتلَّ الاتحادُ السوفييتي -ومن بعده روسيا- والولايات المتحدة، مَوْقِع الزعامة في غزو الفضاء؟ وكيف تورَّطت الدولتان العظميان في التسابق الفضائي؟ وعمَّا أسفر ذلك؟ وما الذي حدَّ من شهوتهما وثبط خططهما لغزو الفضاء؟ ولماذا يقتصر الطيران حتى اليوم على المدار الأرضي، بينما بقيت برامج البعثات والرحلات الجديدة إلى القمر، ومن قبلها إلى المريخ حِبْرًا على ورق أو جملة مُكرَّرة في الخطب الاستعراضية للساسة؟ وما هي أقصى الإمكانيات التقنية البشرية الراهنة في مجال الطيران الفضائي؟ وهل يُمكن أن تَدْفع السياحة الفضائية إلى تطوير القدرات التقنية وتحقيق الحلم بالسفر إلى الفضاء الخارجي؟ وما هي حقيقة البرنامج الفضائي للولايات المتحدة وروسيا ومراحل تطوره في العقود الخمسة الماضية؟ وما هي جدوى التجارب العلمية التي تُجرى اليوم؟ وما أهم المسائل التي يُناقشها علماء الفضاء في محاضراتهم عن مستقبل غزو الفضاء؟.. هذه الأسئلة، وغيرها، يتناولها الباحث والصحفي العلمي وكاتب القصص الخيالية ومؤلف السيناريوهات الروسي أنطون بيرفوشين في كتابه "الفرصة الفضائية الأخيرة". وفي مَعْرض إجابته الموضوعية والشاملة للأسئلة، يرتاد الباحث مناطق علمية غير متوقعة ويقّلب في مسائل ظل الإعلام يتجاهلها لسبب أو لآخر.
يستهلُّ بيرفوشين كتابه بمقولة للفيلسوف والخطيب والكاتب المسرحي الروماني سينيكا جاء فيها: "لو كان ثمة مكان على الأرض تُنظر منه النجوم، لاندفع إليه كل الساكنة لرؤية السحر السماوي". وفي استهلال آخر، أوْرَد عبارة للرئيس الأمريكي ليندون جونسون الذي شهدت فترته تدشين البرنامج الفضائي الأمريكي يقول فيها: "من يمتلك الفضاء يمتلك الأرض".
ويبدأ الكاتب بإعلان صريح يذكُر فيه أنَّ مجال الفضاء العالمي قد وصل إلى طريق مسدود، بل إنه خسر عددا من إنجازاته في الفترة الأخيرة وسجل تراجعا في تطوره. وبالنسبة لروسيا، لا يتردد المؤلف في وضع إستراتيجيتها الفضائية موضع تساؤل عميق بعد أن عَفَا عليها الزمن، كما يُلزمها بإخضاع برنامجها لمراجعة جذرية إنْ هي أرادت أن تستأنف طريقها إلى الفضاء. وفي الجانب الآخر، وبسبب استحالة تجاوز جانب من المشكلات التقنية، تضع أمريكا وزنا كبيرا على المشاريع المشتركة مع روسيا. يقول المؤلف: "تسبب تحطم مركبة الفضاء (كولومبيا) في إلغاء برنامج المكوكات الفضائية الأمريكية ولم يتم استحداث بديل عنها. أما التكنولوجيا الفضائية التي ورثتها روسيا عن الاتحاد السوفييتي فقد تجاوزها الزمن، ولا يُزمع تحديثها بسبب العوائق الاقتصادية التي لا تنتهي. يذهب القدماء ولا يحل مكانهم من يكافئ خبرتهم ويطورها. ويبقى الاستخدام الروسي-الأمريكي المشترك لمحطة الفضاء الدولية مصحوبا بخلافات تضخمها الصحافة كثيرا حتى لا يسعنا معرفة شيء عن الخطوات التي تم اتخاذها والتجارب التي تم إجراؤها، والأهم من ذلك لا يسعنا معرفة هل نحن بحاجة فعلية لكل تلك البحوث والتجارب" (ص:6).
