لكيم نام دو
محمود عبدالغفار *
* مدرس الأدب الحديث والمقارن بكلية الآداب - جامعة القاهرة
يعدُّ "توجُّه كوريا" -الصادر في نوفمبر 2016م، حول ما سيكون عليه الاستهلاك والتسوق عام 2017م- واحدًا من الكتب المهمة الآن لدى القارئ الكوري الجنوبي؛ لعدة أسباب: يحتفل الكتاب هذه السنة بمرور عشر سنوات، وبالنسخة رقم عشرة على التوالي بالعنوان نفسه؛ مما يَعْنِي نجاحَه في اكتساب ثقة القراء العاديين من جانب، وثقة رجال الأعمال من أصحاب المصانع والشركات -وكذلك المهتمون بالأمور الاقتصادية والتسويقية- من جانب ثانٍ. كما يربط المؤلف ومساعدوه بين العلم والبحث العلمي الجاد والفكرة العامة الحدسية المستمدَّة من منظومة تصورات موروثة عن الحياة والأحياء تُطلق اسم أحد الحيوانات على العام الجديد حسب التقويم القمري الصيني (الفأر، الثور، النمر، الأرنب، التنين، الثعبان، الحصان، الماعز، القرد، الديك/الدجاجة، الكلب، الخنزير). والكتابُ يَصْدُر كلَّ عام بعنوان فرعي مستمد من الحيوان الممثل للسنة؛ كان في نسخة الكتاب الصادرة في نهاية 2015م هو: "عام القرد". أما هذه السنة، فالعنوان الفرعي هو "ركض الدجاجة".
ومن أسباب نجاح الكتاب أيضًا أنَّ ما يتوقَّعه المؤلف يقع بالفعل، ويلمسه القراء والاقتصاديون كما سبق وأشرنا؛ لذا فقد بدأت شعبية الكتاب تتزايد بشكل غير مسبوق. ومؤلف الكتاب كيم.نام.دو وهو أستاذٌ أكاديمي بأرفع جامعة كورية هي "جامعة سيول الوطنية"، وهو باحث ذو خبرة عميقة في مجال الدراسات التسويقية والتجارية، ويقوم بإعداد هذا الكتاب بشكل سنوي منذ عشرة أعوام، بمشاركة عدد من الباحثين والدارسين في مرحلة الدراسات العليا من تلاميذه والمعاونين له. حقَّقت كُتبه مبيعات ضخمة، ونالت شهرة واسعة في الأعوام الأخيرة؛ منها: كتابه "تتألمُ لأنك لم تعد صغيرًا"، ثم كتابه "ستنضجُ بعد تعب المحاولة الألف"، وهو الكتاب الذي تجاوزتْ مبيعاته المليون نسخة في عدد من الدول -تايلاند، البرازيل، تايوان، هولندا، اليابان، فيتنام- كما ظلَّ الكتاب الأكثر قراءة على موقع "أمازون" بالصين لستة عشر أسبوعًا متواصلة. وقد دَرَس المؤلِّف القانون وإدارة الأعمال بجامعة سيول الوطنية، كما أنه يقوم بالتدريس بقسم "الاستهلاك" بالجامعة ذاتها. وفي 2007م صدر له كتاب "كوريا المُترَفة" الذي نال عنه جائزة شهيرة داخل البلاد. ثم شرع منذ ذلك العام في الكتابة عن "توجُّه" كوريا حتى النسخة العاشرة التي نحن بصدد تقديمها عبر هذه السطور. أمَّا عن الباحثين المشاركين في إعداد كتاب هذه السنة مع المؤلف؛ فهم: إي جو يونج، وإي هيانج إن، وجون مي يونج، وكيم سو يونج، وتشوي جي هيه.
وعلى نحو ما ذكرنا، تغدو الكلمة المفتاحية للكتاب هي الحيوان الذي تتسمَّى به السنة القمرية حسب التقويم الصيني، ومن خلالها يقوم المؤلف بالتنبؤ بما سيلحق بالتوجهات الاستهلاكية من تغيير، وكيف ستتشكل التوجهات الاجتماعية كذلك، وعلاقة ذلك كله بالإنتاج والمنتجات التكنولوجية...وغيرها، من كل ما هو قابل للاستهلاك. واضح أنَّ الاقتصاد الكوري يُعاني أزمات في هذه الآونة، وهناك رغبة عارمة لدى الكوريين لتخطيها. لذا؛ فعنوان الكتاب الفرعي "خطو الدجاج" يخبر الجماهير -على نحو تمثيلي أو مجازي- بأنه ورغم صعوبة المرحلة، ورغم أنهم يسيرون على الأرض كما يركض الدجاج، إلا أنهم لو قاوموا وبحثوا عن ابتكارات وسبل جديدة سيرون بأعينهم أنَّ الدجاج يمكنه التحليق في السماء. وتشتمل محتويات الكتاب على عدد من العناوين الفرعية التي سنقوم بشرحها تباعًا على نحو ما وردت به.
