«المنزلق: المستقبل المضطرب لأوروبا»

الغلاف.jpg

لجيلز ميريت

مُحمَّد السماك

تُواجِه المجموعة الأوروبية تحديات القرن الواحد والعشرين مُجتمعة، وبالتعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أنَّ هذا التعاون قد يَسْقُط أو يتراجع في عهد الرئيس الجديد دونالد ترامب.. ومع ذلك، فإنَّ أبرز هذه التحديات المشتركة: الاحتباس الحراري، والإرهاب، وعالمية الأسواق، والهجرات الجماعية، وعسكرة السياسات، والثورة الإلكترونية.. ويَطْرَح المُؤلف -وهو رئيس تحرير صحيفة اختصاصية تصدر في بروكسل عاصمة الاتحاد الأوروبي- السؤال الكبير: كيف سيتمكَّن الاتحاد من مواجهة هذه التحديات؟ ويتألف الاتحاد من 28 دولة، يبلغ مجموع سكانها 550 مليون نسمة. أما حجم اقتصادها، فيبلغ 15 تريليون دولار. غير أنَّ دول الاتحاد لم تنفق على الدفاع في العام 2015 سوى 217 مليار دولار فقط. وبالمقابل، فإنَّ الولايات المتحدة -التي يبلغ عدد سكانها 320 مليون شخص- أنفقتْ على الدفاع في العام ذاته 560 مليار دولار.. ومن هُنا، يطرح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إشكاليات مُستقبل العلاقات الأمريكية-الأوروبية لمواجهة هذه التحديات المشتركة.

لقد كان ترامب واضحاً وجريئاً، بل وفجًّا أيضاً، في دعوته الاتحاد الأوروبي إلى أن يتحمل المسؤوليات مباشرة دون الاعتماد على "تضحيات" الولايات المتحدة.. أو على الأقل أن يدفع الأوروبيون للولايات المتحدة مقابل التضحيات التي تقدمها. وبالنسبة له لم تعد الولايات المتحدة راغبة -ولا هي قادرة على- أن تتحمل المزيد؛ فهي في تصوُّره الجديد "لم تعد جمعية خيرية"، ثم إنَّها تسعى لطيِّ صفحة الصراع مع الاتحاد الروسي من خلال العلاقات الشخصية الجيدة بينه وبين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

لقد عَمِل المؤلِّف على دراسة وتحليل التحولات القائمة والمستجدة في العلاقات الأوروبية-الأمريكية وآثارها على قوة الاتحاد وتماسكه؛ وبالتالي على استمراره؛ وذلك في الوقت الذي يُواجِه فيه الاتحاد خطرَ التفكُّك بعد الانسحاب البريطاني منه. وبعد أنْ شجَّع هذا الانسحاب قوى سياسية في العديد من الدول الأوروبية الأخرى؛ مثل: هولندا، وفرنسا، على الاقتداء بالتجربة البريطانية.

ويقول المؤلف إنَّه وفي الوقت الذي ينشغل الاتحاد بمرحلة ما بعد الانسحاب البريطاني، تنهمر فوق رأسه المشاكل المترتبة عن الهجرة الجماعية وعن عدم التعافي من الأزمة المالية التي حلّت به (وبالولايات المتحدة)، مع تراجع حجم السوق الاقتصادي العالمي. بل ولعل في مقدمة كل شيء: صعود اليمين المتطرف حتى في ألمانيا وإيطاليا وبلجيكا. ويذكر المؤلف في دفاعه عن الاتحاد، وفي محاولة لتسفيه النظريات التي تتهم هذا الاتحاد بانتهاك السيادة الوطنية للدول الأعضاء، أنَّ عددَ العاملين والموظفين في الاتحاد الأوروبي يبلغ 23 ألف شخص فقط، ويقول إنَّ هذا الرقم هو أقل من عدد موظفي أي وزارة في أي دولة عضو في الاتحاد.

ويقول إنَّ المركزَ في بروكسل لا يتَّخذ قرارات، ولكنه يُصدر توصيات فقط، وإن هذه التوصيات تنقل إلى حكومات الدول الأعضاء، وهي التي تحول التوصيات إلى قرارات وتشريعات، ومن ثم إلى سياسات. ومن هنا، يتضح أنه ليس صحيحاً الاعتقاد بأن الاتحاد هو الذي يتولى إدارة الدول الأعضاء، بل الصحيح أن هذه الدول هي التي تتولى إدارة الاتحاد.. وأنَّ هذه العملية، عملية إدارة الاتحاد، تتم من خلال اللجان التي تتألف من أعضاء تسميهم الدول الأعضاء ذاتها، وهذه اللجان هي التي تتخذ القرارات المتعلقة بسياسة الاتحاد، من الزراعة مثلاً، حتى حماية المستهلك.

