فاطمة بنت ناصر
نشر الباحث المغربي الحسان شهيد بمجلة التَّفاهم مقالاً تجاوز ٤٠ صفحة حمل عنوان "القيم الإنسانية في التَّدافع الحضاري المُعاصر" . وفي القادم تجدون ملخصاً لأهم ما ورد في المقال وبعض المُلاحظات حوله.
يُعتبر الباحث موضوع " القيم" وما شهدته وتشهده من تغييرات من أهم المواضيع التي تستحق نقاشاً مستفيضاً للتوصل إلى فهم أسباب التحولات في هذه المنظومة وكيفية الحفاظ عليها. ويرى الباحث أنَّ عناصر القوة والسلطة في الواقع المعاصر والأدوات المادية، والإعلامية التي سُخرت لها هي التي استهدفت القيم وأحدثت التغيير فيها.
مفاهيم المقال الأساسية (القيم والتدافع)
أولاً القيم: يبحث الكاتب في معاني ودلالات كلمة القيم والتي هي جمع كلمة قيمة والتي وردت في القرآن الكريم بأشكال عدة منها قوله تعالى: " مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ"، وقوله تعالى: " إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ". وتحمل هذه الكلمة في كل اشتقاقاتها معاني مشتركة: كالثبات والاستمرار والقوة والوقوف مُرتبطة بمعاني الخير والرشاد والاستقامة. ويجتهد الباحث بتقديم تعريف موجز للقيم يقول فيه : "إنَّ مفهومها ينطبق على كل المعاني النبيلة التي تنسجم مع روح الفطرة البشرية ويطمئن إليها جمال النفس ويتلقاها العقل بالقبول ويحيا بها الإنسان سعيدًا".أما المعاني الإنسانية التي تنطوي عليها هذه الكلمة فهي : الفطرة والجمال وسلطة الاحترام والتمثيل الإنساني. ثانيًا: مفهوم التدافع: التدافع المقصود هنا هو " إرادة الحضور والمشاركة والفعل الحضاري من كل ثقافة إنسانية، وفرض وجودها الثقافي بشتى الوسائل والآليات المُتاحة".
رباعية الروح والنفس والعقل والجسد
أما الروح فيقول الكاتب إنّها تنحاز إلى الفطرة لكونها منبع الصفات الجليلة التي يرضى عنها العقل وتقبلها النفس.
وأما النفس فهي مُرتبطة بالحس المرهف والجمال في علاقتها بالخالق والمخلوقات. في حين أنَّ العقل هو هادي الإنسان إلى الحق. وأخيراً الجسد يبذل الجهد ومشقة المجاهدة لحفظ هذه القيم وصونها. ولكون أنَّ هذه العناصر الأربعة يشترك فيها كل بشر، فإنَّ القيم تعتبر مشتركاً إنسانياً. فالعدالة والحرية والحب كلها قيم إنسانية لا تختص بقوم دون غيرها. وما يحصل من تغيير في الزمن لا يمس هذه القيم ولكن يمس تفسيرات هذه القيم ومنطلقات تفعيلها.
التدافع الحضاري وأثره على القيم
يقول الكاتب إنَّ التدافع والتثاقف الحضاري أساسه هو رعاية القيم الإنسانية باعتبارها روح ثقافة المجتمعات. وتختلف أنماط هذا التدافع فمن أشكاله: التدافع السياسي والاقتصادي والعسكري. أما دوافعه نحو القيم فهي إما أن تكون في سبيل ترسيخها أو رد الاعتبار لها. ومع مرور الزمن فإنَّ التدافع الحضاري أخذ صور أكثر تعقيداً من الأساليب البدائية المتمثلة في الحروب، ودخلت وسائل التواصل الإعلامية والتطور العلمي والتقني في فرض سيطرتها على مناحي الحياة والتأثير على القيم. وفي هذا يستشهد الكاتب بقول سيرج لاتوش: " إنَّ عمليات إدخال القيم الغربية وقيم العلم والتقنية والاقتصاد والتنمية والسيطرة على الطبيعة هي دعائم محو الثقافة ..."