- أنت تعيش الآن ولمرة واحدة فحسب:
الحياة فُرصة يجب اغتنامها. ولكنَّ الملاحَظ أنَّ الناس يركزون على الحاضر أكثر من المستقبل؛ لأنه غير مرئي أو غير واضح. ويركِّز المؤلف تحت هذا العنوان على جيل "ساتوري"، وهي كلمة يابانية تعني "الفهم أو الاستيعاب". تلك الكلمة التي بزغت مع جيل من الشباب الياباني عام 2010م بعد فترة طويلة من الركود الاقتصادي، حيث مروا بتجربة قلة الحيلة وانحسار الآمال لمرات عديدة؛ وبالتالي تعلَّموا أنَّه ليس من السهل أن يحصلوا على كل ما يريدونه أو يتمنونه. وقد تقبلوا الأمر فحسب دون رغبات أو طموحات بعيدة على المستوى الاقتصادي حتى أطلق عليهم جيل الفهم أو جيل الاستيعاب. وبالتالي ظهرت فكرة الاستمتاع بما في الأيدي الآن إلى أقصى حدٍّ ممكن. ويُمكننا أن نرى الآن -كما يرى المؤلف- عددًا من السائحين حول العالم ممن يقومون بتأجير منازلهم واستخدام تلك النقود في الاستمتاع -الآن- بالسفر!
- التوجُّه نحو العلاوة أو المكافأة "ب+":
هذا العصر هو عصر المعلومات المتاحة عن كل شيء وأي شيء. عصر لم تعد فيه الأشياء الفخمة باهظة الثمن غير معقولة وغير جذابة، لتحتل مكانها المنتجات والأشياء ذات الأثمان المقبولة وبمستوى معقول من الجودة؛ تلك الأشياء التي يطلق عليها "المكافأة باء موجب". فلم يعد الناس ينجذبون إلى المنتجات الفخمة التي ترتكن إلى تاريخ المنتج العريق، وتمتعه بتقاليد معينة لفترات طويلة، بل راحوا ينجذبون إلى المنتجات الجيدة ذات الأسعار المعقولة، وخير مثال يعبر عن هذه الحالة على نحو ما يطرح الكتاب هو السيارة " تويوتا-ليكساس".
- أنا من جيل يُدعى "اخترني أو خذني":
هذا الجيل ممَّن وُلِدوا في الفترة من 1985م حتى 1997م، وهو الآن في أوائل الثلاثينات من العمر، لديهم خبرات عميقة بكيفية استخدام الهواتف الذكية منذ الطفولة والتكنولوجيا الرقمية بشكل عام؛ لهذا يُطلق عليهم جيل الهواتف المحمولة، أو الهواتف الذكية، أو الجيل المفطور على التكنولوجيا الرقمية، بحسب المصطلح الذي أطلقه "مارك برنسكي" في مقال له بالعنوان نفسه "الجيل المفطور على التكنولوجيا الرقمية وجيل المهاجرين الرقميين" عام 2001م، مُركِّزًا على المعلمين والمتعلمين في أمريكا، خاصة في إطار تناول مسألة سبل أو مناهج التعليم. حيث طَرَح فكرة مؤداها أنَّ الطرق التقليدية في التعليم لم ولن تجدي مع هذه الأجيال التي وُلِدت وتربَّت على التكنولوجيا الرقمية. وقد لاقتْ الفكرة استحسانًا كبيرًا من المتعلمين وأولياء أمورهم، وكأنه أخيرًا هُناك شخصٌ ما بإمكانه أن يتفهم طبيعتهم وخصوصيتهم ومتطلباتهم في التعليم، بعد أن ضاقوا ذرعًا بالطرق التقليدية التي لا تناسبهم ولا تتناغم مع ما تربُّوا عليه.
