لوو يون قوي
لينج لي وانج *
* مستعربة وباحثة صينية
"وو يون قوي" هو أحد الباحثين الروَّاد الذين اشتغلوا في دار دراسات أديان العالم من شعبة الفلسفة والعلوم الاجتماعية التابعة لأكاديمية العلوم الصينية، وهو مُتخصِّص في دراسة علوم الأديان -خاصة دين الإسلام- ومن نتائج دراساته المنشورة: "موجز شريعة الإسلام"، و"شريعة الإسلام في العصر الحديث"، و"تاريخ دين الإسلام"، و"تاريخ قانون الإسلام"، و"التيارات الفكرية والحركات الإسلامية في العصر الحديث والمعاصر"، و"الدين المعاصر والتطرفية"...إلخ. ويَرَى الكاتبُ أنَّ قادة الجمعيات الدينية وعلماء الدين ومفكِّري الدين هم أهم المفسرين والناشرين والوارثين لعقائد الدين وأفكاره. وباعتبارهم ذوات نافذة معترف بها من قبل عامة المتدينين في تفسير العقائد، فيلعب هؤلاء المفكرون عبر لسانهم وسلوكهم ومؤلفاتهم دروا حاسما في الجمعيات الدينية علما وعملا.
وتكون نقطة الانطلاق لهذا الكتاب هي تعميق القرَّاء في فهم الأفكار الإسلامية القائمة في العصر الحديث والمعاصر، وإدراكها عن طريق قراءة هؤلاء المفكرين من حيث السير والمؤلفات والأفكار والتصرفات، لا سيما تعرضهم فكريا للأوضاع التاريخية الحاسمة، بل إيغالهم في معرفة عادات الإسلام ثقافيا واجتماعيا وسياسيا.
ويحتوي العمل على ستة فصول؛ يخصُّ كل فصل مفكرا واحدا، ويتكون كل فصل من سيرة المفكر وفكرته وآثاره. يأتي الفصل الأول لجمال الدين الأفغاني، حيث كتب المؤلف أن "الأفغاني أهم المفكرين الدينيين في العالم الإسلامي في القرن التاسع عشر، كرَّس حياته للمكافحة بلا كلل ولا ملل سعيا لتحقيق ضالته، إلا أنَّ الناس لا يكادون يذكرون له إنجازات سياسية ولم يلفت صوته وآثاره نظرة العالم إلا بعد عدة عقود من وفاته خاصة بعد السبعينيات من القرن العشرين". ويتابع: "على مدى حياته رفع مبادرات عديدة حول الاتحاد الإسلامي عبر مؤلفاته وخطاباته ونشاطاته؛ ومنها ثلاث دعوات مهمة قام كل منها بخلفية اجتماعية تاريخية معينة تجدر بالعناية والدراسة. منها الدعوة الأولى التي تتمثل في إرساله إلى السلطان العثماني رسالة غير موقّعة كي يقدم للملك حلًّا حين كان جيشه يقع في موضع سلبي. والدعوة الثانية التي هي إنشاؤه جريدة "العروة الوثقى" في باريس ابتداءا من عام 1883، والدعوة الثالثة التي حدثت في شيخوخته وذلك في العام 1892؛ حيث تلقَّى دعوة من السلطان العثماني أثناء زيارته للندن فقصد إلى إسطنبول في صيف نفس العام، وأجرى هناك نشاطات اجتماعية".
ولخَّص الكاتب فكرة الاتحاد الإسلامي للأفغاني قائلا: "جاءت فكرته حول الاتحاد الإسلامي على عدة أوجه؛ الأول: أن تدهور العالم الإسلامي الحاضر ناتج عن اعتداء القوى الغربية وفتوحاتها، وفي الوقت نفسه على الأمة الإسلامية أن تفحص نفسها حتى تدرك ما تعانيه من نقاط الضعف والنقائص. والثاني: أنَّ شعوب العالم الإسلامي قد حققت في التاريخ إنجازات باهرة تحت علم دين الإسلام؛ مما أسهم في حضارات البشر مساهمة بارزة، ولا يمكن أن يعود هذا النجاح إلا بعد أن تستعيد الأمة الإسلامية روح الاتحاد الإسلامي وروح المكافحة مثلما كانت في صدر الإسلام. الثالث: بيَّن التاريخ أنَّ الأمة والدين قد يكون كل منهما قوة دافعة معنويا للنهضة، لكن في العالم الإسلامي الحاضر لا يُمكن تجميع الشعوب المتشتتة والدول المنفصلة والمجتمعات إلى قوة موحَّدة إلا على قاعدة الديانة المشتركة. وبعبارة أخرى فإنَّ الاتحاد الإسلامي هو السبيل الوحيد لذلك.
