«الكنوز المنهوبة»

الغلاف.jpg

لباولو بروساسكو

أمين منار *

* باحث إيطالي من أصول مغاربية

خلَّفتْ الأحداثُ التي ألمَّت بالمشرق العربي -خلال العقدين الأخيرين- أضراراً فادحةً مسَّت تراثه الثقافي والفني. وقد شكَّل مُثلثُ العراق وسوريا ومصر أبْرَز الفضاءات المتضرِّرة.

أستاذ التاريخ الفني للشرق الأوسط الإيطالي باولو بروساسكو، حاول تتبع الأضرار الحاصلة والشبكات والجهات الناشطة في ذلك، وما لتلك الأعمال من انعكاسات على الذاكرة الجماعية لشعوب المنطقة. حيث يتناول الباحث في كتابه "الكنوز المنهوبة" -المعني بالمسألة- أربعة محاور أساسية: تداعيات نهب متحف بغداد وحيثياته؛ والأطراف المتورطة في إتلاف الآثار العراقية؛ والربيع العربي وآثاره على الثروات الثقافية؛ وسوق العاديات والتحف عبر شبكة الويب. ويستعيد الباحث الإيطالي في مستهل كتابه، ضمن المحور الأول، حيثيات غزو العراق (2003م) ومسألة استهداف فضاءات ثرواته التاريخية الفنية والأثرية، وهل هو متعمد ومقصود في نطاق مخطط ما سُمي بـ"الفوضى الخلاقة"، أم الأمر يتعدى قوات الاحتلال والأطراف الموالية لها في الداخل لينحصر أساسا في بروز مافيا تهريب دولية متعددة الجنسيات أطلت بانهيار الدولة؟ وهي مافيا جاهزة للانقضاض على كل ما هو نفيس، في أي لحظة وفي أي دولة، ما إن يتهدد كيان الدولة.

وفي الأثناء، لا يغفل الباحث بروساسكو عن التعريج على التعبئة النفسية التي تعرَّض لها الجندي الأمريكي؛ بوصفه الموكل بمصير ما هو نفيس في ذلك البلد والوصي عليه، ومن ثمَّ حيازته وترحيله نحو مقر آمن؛ حيث خصصَ المؤلف فصلاً على حِدة لحيثيات نهب متحف بغداد الذي يعود تأسيسه إلى العام 1924، والذي يُعد من بين أهم أربعة متاحف في العالم: المتحف البريطاني واللوفر الفرنسي ومتحف بيرجامون الألماني، مبرزا فداحة الأضرار التي لحقت بهذا المعلم التاريخي. وتعود أهمية متحف بغداد الأثرية والفنية إلى رحابة العصور التي يغطيها، حوالي عشرة آلاف سنة من التاريخ، الممتدة من الحقبة الأكدية، مرورا بمختلف الحضارات اللاحقة السومرية والآشورية والبابلية والفارسية الأخمينية والساسانية إلى الفترة الإسلامية.

وقبل حصول الكارثة العراقية، حذَّر عددٌ من علماء الآثار الأمريكان من تداعيات انهيار الدولة؛ لما له من انعكاس على الثروات الثقافية في العراق وذلك قبيل الاجتياح، وسعوا في إنشاء موقع ويب أبرزوا من خلال صفحاته الحقول والمعالم والمتاحف التي ينبغي تجنبها وحمايتها، والعمل على المحافظة عليها في حال نشوب صراع مسلح، وهي واقعة خصوصا في نواحي بغداد والموصل. بلغ ذلك التحسيس، إلى جانب تدخلات مباشرة لمديري متاحف وعلماء آثار لدى الساسة الأمريكان، حدَّ إعداد قائمات محميات (no-strike list)، كانت تُقدم كلما سنحت الفرصة إلى المعنيين والمتنفذين الأمريكان، لكنها ذهبت أدراج الرياح؛ الأمر الذي جعل الباحثة الأثرية العراقية زينب بحراني تُحمِّل إدارة بوش الابن كارثة ما حل بالتراث العراقي، وهو ما ليس له نظير في التاريخ الحديث. حيث ترافَقَ مشروع تفريغ العراق ونهب ثرواته مع ادعاءات تصدير الديمقراطية. في واقع الأمر لم يكن متحف بغداد وحده عرضة للنهب، بل تعرض متحف الفن المعاصر للضرر أيضا. وبحسب أستاذة الفن العراقي ندى شبوط، فقد توارى 7000 عمل فني يعود لرعيل المؤسسين الأوائل للفن العراقي، كانت قد جُمعت في ذلك المعلم منذ ثلاثينيات القرن الماضي، ناهيك عمَّا تعرَّضتْ له أكاديمية العلوم ومؤسسة المسرح والسينما ومدرسة الموسيقى والرقص من اختلاس ونهب.