هذا الجيل المفطور على التكنولوجيا الرقمية في كوريا قد جاء إلى الوجود لوالدين عاصرا اقتصادًا محليًّا كان يتنامى بمعدل عشرة بالمائة، وعاشا أزمة صندوق النقد الدولي عام 1997م عندما كان معدل النمو لا يتجاوز خمسة بالمائة. ومع كل تلك الصعوبات كانت الأسرة الكورية تنفق على الدروس الخاصة لتحسين مستوى أولادها تعليميًّا ما يصل إلى 87% من دخلها، وبنسبة 42% من دخل أسر أخرى للسفر خارج كوريا، وبنسبة 14.3% لدى أسر ثالثة لأجل الدراسة بالخارج. هذا الجيل تلقَّى دعمًا متواصلاً من والديه، دونما شكوى أو ضجر رغم صعوبة الأوضاع الاقتصادية. ورغم أن أولادهم -هذا الجيل- قد حصلوا على درجات متميزة، وتخرجوا في جامعات كبيرة، فلم يتمكنوا من الحصول على وظائف مناسبة؛ مما أدى في النهاية إلى أن يصبح جيلاً بلا طموح، ومع ذلك فهم يواصلون العيش بلا استسلام، باحثين عن السعادة في أبسط الأشياء؛ لهذا فهم جيل هاشتاج: "# اخترني # خذني # الكفاءات # ليس هناك نقود # الأشياء الزهيدة # العملية # المشاركة # الاختصارات".
كما يتضمَّن هذا المبحث عددًا من العناصر الأخرى، نُوردها فيما يأتي:
1- الذي ينفق قليلاً هو مستهلكٌ عقلاني أو واقعي: إنَّهم جيل لا يعبأ كثيرًا بمسألة المشاركة أو حتى إعارة الأشياء. جيلٌ يجب أن يكون وجود شريك أو معشوق في حياة أفراده أساسيًّا وجوهريًّا. إنه جيل الاستهلاك الوهمي؛ فهم قادرون على استهلاك أشياء وهمية بدلاً من الأشياء الحقيقية التي لا يستطيعون تحمل كُلفتها. فعلى سبيل المثال: سيلجأ الذين لا يقدرون على تحمل نفقات الاستمتاع بالتخييم في جبل أو منتجع معين شهير وبعيد، إلى التخييم في باحة مطعم قريب من محل سكنهم وبتكلفة بسيطة.
2- الهاشتاج الثاني لهذا الجيل تحت عنوان "الملل أو الضجر إثمٌ بينما الإشراق لا ضير فيه".. "# الصبر # صور العواطف # المتعة # الإشراق # الجِيرة".
3- الهاشتاج الثالث لهذا الجيل تحت عنوان "لا للمغامرات الخطرة، ونعم للتواضع المستقرّ": "# مرض عدم القدرة على اتخاذ القرار # المتابعة المستمرة # افعل ذلك من أجلي".
4- الهاشتاج الرابع لهم بعنوان "إنكار مفهوم القيمة حسب تصور الأجيال السابقة": "# تغيير الوظائف # الهجرة # الغرباء # التنوّع # اللامبالاة".
- التكنولوجيا الهادئة التي تُحسُّ ولا تُرى:
الشبكة التكنولوجية غير المرئية قادرة على تغيير العالم بسهولة وإقناع، ولكن مهما كانت تلك التكنولوجيا عظيمة، فهي بلا قيمة ولا جدوى لو لم تهتم فعليًّا بالإنسان. فقد تم ابتكار أحد الأجهزة ليرتديها الطلاب لتحسين قدرتهم على التركيز عام 1990م، ثم بعد عشرين سنة تم الإعلان عن نظارة ذكية سميت بـ"نظارة جوجل" التي تقوم بتشغيل العديد من الوظائف التكنولوجية من خلالها، ولكنها لم تلقَ رواجًا ونفر منها الناس حتى أطلق عليها الأمريكيون مسميات تشير إلى الغباء والحمق للسخرية منها. هذا المثال يُبيِّن أنَّ المستهلكين لا تسحرهم المنتجات التكنولوجية المتقدمة، وإنما تفتنهم المنتجات التكنولوجية التي تجعلهم يشعرون بحالة أفضل عبر إحساسهم بأن شيئًا ما يهتم بهم؛ وبالتالي يقدم المؤلف ما يشبه النصيحة قائلاً: إنَّ التكنولوجيا يجب أن تكون خفيَّة وغير محسوسة؛ بحيث يشعر المستهلك بفائدتها وحدها، ولهذا أطلق عليها التكنولوجيا الهادئة. ويضرب مثالاً آخر من كوريا حول إنتاج شركة "جون هانكوك" للتأمين جهازًا يُحصي خطوات الشخص الذي يرتديه بشكل يومي؛ وبالتالي يقيس مدى تمتعه باللياقة البدنية والصحية. وقد قدمت الشركة تخفيضات على قيمة التأمين لعملائها ممن ارتدوا هذا الجهاز!