وبالرغم من نبرة الكاتب المعترضة على نهج برامج الفضاء، إلا أنَّه لا ينضم إلى الأصوات المناهضة لعلوم الفضاء والتي تشدد على أرضية الإنسان، وبأنه مخلوق ترابي لا يحتاج إلى مكان آخر فوقه. وعليه أن يشاطر الأرض مصيرها وإن كان المصير كارثيا، وأن يحل مشاكله الأرضية قبل أن يضع خطوة إلى الفضاء ويطير مع الأوهام.
ويؤكِّد الباحث على موقفه من ضرورة المضي قدما في استكناه الفضاء والتوسع في معرفته، وبأن الفضاء لا يتناقض مع طبيعة الإنسان البيولوجية؛ حيث إنَّه كائن مهيأ للتكيف مع مختلف الظروف الطبيعية، أو أنَّه يُكيفها لنفسه إنْ هي استعصت عليه. واقتصاديًّا، بإمكان ساكن الأرض تسخير المنجزات الفضائية العلمية للاستخدام الأرضي وتدويرها في عالم البزنس. أمَّا من الناحية السياسية، فالفضاء مَكْمَن قوة لا يستهان بها؛ فالتقنية الفضائية مزدوجة التأثير، وهي مورد من موارد التسلح العسكري.
ويصل بيرفوشين إلى استنتاج مُفاده أنَّ العاملَ السلبيَّ في تطوُّر العلوم الفضائية العالمية يعود أساسا لسباق التسلح الذي أوْغَلت فيه الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. ويتابع الباحث مراحل هذا السباق بكل تفاصيله، ويثبت أن الدولتين العظميين لم تتبعا منهجية رصينة في تطوير برامجهما الفضائية بقدر ما كانتا معنيتين بالتسابق فيما بينهما وتسجيل نقطة الريادة في الاكتشافات والسبق في سبر الفضاء، كل ذلك على حساب القيمة الإستراتيجية للمكتشفات والنظرة البعيدة لديمومة الإبداع. ومن الإجراءات التي يجدها المؤلف مفتقدة للمعنى العلمي ولا حتى للمغامرة البحثية، إرسال رائدة الفضاء السوفييتية "فالنتينا تيريشكوفا" لتكون أول امرأة تصعد إلى الفضاء الخارجي، فقط لأن الأمريكان فشلوا في إرسال سيدة إلى هناك. ومن المعلوم أن تيريشكوفا قد انطوت على نفسها طوال الرحلة. الخطوة الأخرى في طريق التنافس بين القطبين: ما أقدمت عليه وكالة الفضاء السوفييتية حين قرَّرت أن تحشر ثلاثة رواد فضاء في كبسولة الإنزال المصممة لشخص واحد. ومن أجل إتمام المهمة الغريبة اضطر المصمم لإزالة كرسي فتحة الطوارئ، وعليه اتخذ الرواد وضعية الجنين بعد أن استبدلوا ستراتهم المخصصة ببدل رياضية خفيفة. لم تكن لهذه المغامرة أي مبرر أو دافع علمي يذكر، فضلا عن أنها كانت محفوفة بالمخاطر، فأي عطل فني، كانخفاض الضغط، سيؤدي بالطاقم إلى موت محتم.