وفي نهاية هذا الفصل، ذكر الكاتب تأثيراته في العالم فكريا، وهي تأتي في أربعة جوانب: الأول: تصنيف الناس إلى المعلمين والمتعلمين وتمييز فئات الشعب حسب العقلية. والثاني: ينظر إلى دين الإسلام على أنه ذو سمتين: إحداهما الإسلام الإيجابي المثالي الذي يدعوه الإسلام الحقيقي حيث يكون الإسلام الإيجابي يحسِّن الإسلام الذي كان في صدره ويمجده إلى جانب أنه يطرح الإصلاح الحديث على الإسلام الجاري. ثم يتابع: "إن الإسلام السلبي يقصد به الإسلام الموجود في الواقع، الذي ينبغي إصلاحه نظرا لما له من مشاكل ونقائص". ويضيف بأن الأفغاني حاول أن يُوقِن الناسُ بأنَّ الصورة السلبية للإسلام نتيجة لمخالفة المعاصرين لقواعد الإسلام؛ لذلك يعني الإصلاح العودة لتقاليد الدين التاريخية القديمة. والثالث: يُوْلِي الاتحاد اهتماما بالغا "لكن الديانة المشتركة ذاتها ليست كافية لضمان اتحاد العالم الإسلامي على نحو واسع، إلى أن تقام إعلانات سياسية لهذا الاتحاد والتعاون بشكل صبور ودقيق ومثمر.
ثمَّ أشارَ إلى أنَّ الأفغاني لم يقطع شوطا كبيرا في الإعلام السياسي؛ لأنه كان متأثرا بأيديولوجيا فلسفة الإسلام التقليدي، ولم يدرك إدراكا كافيا المقام السياسي الذي يُقوِّمه الشعب العام، بل كاد يضيّع كل قوته في الحكام وأرباب المجتمع بغية التأثير عليهم وكسب تأييدهم هذا من جهة. ومن جهة أخرى لو كان نجح في تكوين مذاهب سياسية معارضة ذات فكرة حديثة لأوجد انفعالات ملحوظة في سلك السياسة، وذلك يقتضي أعمالا ضخمة مسبقة من التدبير والتنظيم.
والرابع أنَّ الأفغاني مُؤمن بالاتحاد الإسلامي والإصلاح، بل الأول أولى لديه من الثاني؛ إذ حاول أن يضمَّ السلطان العثماني وإمبراطور روسيا وملك إيران...وغيرهم من الساسة المتحفظين إلى برنامجه التعاوني للاتحاد الإسلامي، إلا أنَّ هؤلاء الحُكَّام كان من المستحيل أن يدعموا إصلاحه الديني نظرا لمصالح أنفسهم إذا ما أيَّدوا برنامجه التعاوني. إنَّ مُحاولاته في تحقيق الثورة عبر آثار الدين والسياسة ما كادت لتنجح.
ثم أكَّد المؤلف أنَّ فكرة الإصلاح الديني إنما تركت للأخلاف ثروة نفيسة ألا وهي أن ينظر إلى دين الإسلام بنظرة نامية، ويرى أنَّ الطريقة الأصلية لتحديث فكر الدين هي وضع تفسيرات جديدة لما يُوْحِيه القرآن الكريم ولنظام الديانة الإسلامية بمقتضى تطور المجتمع الحديث. وعن الإصلاح الحديث أكَّد الكاتب أن من أهمَّ آثاره في هذا الجانب حيث أبدع موقف فكرة "الدفاعية" التي تدعي أن جميع الفضائل الغربية الحديثة لها وجود في الإسلام خاصة في صدر الإسلام؛ لذلك يكون قبول الأفكار الغربية الحديثة أمراً يتوافق مع عادات دين الإسلام تماما.
سبق للكاتب الذكر في المقدمة بأنه إذا قيل إنَّ المبادرة إلى العلم والعقلية وإعادة تفسير الإسلام في إطار الأفكار الحديثة رأي مشترك إلى حدٍّ ما بين مفكري الدين العصريين في ذلك العصر، يُمكن القول بأنَّ تربية جيل جديد من الأكفاء المسلمين بواسطة إقامة التعليم الحديث هو الرأي الأساسي لنظرة نهضة الوطن بتعليم الناشئة في دائرة الثقافة والعلم. وهناك علمان من أعلام هذه النظرة؛ هما: أحمدخان من الهند، ومحمد عبده قائد حركة التحديث في مصر.