وعلى ما يُوْرِد مُؤلف "الكنوز المنهوبة"، فقد اكتملتْ مسرحية نهب الآثار العراقية بإرسال 13 مفتشا بقيادة كولونيل المارينز ماثاو بوغدانوس، في الواحد والعشرين من أبريل 2003، للتحقيق في الأحداث. وبعد صدور التقرير النهائي لبوغدانوس، وجَّه المديرُ العام لمنظمة اليونسكو حينها كوشيرو ماتسورا تنبيها للطرف الأمريكي حثه فيه على تشديد إجراءات الرقابة واتخاذ تدابير لحماية الحقول الأثرية والمؤسسات الثقافية. عقب ذلك، تسرَّب حديث في الصحافة العالمية عن تواطؤ أفراد من قوات الاحتلال مع عصابات التهريب المحترفة.

ويتساءل الباحث باولو بروساسكو -ضمن المحور المخصص للأطراف المتورطة- عمن وقف وراء نهب متحف بغداد؟ وما هي أهداف ذلك؟ صحيح ثمَّة تهاون من قِبل سلطات الاحتلال وثمة لصوص محترفون في اختلاس الآثار، ولكنْ هُناك غلٌّ أيضا داخل الضمير الجمعي العراقي، كون الفضاءات والمعالم التاريخية المنهوبة هي فضاءات رمزية لنظام البعث شيدها لإبراز سطوته وإضفاء أبهة على نظامه. ومن هنا، كان احتفاؤه ببابل القديمة نموذجا لعراق صدام حسين، التي جاء ترميمها لأغراض استعراضية لا تمت للتاريخ بصلة، لِما يدفع النظام من حافز سياسي دعائي. وكانت الحالة الأكثر استهجانا في استعادة التاريخ العراقي -وفق باولو بروساسكو- إقامة المعالم التي تخلد ذكرى البابليين، مقلدة ما فعله موسوليني في حنينه لماضي روما المجيد، جاء ذلك التقليد بصورٍ تمثلُ حمورابي ونبوخذ نصر، متخذا نظام البعث إياهما مثالا وعنوانا لنظامه؛ مما دفعه لخوض أعمال ترميم مكلفة وزائفة علميا.

ومهما تنوعت الاتهامات في تحميل مسؤولية تلفِ ثروات العراق الثقافية، فإن ذلك لا يقلل من مسؤولية القوات الغربية فيما لحق بالعراق من انتهاكات. إذ لم يتوقف النهب عند الاختلاس، بل رافقته موجة متاجرة غير مشروعة بآثار البلد كانت سوقها رائجة في الغرب.

وتحت عنوان: "لمن ينتمي الماضي؟"، يُطلق باولو بروساسكو على ما جرى في العراق "جريمة القرن"، جراء هوْل ما حصل لآثار البلد. وفي إجابته عن ذلك السؤال يعيد الكاتب النظر في الترسانة القانونية الدولية التي تتعلق بالتراث الثقافي: معاهدة لاهاي 1954 المعنية بحماية الممتلكات الثقافية في حال نشوب نزاعات مسلحة، واتفاقية اليونسكو العائدة إلى العام 1970. وكلتاهما تقر بحق الشعوب في تملك ثرواتها وحفظها، وما تمليه على القوى الغازية، في حال نشوب نزاعات، تفادي المواقع والمتاحف الحاوية لتلك الثروات. كما أرْست الأعراف الدولية قواعد تُلحِق بمقتضاها ثروات الحضارات القديمة بأصحابها وورثتها، لتضع حدًّا لادعاءات "الورثة المعنويين" المنافية لروح القانون الدولي في المسألة. لم يطبق من ذلك سوى النزر القليل في العراق، فبدخول الأمريكان بغداد عام 2003 تبخر "قناع أوروك"، أو ما يعرف بسيدة الوركاء، الذي يعود تاريخه إلى 3300 سنة قبل الميلاد، وموناليزا نمرود، وحُلي ملكات نمرود، ناهيك عن ألوف الألواح المسمارية. ويذكر صاحب الكاتب أنَّ مراعاة الأعراف الدولية من أجل الحفاظ على تراث الشعوب قد تعرض لانتهاكات فاضحة من قِبل الأمريكان والقوات الغازية، ما يدعو لمراجعات حقيقية وإعادة نظر.