وفي ضَوْء ذلك، يلقي المؤلف باللائمة على الحكومات، وليس على الاتحاد، في تعثر العمل المشترك لمواجهة التحديات الكبيرة. ويفنِّد المؤلف الأسباب التي أدت لانسحاب بريطانيا من الاتحاد، وفي مقدمتها الهجرة الكثيفة من وسط أوروبا إلى بريطانيا. ويبين بالأرقام أن دول شمالي أوروبا، بما فيها بريطانيا، تفتقر لليد العاملة، وأنها تحتاج إلى مزيد منها في العقود العديدة المقبلة. ويقول إنه على الرغم من أن السياسيين الأوروبيين -بمن فيهم البريطانيين- يعرفون هذه الحقيقة، إلا أنهم لا يجرؤون على البوح بها بوضوح وعلانية أمام ناخبيهم.

وفي تحليله لعملية اتخاذ القرارات في الاتحاد، يتهم المؤلف مجلس الاتحاد بعدم الشفافية. ويقول إنَّ المجلس هو المصدر التشريعي الحقيقي، وإنه يجتمع خلف أبواب مغلقة، وإن البرلمان الأوروبي يمارس بعض السلطة، ولكن لم يسبق أن اتهم أحدًا منهم بالمسؤولية عن الفشل. ثم إنَّ هناك موظفين مدنيين غير منتخبين يمارسون سلطات واسعة، وهو أمر غير طبيعي. مع ذلك، يعترف بأنَّ الاتحاد نَجَح حتى الآن في تجنب مضاعفات هذه النواقص.

وبالمقارنة مع كلٍّ من الولايات المتحدة والصين، يُعلن المؤلف الدكتور ميريت الحقيقة التالية، وهي أن الاتحاد تعثر حتى الآن؛ حيث فشل الآخران في تحويل التقنية الإلكترونية إلى نجاح تجاري. ويخلص المؤلف إلى القول بأنَّه وبهذه العقلية فإنَّ الاتحاد الأوروبي لن يقوى على مواجهة التحديات، وإنَّ المواجهة تتطلب إعادة نظر شاملة، وإلى جرأة أدبية وسياسية في مواجهة الحقائق.. وإلا..

وقد أسفرتْ الحرب العالمية الأولى عن تفكك إمبراطوريتين كبيرتين: الإمبراطورية العثمانية، والإمبراطورية النمساوية-الهنغارية. وأدَّى هذا التفكك لقيام سلسلة من الدول الجديدة على قاعدة الوطنية والقومية. وذهبت المشاعر القومية إلى حدِّ قيام حركات من نوع النازية في ألمانيا والفاشية في إيطاليا، والعنصرية المنغلقة في العديد من الدول الأوروبية الأخرى؛ مما أدَّى لنشوب الحرب العالمية الثانية. وأسفرت تلك الحرب عن سقوط حركات اليمين القومي المتطرف؛ مما فتح الباب تدريجيًّا أمام قيام الاتحاد الأوروبي. ذلك أنَّ أهم صفة يتمتع بها الاتحاد هي أنه عابر ليس فقط للحدود، بل عابر للقوميات.

اليوم، تشهد أوروبا حركة في الاتجاه المعاكس. أي باتجاه إعادة إنتاج الأحزاب القومية اليمينية المتشددة، وإعادة الاعتبار للشعارات النازية والفاشية من جديد.. ومن الأمثلة على ذلك:

أولاً - فرنسا:

كانت الجبهة الوطنية التي تترأسها مارين لوبن قد حصلت في الانتخابات الأخيرة على 17 بالمائة من الأصوات. يومها اعتبر ذلك مؤشراً خطيراً لطبيعة التحول الفرنسي نحو اليمين المتطرف. الآن تتمتع الجبهة بتأييد 30 بالمائة من الأصوات. وقد تحقق لوبن المفاجأة الكبرى بفوزها بالرئاسة الفرنسية في العام المقبل. ومن برنامج الجبهة وقف الهجرة، وإبعاد الأجانب عن فرنسا، وفرض القيم والعادات الوطنية الفرنسية مقياساً وحيداً للمواطنة. والهدف من كل ذلك هو الإسلام والمسلمون.