يُثير الكتاب اهتمام القارئ بتناوله مسألة الخرافة في القطاع الفضائي؛ فالاعتقاد بالأساطير الشعبية والاهتداء بالخيالات الأدبية لغزو الفضاء، التي ظهرت قبل انطلاق الرحلات الفضائية الأولى بكثير، أعاق الخطط العلمية للكشوفات الفضائية، وأدخلها في لغو لا طائل منه. ويشير المؤلف في فصلي الكتاب: "المستوطنات القمرية" و"مخفر المريخ" إلى خطط التوسع الرومانسية إلى القمر والمريخ التي عززتها الكثير من الأعمال الأدبية؛ إلا أننا -وبناء على تمحيص دقيق- سنجد أن ما يصبو إليه الإنسان من طفرة فضائية، ويمهد له، بعيد كل البعد عن أي مخطط إستراتيجي مُلهم ويعتد به. يقول في هذا الصدد: "لقد قامت الفضائية على الأساطير والخرافات والاعتقادات الخاطئة. وهذا بحد ذاته أمر طبيعي. فالفضائية كنظرية (والمقصود بالفضائية كل ما يتعلق بقطاع الفضاء من تنظير وحقائق) لم تكن موجودة قبل مئة عام، وبدأت كتطبيق ميداني منذ نحو نصف قرن. إن علم النجوم وعلم الكونيات -مثلا- ظلا يتخلصان من الأخطاء ويصطفيان الحقائق عبر آلاف السنين، بينما تستمر الفضائية مندفعة بأوهامها وبلورة قراراتها الإستراتيجية، وهنا مَكْمَن الخطورة. إن المهمة الملحة التي تقف أمامنا اليوم هي الفصل بين الخرافة والواقع الموضوعي" (ص:12) وفي موضع آخر يضيف: "لا يمكن لنا أن نصمم برنامجنا الفضائي بموجب عقلية قديمة. لا يمكن للماضي أن ينتزع منا موارد المستقبل" (ص:92).
وفي فصل "المحاجر الفضائية"، يُبرِّر الباحث ضرورة تغيير الأولويات تجاه التكوينات الصغيرة في النظام الشمسي ويعزز تبريره هذا بالحجج الثلاثة التالية:
1- المعارف العلمية (قد تقدم لنا الكويكبات الصغيرة معطيات لا تقدر بثمن حول سر تشكل نظامنا الشمسي).
2- تجنب التهديدات من الفضاء (ذات يوم، وحين سيقترب أي من الكويكبات من الأرض لمسافة خطيرة، علينا أن نكون جاهزين لتجنبه وحرف مساره).
3- تأليف قائمة للموارد الثمينة (تحتوي الكويكبات على كميات هائلة من المواد النادرة).
ويتنبأ الباحث قفزة نوعية في تطور القطاع الفضائي؛ وذلك وفقا لنظرية العالم الإقتصادي السوفييتي نيكولاي كوندراتييف (1892-1935)، والتي تقول بتعرض العالم لأزمة اقتصادية عميقة تحدث كل خمسين عاما، وتؤدي إلى مراجعة شاملة لبرامج البلدان، وفي نفس الوقت تفضي للثورات التقنية التي لا شك تغيِّر من مسار الحضارة وتبدِّل من وجهها.
ويشير بيرفوشين إلى حدثيْن اثنينْ استغلَّت فيهما "الفضائية" الأزمات الاقتصادية، واستفادت من حلولها والتحولات التي تمخضت عنها. في الحالة الأولى -وبفضل ثورة التقنيات النفطية- استطاعت الفضائية أن تستخلص تقانة لصنع صواريخ قادرة على اجتياز المدار وبلوغ القمر. والثانية: حينما قدمت الثورة في مجال التقنيات المعلوماتية أقمارا اصطناعية وأجهزة متطورة أتاحت إمكانية واسعة لدراسة الفضاء والفصل بين الحقائق وخيال العلماء. من جهة أخرى، واستنادا لنتائج البحوث العلمية الحديثة التي حملت عناوين من قبيل: "إمكانية التغذي باللحم عن طريق الأنابيب"، "نجاح عملية استزراع النخاع الشوكي". واستنادا لهذه النشرات وما شابهها يتنبأ الباحث بثورة علمية قادمة للتكنولوجيا البيولوجية؛ الأمر الذي سيُسهم في خلق بيئة حيوية ومتوازنة يمكن وضعها على متن مركبة فضائية أو تحت قبعة الزائرين للكواكب الأخرى، وهو ما لم يحدث في السابق حيث فشلت كل المحاولات في استزراع بيئة حيوية في الفضاء الخارجي.