ويختتم بروساسكو حديثة بشأن سؤال: "لمن ينتمي الماضي؟" بقوله: "إن محو الذاكرة التاريخية، من خلال إتلاف التراث والنهب المنظم، وإقامة المعسكرات فوق المواقع الأثرية الهشة، مثْل تمركز الحشود الأمريكية في مدينة أور القديمة، وعدم تجنب الحقول التي كابد علماء الآثار لإخراجها يمثل جريمة متعمدة وبسبق الإضمار. فقد كافح باحثون طويلا لإبراز تطور الزراعة في تلك المناطق منذ سبعة آلاف سنة، وللإحاطة بظاهرة المدينة-الدولة في "أوروك"، ولإعادة تنظيم أرشيفات الرقُم الأكدية والسومرية التي تشهد بتواجد مجتمع متعدد الأعراق، وصولا إلى الكشف عن مناطق ضمت ألواح حمورابي العائدة إلى 1700 قبل الميلاد ونبوخذنصر الذي امتدت إمبراطوريته من الخليج العربي إلى المتوسط".

صحيح أنَّ الكاتب باولو بروساسكو يندِّد بما حَصَل للآثار العربية خلال العشريتين الأخيرتين، ولكنه لا يذهب إلى غور المسألة. إذ ثمة قناعة رائجة في التصورات الغربية، تجد دعما حثيثا من إعلامه، أن الغرب هو الموكل بتراث الشرق والوصي عليه، بوصفه الحاضن والحامي للتراث المسيحي اليهودي. واستند ذلك الادعاء إلى تقوُّل مفاده أن أهالي المنطقة العربية لا يجلون تراثهم القديم، على اعتبار أنه تراث "مدنس" و"جاهلي"، وبالتالي الغرب هو المعني بحفظه، والوصي على تراث البشرية بمختلف أشكاله. وهي في الواقع مقولة مغرضة تبرر الاستحواذ على إرث الغير بقصد انتزاعه وحيازته. وفي تلك الأجواء المسكونة بمطامع الاستحواذ، تطورت أعمال نهب التراث الفرعوني والعراقي والقرطاجي والفينيقي. وقد كانت المتاحف الغربية منذ بداية إنشائها مؤهلة للغرض بقصد استقبال القطع الأثرية الضخمة من تراث الشرق، التي يُزمع ترحيلها من خرسباد ونينوى ونمرود وسوريا ومصر ولبدة وقرطاجة. وفي هذا الإطار، تمَّ افتتاح أقسام الآشوريات في اللوفر سنة 1847م، وفي المتحف البريطاني سنة 1853م، وجرى استجلاب "بوابة عشتار" نحو متحف برلين، وتم ترحيل آلاف اللوحات الفسيفسائية من قرطاج وحضرموت التونسية (سوسة) وعديد المسلات المصرية. وللذكر؛ فإنَّ بوابة عشتار الشهيرة، إحدى بوابات مدينة بابل الثلاث عشرة، التي رُحِّلت إبان القرن الماضي إلى متحف برلين سنة 1927 تحديدا، تبقى أحد عناوين الآثار العراقية المرحَّلة إلى كبريات المتاحف العالمية.

كلُّ ذلك أتى ضمن الموجة الأولى من ترحيل الآثار المشرقية، التي انطلقت منذ أواخر عهد الدولة العثمانية، وامتدت على مدى الفترة الاستعمارية، وهي موجة علنية تمت على مرأى ومسمع من الأهالي. فالناس في ذلك العهد غارقون في بحر من اللامبالاة والأمية. وهي الفترة التي شهدت تهريب أهم الآثار والتحف والمخطوطات من البلاد العربية (ترحيل مخطوطات اليمن بتدبير من الإيطالي جوسيبي كابروتي الذي هرب ستين صندوقا حوَتْ ما يربو على 2040 مخطوطا؛ وتجميع مخطوطات القرآن الكريم المودعة في مكتبة الفاتيكان (مئة وأربع وأربعين مخطوطا) ومثيلتها في مكتبات روما (إحدى وسبعين)، وهي واردة في معظمها من جامع الزيتونة المعمور وزوايا منطقة جنوب الصحراء ومكتبات فارس والهند).

وقد تميَّزت مرحلة النهب الأولى لآثار البلاد العربية وثرواتها بمشاركة بعض السفراء والقناصلة الأوروبيين في الإيالة العثمانية، إضافة إلى أنَّ تعاطي هؤلاء المبعوثين السمسرة في اللقى والتحف يبلغ حد التنافس المقيت بينهم. فقد كان كل من بول إيميل بوتا (P.É. Botta) وأوستن هنري لايارد  (A.H. Layard) -وهما من أوائل المنقِّبين الهواة عن الآثار العراقية وترحيلها نحو الغرب، دبلوماسيين تابعين لحكومتي فرنسا وإنجلترا لدى السراي العثماني.