ثانياً - ألمانيا:

في الانتخابات العامة الأخيرة التي جَرَت قبل ثلاث سنوات، حصلتْ حركة اليمين المتطرفة المعادية للأجانب عامة وللمسلمين خاصة (أ-أف-دي) على أقل من خمسة بالمائة من الأصوات. وهي نسبة لا تسمح لها بالتمثل في البونديستيفا (البرلمان). ولكن عندما جرت انتخابات فرعية في ثلاث ولايات حصلت هذه الحركة "النازية الجديدة" على ما يتراوح بين 15 و24 بالمائة من الأصوات.

ثالثاً- بولندا:

كان يكفي لزعيمة الحزب اليميني المتشدد بيتا زيدلوك أنْ ترفع شعار حملتها الانتخابية: "لا للمهاجرين، لا للمسلمين" حتى تفوز بالأكثرية المطلقة.. وتتولى رئاسة الحكومة.

رابعاً - الدانمارك:

في الانتخابات العامة التي جرت في العام 2011، مني حزب الشعب الدانماركي بهزيمة منكرة؛ حيث لم يحصل إلا على 12 بالمائة فقط من الأصوات. ولكن في الانتخابات التي جَرَت في العام 2014 حَصَل الحزب على 21 بالمائة. والشعار الذي يرفعه الحزب والذي ضاعف من شعبيته هو معاداة المسلمين تحديداً وربما حصراً.

خامساً – بريطانيا:

حتى في بريطانيا التي تعتبر تاريخياً من أكثر الدول الأوروبية انفتاحاً على المهاجرين، انقلبت الحال رأساً على عقب. يترجم ذلك تصويت الأكثرية من الناخبين البريطانيين لصالح الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، ليس كُرهاً بالاتحاد، ولكن رغبة في إغلاق باب الهجرة من الاتحاد إلى بريطانيا.

وتترافق هذه النماذج من المتغيرات في المجتمعات الأوروبية، مع تصاعد عمليات الاعتداء على المهاجرين عامة، وعلى المسلمين خاصة، حتى إنَّ الحكومة البريطانية اضطرت لإعداد قانون جديد يُشدِّد العقوبات على مرتكبي أعمال الكراهية العنصرية أو الدينية. وتعزز من مشاعر الكراهية، الأعمال الإرهابية التي تعرضت لها فرنسا وبلجيكا وألمانيا مؤخراً، والتي ارتكبها إرهابيون باسم الإسلام تبيَّن أنْ بعضهم من المهاجرين الجدد، أو القدامى. الأمر الذي عزَّز من مشاعر الربط بين الهجرة والإرهاب.

ومن هنا، ترتفع علامات الاستفهام الكبيرة؛ منها: هل تؤدي مشاعر الكراهية ضد الأجانب وضد المسلمين إلى إعادة إنتاج الانتماءات القومية اليمينية المتشددة التي هيمنت على أوروبا قبل الحرب العالمية الثانية؟ وهل يتحول المسلمون في أوروبا إلى أقلية دينية مضطهدة على غرار ما حدث للأقلية اليهودية؟ وهل تؤدي هذه المتغيرات إلى انفراط عقد الاتحاد الأوروبي كاتحاد عابر للقوميات والأديان؟ وفوق ذلك كله، لا بد من الإشارة إلى اتساع الهوة بين جانبي الأطلسي، الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي في عهد الرئيس ترامب.

وفي ضوء هذه المتاعب والأوضاع الداخلية، فإنَّ السؤال الذي يفرض نفسه هو: كيف سيواجه الاتحاد الأوروبي التوجهات الأمريكية الجديدة للرئيس ترامب؟ وكيف سيتعامل مع التطلعات الروسية الجديدة للرئيس بوتين؟.. لقد أوْضَح الرئيس ترامب أنه اتخذ خياريْن إستراتيجيين؛ الأول: أن على أوروبا أن تتحمل مسؤولية الدفاع عن نفسها. والثاني: أن الولايات المتحدة راغبة في إقامة علاقات ودية مع الاتحاد الروسي.

يعني الأمر الأول أن حلف شمال الأطلسي لم يعد -أو لن يبقى- في سلم أولويات الاهتمامات الأمريكية.