- مفتاح النجاح التسويق والمبيعات:
كان يُعتقد أنَّ التسوق الإلكتروني سيقضي على وظائف البائعين، ولكن تبيَّن أن عصر البائعين يعود مجددًا. صحيح أنَّ العديد من الأجهزة الآلية يمكن أن تقوم بما يقوم به العمال والموظفون من خدمات، ولكن يبقى دائمًا ذلك الحس الإنساني الذي تعجز عن تقديمه الآلة مطلبًا حثيثًا يرومه المستفيدون من تلك الخدمات، وبالتالي فهذه الحقبة مختلفة عن سابقتها؛ حيث كان التركيز منصبًا على زيادة المبيعات بغض النظر عن مدى الاهتمام الإنساني بالمستهلك؛ وبالتالي على التسويق والمبيعات أن تتحلى بما يمكن تسميته "المبيعات ذات العلاقة الاتصالية مع المستهلكين".
- عصر "الوحيدون" أو "المنعزلون":
يُمكن الادعاء بأنَّ الإنسان يشحذ هممه ويحقق ما يصبو إليه من خلال الآخرين، ولكن هذه الأيام يختار الناس بوعيٍ تامٍّ الانعزال؛ مما يُقلِّل من حجم العلاقات التي يتمتعون بها مع الآخرين، وربما الدافع وراء ذلك هو البحث عن السعادة الخاصة بهم وحدهم. لكننا نستطيع أن نحس بمدى ما هم فيه من وحدة وانعزال عندما نراهم يمسكون عصاتيْ الأكل بيدٍ، والهاتف الذكي باليد الأخرى.
- لن تستمر الحياة دون دأب، أو بمعنى آخر الحياة تكمن في عدم الاستسلام:
يتخلَّص الناس من أشيائهم الخاصة التي لا يستطيعون المحافظة عليها نظيفة ومنظمة. إنهم يريدون رميها لكي يشتروا بدائلها الأحدث إلى حد بلغ معه الأمر أنهم يتخلصون مما يربطهم بحياتهم السابقة أو الماضية، ويحاولون أن يعيشوا حياة جديدة مختلفة، حتى إنَّه عندما نصل إلى مرحلة أننا لم نعد نملك شيئًا خاصًّا بنا بعد أن أحللنا التكنولوجيا محلها، فإن حياتنا ستصير ضبابية أكثر فأكثر.
- إعادة بناء التسويق والإنتاج في ضوء تخطيط أو طموحات المستهلكين:
لقد تغيَّرت نظريات التسويق بحيث أصبحت المنتجات تبحث عن تحقيق هدف أساسي وهو طموح أو رغبات المستهلكين والحصول على تلك المنتجات في أي وقت وأي مكان من خلال الحاسوب أو الهاتف الذكي. مثل هذا النوع من التسويق قادر على إقناع المستهلكين وإرضائهم ويمنح التكنولوجيا الرقمية نجاحًا في المجال التجاري بشكل عام.
- قيمة خبرات المستخدمين والمستهلكين:
التجارب والخبرات الاستهلاكية صارت الآن تنافسية. فقد تبيَّن مثلاً أنَّ المسافة التي يقطعها الأمريكيون عندما يلعبون لعبة "بوكيتمون" تساوي 143 مرة للمسافة التي يقطعها الإنسان في رحلة من الأرض إلى القمر! وبالتالي هذا النوع من الخبرات يتم وضعه الآن عند تسويق المنتجات الاستهلاكية، فلم يعد المستهلك سلبيًّا يأخذ منتجًا ويجربه، بل صار المنتج هو الذي يبحث عن تحقيق رغبات المستهلك فيه.
- عصر غياب الظهير أو الدَّاعم:
أصبحنا نعيش في زمن من الصعب أن نحس فيه بالرضا تجاه ما تقدمه لنا الحكومات؛ لأننا صِرْنا نعيش بإستراتيجيات فردية بحتة تعزل الأفراد عن وجودهم في محيط اجتماعي متماسك. وهنا يُلح المؤلف على ضرورة التغلب على الأحاسيس السلبية أو المنظور السلبي للأمور بسبب عدم قدرتنا على العيش على نحو متميِّز، بل علينا أن نتمكَّن على الأقل من مواصلة العيش إلى أن نبلغ مرحلة التعاون والمشاركة ونقض العزلة من جديد.
----------------------------------
- الكتاب: "توجُّه كوريا 2017: ركضُ الدجاجةِ".
- المؤلف: كيم نام دو وآخرون.
- الناشر: "ميريه إي تشانج"، 2016، باللغة الكورية.
- عدد الصفحات: 432 صفحة.