لنشهد اليوم المرحلة الثانية من ترحيل الآثار العربية نحو العواصم الغربية، وهو يأتي ضمن موجة مركبة للتهريب تشهدها المنطقة. الموجة الثانية من تهريب الآثار العربية، أي الموجة المعاصرة، لا تزال محكومة بالمبررات نفسها والادعاءات ذاتها؛ فالتغاضي عن نهب الآثار الشرقية وترحيلها نحو الغرب يستند إلى ما يسميه المؤرخ والأثري الإيطالي ماريو ليفِراني ادعاء "الإرث المعنوي" لتملك تلك الآثار.

صحيح أن كتاب الباحث بروساسكو ضم صفحات قيمة، تشير إلى التدمير المنظم للآثار العربية، لكن صاحبه لا يغفل عن أن ما حصل هو في جانب منه نتاج تصفية حسابات مع الذاكرة، كما يسميه، الذاكرة المثقلة بانجراحات الدكتاتورية، وهو ما حصل في تونس وليبيا ومصر وسوريا، بما لحق بعض المعالم التاريخية من ضرر أيضا، ولكن بدرجات أقل حدة، وهو نوع من الثأرية العدمية المتوجهة نحو الذات. وعلى ما يرصد بروساسكو ثمة شبكة دولية للتهريب المنظم للآثار العربية تتحرك على جبهتين: بات طرفها الماكث في البلدان العربية يتجاوز عمل "نباش القبور"، أو "التومْبارولو" كما يسميه، الباحث عن مقابل زهيد، والذي عُرف سابقا ضمن الحفريات العشوائية غير القانونية، إلى سرقة إلكترونية قائمة على معرفة ودراية، لأن من يسرق المسلة السوداء لشلمنصر وإناء وركاء المقدس العائد إلى خمسة آلاف سنة الذي عثر عليه في أور، هو خبير أثري وليس لصا مبتدئا، يتقاسم الأدوار مع شبكات تهريب دولية عابرة للقارات تضمن وصول الآثار إلى دوائر المزادات التجارية العالمية. وكما يبرز بروساسكو أيضا هناك حرفية في ترويج الآثار اليوم، فبمجرد إعلان نهب المكتبة الوطنية في بغداد وحرقها أطلت العديد من نسخ القرآن الكريم النادرة ونماذج من المخطوطات العربية النفيسة في أسواق التحف العالمية.

وتحت عنوان "سوق عاديات أرض الرافدين على الويب"، كتب بروساسكو رفقة روبارتا بويرو: تحولت المزادات من دور العرض المعروفة إلى فضاء الإنترنت. ثمة اتهامات جادة من الكاتبين بأنَّ كوارث العراق ومصر وسوريا التاريخية تكشف عن وجود مافيا دولية تتألف من سماسرة الآثار، والتي باعتها في الغرب مرفوقة بجملة من أصحاب المجموعات وسلسلة من المتاحف الخاصة في هونج كونج وفي العواصم الغربية. وعلى سبيل الذكر، يربط الباحثان نشوء جمعية باعة الآثار الخواص المتنفذة، "المجلس الأمريكي للسياسة الثقافية" سنة 2001، التي تنادي بتحرير سوق الآثار، بالسعي للتقليص من التضييقات القانونية على أنشطتها ومشاريعها الدولية؛ فالعديد من دوائر باعة التحف والآثار في العواصم الغربية تضغط لسن قوانين للملكية الثقافية لصالحها، تسمح لها بنقل الثروات الفنية وحيازتها وفق مرادها. وسويسرا من جانبها تسمح بالحصول على وثيقة ملكية قانونية لأي قطعة أثرية أو عمل فني، يثبُتْ بقاؤه أكثر من خمس سنوات على أراضيها، وفي هذا الوضع المتداخل تُمثِّل لندن وباريس ونيويورك أهم أسواق التجارة غير المشروعة للآثار.

*****

نبذة عن المؤلف:

باولو بروساسكو: أستاذ علم الآثار وتاريخ فن الشرق الأوسط في جامعة الدراسات بجنوة - إيطاليا. دَرَس في العديد من الجامعات الأجنبية خارج إيطاليا، كما قام بأبحاث أثرية في سوريا والعراق ومالطا.

-----------------------------------------

- الكتاب: "الكنوز المنهوبة.. اختلاس تراث الشرق الأوسط الفني".

- تأليف: باولو بروساسكو.

- الناشر: منشورات برونو موندادوري (ميلانو)، 2016، باللغة الإيطالية.

- عدد الصفحات: 208 صفحات.

أخبار ذات صلة