ويعني الأمر الثاني أن "الصراع البارد" بين روسيا والاتحاد الأوروبي، سواء كان صراعاً حول مصير دول البلطيق أو حتى بولندة، خاصة الصراع حول أوكرانيا، والتوسع في شبه جزيرة القرم.. والتمدد في المياه الدافئة في شرق البحر المتوسط. إنَّ ذلك كله لم يعد هو أيضاً -أو لن يبقى- في سلم أولويات الهموم الأمريكية، كما كان الأمر في السابق. وتنصُّ المادة الخامسة من اتفاقية حلف شمال الأطلسي على "أنَّ أي اعتداء على أي دولة من دول الحلف هو اعتداء على دول الحلف كلها". ولكن العمل بهذه المادة يقتضي أن تتحمل كل الدول الأعضاء الأعباء وليس المسؤوليات فقط، بصورة مشتركة. غير أن الواقع هو أن دول الاتحاد تعتمد من حيث الأعباء، على الولايات المتحدة أساساً وفي الدرجة الأولى.

لذلك؛ فإنَّ ما قاله الرئيس ترامب بشأن حلف الأطلسي لم يكن جديداً؛ فقد قاله من قبل -ولو بصورة مختلفة أو مخففة- الرئيس أوباما نفسه، وقالته وزيرة خارجيته السابقة هيلاري كلنتون. وفي العام 2011م، ردَّد الموقف ذاته وزير الدفاع في ذلك الوقت روبرت جيتس في خطاب ألقاه في بروكسل بمقر الحلف بالذات؛ حيث قال: "إنَّ القيادات السياسية الأمريكية المستقبلية التي لم تتكوَّن من تجارب الحرب الباردة -كما هو الأمر بالنسبة إلي- قد لا تعتبر أن التوظيف الأمريكي في الحلف الأطلسي يستحق كل هذه التكاليف".

لقد مرَّ على هذا "الإنذار" ست سنوات، كان خلالها الرئيس ترامب مجرد رجل أعمال مهموم بتنظيم مهرجانات انتخاب ملكات الجمال في العالم، وفي بناء الفنادق والكازينوهات. وممَّا يُعْطِي مَوْقف ترامب الصاعق من الحلف مزيداً من الصدى الإيجابي في الولايات المتحدة رد الفعل الأوروبي على ما قامت به روسيا في أوكرانيا. فالدول الأوروبية لم ترفع إلا بنسبة ضئيلة جداً موازنات الدفاع. ولكنها زادت من حجم العقوبات المالية والاقتصادية فقط.

وفي العام 1934، حذَّر كاتب نمساوي يُدْعَى ستيفان زويج من خطر التمزق الأوروبي، ودعا لاتحاد يحجب الخطر عن القارة الأوروبية. ولكن دعوته ذهبت أدراج الرياح. فهاجر مع زوجته إلى البرازيل؛ حيث كان يُراقب عن بُعد مَجْرَى الحرب تدمر القارة عن بكرة أبيها. فحملته تلك المشاهدة المروعة إلى الإقدام على الانتحار، هو وزوجته في العام 1942. ولكن بعد مرور ستة عقود على انتحاره، بدأت أوروبا الخطوة الأولى نحو الاتحاد من خلال توجيه السياسات المتعلقة بالحديد والفحم حتى وصلت إلى توحيد العملة.. غير أن الاتحاد فشل حتى الآن في تحقيق الهدف الكبير وهو "المواطنة الأوروبية". وما يجري في الدول الثمانية والعشرين يومياً يعكس نرجسيات وطنية متمردة على الاتحاد.

ونظراً لخطورة هذه التطورات السلبية، تغرق المكتبات الأوروبية بالكتب والدراسات والأبحاث التي تحذر من العودة للوراء مرة جديدة. وذلك في ضوء صعود اليمين المتطرف في العديد من الدول الأوروبية في الشرق الأوروبي، وفي الغرب على حدٍّ سواء، وليس آخرها كتاب جيلز ميريت حول المستقبل الأوروبي المضطرب.

-------------------------------

- الكتاب: "المنزلق.. المستقبل المضطرب لأوروبا ".

- المؤلف: جيلز ميريت.

- الناشر: جامعة أوكسفورد، 2016، باللغة الإنجليزية.

- عدد الصفحات: 270 صفحة.

أخبار ذات صلة