في الفصل الثاني ذكر أن بعد إحباط انتفاضة الهند الكبرى عام 1857، شرع المستعمرون البريطانيون في التعامل مع الثوار بالقمع والنقم والقتل الدموي، فصار المسلمون الهنود في مأساة ومأزق؛ إذ كان الحكام البريطانيون يعتقدون أنهم جميعا عُصَاة بلا استثناء؛ لأنهم لعبوا دورا أهمَّ في هذه الانتفاضة؛ الأمر الذي جَعَلهم يتخذون سياسة الإخماد والإزاحة ذات العنصرية أو العصبية ضدهم. ومن أجل إصلاح هذه الظروف الضارة حاول أحمد بكل الوسائل الممكنة التفاهم مع هؤلاء الحكام بغية إزالة سوء الظن والموقف المعادي وسوء الفهم منهم تجاههم، وإثبات أنهم رعية طيبة تطيع الحكومة البريطانية من جهة، ومن جهة أخرى أدرك أحمد إدراكا عميقا العيوب والنقائص في أنفسهم خاصة تفاقم المشاكل المتمثلة في انحطاط مستوى التعليم والجهل والعناد، ثم اعتقد أنَّه على جماعة المسلمين أن تنمي قضية التعليم الحديث وتزيد الثقافة والمعارف العلمية لكي تحسن مكانتها الاجتماعية، وتحتل موقعا صالحا لها في المنافسات المتصاعدة حرارة، مع جماعة الهندوس ذات المكر واللياقة. فيما يخصُّ تطبيقاته في إنشاء المدارس وتنمية التعليم وسط جماعة المسلمين، وتابع الكاتب بأنَّ أحمد أسس مدرسة متخصصة في تعليم التاريخ الحديث بقرية مرادباد في شمال الهند عام 1858، وفي العام 1863 أقام مدرسة حديثة بمدينة غازبور، وهو قاض مساعد في المحكمة المحلية، ثم رأس تأسيس دار العلوم في نفس العام، وفيما بَعْد جَمَع أموالاً لبناء مدرسة حديثة في مدينة عليجاره حين انتقل موقع الدار إلى هناك عام 1864. لقد طَرَح خطة تأسيس مجالس إقليمية للتربية والتعليم واسعة النطاق في منطقة تجمع المسلمين في شمال الهند، وإلى حدِّ عام 1868 قطعتْ الخطة شوطا كبيرا. وفي العام 1886 نشأ اتحاد أجهزة تعليم المسلمين المحلية الموجودة في أنحاء الهند باجتماع التعليم والتربية للمسلمين الهنود، وانتخب أحمد رئيسا له. وفيما، بعد أصبح هذا الاجتماع منظمة سياسية معارضة منافسة ضد حزب المؤتمر الوطني الهندي، ثم تحوَّل إلى اتحاد المسلمين الهنود عام 1906. وتطرَّق الكاتب إلى عقائد أحمد في التعليم التي يَرَى أنها تأثَّرت تأثُّرا عميقا بالثقافة والأفكار الغربية خاصة بعد زيارته لبريطاليا عام 1869، التي أفهمته أنَّ رسالته الحالية هي نصح جماعته بطاعة حكم البريطانيين وبالاجتهاد في كسب ثقافتهم في آن واحد؛ وذلك يعني رَبْط طاعة الحكام البريطانيين سياسيًّا بالاعتراف بثقافتهم. كما وَعَى أن الطريقة الأسهل لكسب ثقافتهم بناء جامعة بريطانية الطراز على أرض الهند التابعة لبريطانيا؛ مما يجعل الطلاب المسلمين أكفاءً صالحين بفضل التعليم النظامي.
إنَّ الخاصية الأبزر في عقائد أحمد هي مواجهة الثقافة الغربية رغم أهمية الثقافة الإسلامية التقليدية. إذن، ما العلاقة بين الثقافة الدخيلة والثقافة المحلية؟ هل لها عمومية أو قيمة عامة حتميا؟ وما هي الطريقة الصحيحة لمعاملتها ودراستها؟ يبدو أنَّ مثل هذه المسائل لم تدخل تفكير أحمد، أو بالأحرى لم يهتم بالتروِّي فيها وتحليلها، علما بأنَّ عقائده نشأت في حالة مجتمع الهند، وهي سيادة الاستعمار البريطاني. ومن هذه الحيثية، يكون جوهر فكره جزءا من التراث الثقافي لاستعمار أوروبا ذي النقائص الفطرية.