ويُوْرِد الكاتبُ في حديثه عن الفضائية بعض الأسرار التاريخية، ويميط اللثام عن أسباب التطور السريع في علم الصواريخ، خاصة في الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، بعد الحرب العالمية الثانية؛ حيث يَرْبِط تلك الإنجازات بالاستعانة المُثلى بالنتائج البحثية لألمانيا المهزومة، لا سيما بحوث العالم الألماني فيرنر فون براون الذي أصبح فيما بعد مصمما أمريكيا. وعلى العكس من الولايات المتحدة، وبدافع الاعتداد بالنفس، لم يعترف الاتحاد السوفييتي بتأثير العلم الألماني على مكتسبه التقني.
ويتسم جانب من مقولات الكاتب بالأصالة والتفرُّد؛ ومن بينها: التأكيد على أنَّ القيادة السوفييتية لم تكن منشغلة بتطوير الفضائية. وبهذا الصدد، يعرضُ تحليلَه للدعاية الفضائية بواسطة السينما، ويشدد على أنَّ "هيئة السينما الحكومية السوفييتية كانت تحوز وسائل مالية عالية وأكبر بكثير من أغنى استوديو في هولييود" (ص:87)، ومع ذلك يحصي الباحث فيلمين سوفييتيين قبل عام 1957 لا غير. أما الإنتاج السينمائي الأمريكي بين عامي 1950-1951 -أي في بداية شعبية الفضائية في الثقافة المجتمعية- فتعدُّ بعشرات الأفلام. والحال نفسها في روسيا الحديثة؛ حيث لا يرى الباحثُ دَعْمًا حكوميًّا يعتد به لصناعة الأفلام الفضائية، ويشير إلى ثلاثة أفلام لم تحقق هدفها في الترويج للفضائية، إن لم تكن قد ألحقت الضرر بها.
وفي الإطار الدعائي نفسه يوجِّه الكاتب سهام النقد إلى أفلام الفضاء، مشككا في مصداقيتها وساخرا من جهلها البيّن. فعلى الرغم من مُواكبتها لصعود الإنسان إلى الفضاء الخارجي، وإمكانية الحصول على المعلومات الوافية للتجارب الفضائية والاعتماد عليها في الإنتاج، مع ذلك بقيت الأخطاء وسطحية المعالجة تؤطران تلك الأفلام.
اتَّسم كتاب "الفرصة الفضائية الأخيرة" بسهولة الطرح، ومنطقيته إلى جانب اتقاد العاطفة والإشراق الرومانسي للكاتب في بعض محاوره، ولكن من غير أن يحيد عن الموضوعية والمصداقية العلمية. ومع أن الحمولة التقنية وسردياتها التاريخية كانت البارزة في الكتاب، إلا أنَّ الزوايا الثقافية والخلفية الأخلاقية ظلَّتا طيَّ صفحاته. وهكذا؛ فبين قفزة السوفييتي يوري جاجارين إلى الفضاء الخارجي، وهبوط الأمريكي آرمسترونج على سطح القمر، ارتقى الإنسان مدارج الحلم واكتشاف المجهول، كما أنه أهدر جهدا كثيرا وطاقة ثمينة في ألعاب التنافس الخطرة وامتهان الأوهام.
---------------------------------------
- الكتاب: "الفرصة الفضائية الأخيرة.. لماذا يحتاج الإنسان إلى عوالم أخرى؟".
- المؤلف: أنطون بيرفوشين.
- الناشر: دار نشر (أ)، موسكو، 2016م، باللغة الروسية.
- عدد الصفحات: 464 صفحة.