العَلَم الآخر مُحمَّد عبده، وقد خصَّص له الكاتب الفصل الثالث، وهو يرى أن فكرة عبده للإصلاح التعليمي ذات ازدواجية؛ لأنه يعتبر دين الإسلام مبدأ الإصلاح وقاعدته من جانب، ومن جانب آخر ركن أخلاق المجتمع لكي يتحكَّم في سير إصلاح المجتمع كالفرملة الميكانيكية أمنا من الإفراط أو التفريط. ويتحدَّث الكاتب عن الخلفية التاريخية لذلك العصر، مؤكدا أنه بالنسبة لإصلاح التعليم الثقافي فقد أقيم نظام التعليم العلماني على النمط الأوروبي في مصر، أثناء حكم محمد علي؛ حيث افتتحت عشرات المدارس الابتدائية والإعدادية المتخصصة، وتربت فيها دفعة من المتعلمين العصريين. وابتداء من السبعينيات من القرن الـ19، شهد مجتمع مصر في مسير تطوراته اتجاها ملحوظا آخر وهي دنيوية القوانين وتغريبها حيث أثارت هذه الانقلابات الضخمة في نظام التعليم والقضاء انفعالا شديدا لدى علماء الدين من صفوف القوة الدينة المتحفظة، بل من صفوف المنحرفين إلى الحرية مثل عبده. وفيما يتعلق بإصلاح التعليم الديني تتمثل فكرته فيما اقترحه حول شيخوخة التعليم في جامع الأزهر مما كان الأهم حول تغيير جدول المقررات وتعديلها. وبفضل جهوده أدخل الجامع إلى جدول العلوم الثانوية الرياضيات والجبر وتاريخ الإسلام...وغيرها من المواد؛ إذ ظلَّ عبده يحمل عقيدة تخلف عن التعليم في مصر على نحو شديد؛ فقد رآه أصلا من الأصول المؤدية إلى فقر الشعب وتخلفه. أما متعلمو الدين -باعتبارهم متقني المعارف من فئات المجتمع- فقد سادَهم التخلف والتحفظ الفكري نتيجة انعزال التعليم الديني التقليدي عن الواقع وتأخره عن سير تحديث المجتمع. لكن عبده لم يذكر شيئا عن بناء فريق المعلمين وتجديد الوسائل التعليمية في اقتراحاته، وربما ظن أن الظروف لحل هذه المسألة غير متوفرة وقتئذ. ويتابع الكاتب فكرته فيما يخص إصلاح التعليم العام في مصر. مؤكدا أن عبده رأى أنَّ المجتمع الإسلامي التقليدي مجتمع أخلاقي قائم على أركان الأخلاق الإسلامية؛ بحيث يكون للتعليم الديني الأساسي تأثير في استقرار المجتمع وتنميته. وفي نفس الوقت، يدعو إلى دراسة المعارف العلمية الحديثة من الغرب وإتقانها، مع أنه يخشى ضمَّ ذلك إلى خطة التعليم العامة الوطنية. وإضافة إلى ذلك، يُوْلِي ظاهرة تغريب نظام التعليم في الإمبراطورية العثمانية عامة وخاصة في مصر عناية؛ حيث يظنُّ أنَّ النقل الأعمى من الغرب في إنشاء نظام التعليم لا يعود بنتيجة منشودة، بالعكس سيفتح "للعدو الخارجي" نافذة لتخلله، وأن المقلدين العميان الذين يعبدون الغرب ويعشقون ثقافته وقيمه عرضة لاستغلال الفاتحين الغرباء. ويبادر عبده إلى نظام التعليم الوظيفي الذي يلائم حال الوطن، والذي يوفر لكل واحد فرصة التعلُّم دون تمييز الجنس.
فيما تناول الكاتب في الفصل الرابع رشيد رضا وتفكيره نظريًّا في "الدولة الإسلامية"، وذكر في الفصل السادس أبا الأعلى المودودي وتكوينه لنظرية "الدولة الإسلامية". ولا شك أنَّ الموضوعات المذكورة سابقا مُعظمها من القضايا الساخنة، وتهمُّ كلًّا منا؛ فهذا الكتاب جدير بالقراءة.
-----------------
- الكتاب: "سير نقدية لأعلام الفكر الإسلامي في العصر الحديث".
- المؤلف: وو يون قوي.
- الناشر: "العلوم الاجتماعية الصينية"، 2016، باللغة الصينية.
- عدد الصفحات: 280 صفحة.