القيم بين سندان العولمة ومطرقة الخصوصية
العولمة كما يراها الكاتب هي مركز جميع السلطات وليس فقط مركز السلطة السياسية. وهي تستخدم في الغالب القوة الناعمة في إحداث التغيير، وهذا ما يجعلها أكثر خطورة حيث تتسلل إلى حيوات الناس بشكل بطيء حتى يعتادوا عليها ويعتبروها جزءاً من واقعهم. ويرى الكاتب أنَّ هناك أربعة مداخل للعولمة:
1- مدخل العلم: الذي يتمثل في تقدم البحث العلمي وما يُقدمه من خدمات للإنسانية، والكاتب يرى أنّه قد يمس بالجانب الروحي والقيم الإنسانية النبيلة، ولكنه لا يذكر أي مثال على هذا الأمر. ويرى أنَّ البحث العلمي الغربي وما يشكله من أهمية في المجتمعات الغربية يتدخل في مناحٍ كثيرة قد تمس جوانب قيمية وروحية، وذكر أمثلة على هذا التدخل منها: كراء الأرحام والهاتف النقال. فالكاتب يرى أن تأجير الأرحام ستستخدمه الزوجات غير الراغبات في تحمل تبعات الحمل والأمومة. وهذه وجهة نظر غريبة حيث إنّ أساس البحث العلمي هو إيجاد حلول لمُشكلة قائمة ولم أسمع أنّ العلماء قد أفنوا جهدهم كي يمنحوا غير الراغبات في تحمل مشقة الحمل خياراً آخر أكثر سهولة ًويسراً، ولكن سمعت أنهم بحثوا واجتهدوا ليمنحوا النساء المحرومات من الأمومة أملاً في الإنجاب. أما إساءة استخدام هذا النتاج العلمي المُفيد فهي موجودة وأبرز مظاهرها كان في البلدان النامية الفقيرة، حيث نجد الكثير من نساء الغرب اللواتي يتأخرن في سن الزواج ولَم يعدن قادرات على الإنجاب يذهبن لدول كالهند لاستئجار الأرحام.
2- مدخل المال: يتجلى هذا المدخل في ما يُعرف بالخصخصة ويعتبرها الكاتب من أشد الخصوم لمنظومة القيم، ويعلل ذلك بأنّ ما يعرض فيها من منتجات مادية يؤثر على منظومة القيم والجوانب الروحية حسب تعبيره (وأظنه يقصد بهذا اللفظ الجانب الإيماني). تغير أسلوب المدخل المالي عن السابق فهو اليوم في ظل العولمة فلت من يد الساسة في توزيع ثرواته وهو اليوم يتبع سلطة السوق فقط؛ فأصبح الاستهلاك سمة لنمط العيش اليوم، وقد أثر بدوره على منظومة القيم. السوق أصبح المعبود الجديد، فله سلطة أشبه بالتأليهية جعلت المُفكرين يبتكرون مصطلحات اقتصادية من القاموس الديني ليتمكنوا من وصفها، فسماها جارودي مثلا "وحدانية السوق - monotheisme du marche ". ونلاحظ ذلك في تسيد شركات الدول العظمى وكيف أن بعضها تفوق مداخيله على دول كبيرة. مثال: General motors و Exxon شركتين أمريكيتين مدخولهما يفوق دولة الهند ذات المليار نسمة.
3- مدخل الإعلام: يعتبره الكاتب أخطر ما يهدد القيم الإنسانية لما يحمله من قدرة خارقة على نقل الأفكار عبر القارات ويعمل على مستويات حساسة تمس الجوانب النفسية والأسرية والاجتماعية. يرى الكاتب أنَّ الإعلام الغربي استطاع دس الكثير من السموم التي تتعارض مع القيم الإسلامية التي يراها.
4- مدخل القوة: وفيه يعتبر الكاتب أنّ القوة القسرية والإكراه في زمن العولمة ستطول بلا شك المنظومة القيمية وأوَّل المفاهيم التي سيطولها هو مفهوم الحرية واللاإكراه في المُعتقد. ويعتبر الكاتب أنَّ القوة مشروع فاشل لأنّه وإن نجح سوف يتمكن من تغيير القشور وليس من تغيير باطن الأمور وجوهرها. ومن مداخل استخدام القوة فرض مفاهيم الحرية وحقوق الإنسان على الدول حيث إن بعضها يتعارض مع ثقافة هذه المجتمعات.
مقاصد الشريعة والقيم الإنسانية
يرى الكاتب أنَّ الأمة الإسلامية عليها أن تستحضر كل قواها لمواجهة هذا التدافع الحضاري والمساهمة في تشكيله. وذلك عبر استحضار التوحيد الرباني والاستخلاف في الأرض والشهود الثقافي. ويرى الكاتب أن تفريغ أهل الذكر مهم في تطبيق هذه الخطة فهم المذكرون للمجتمع بالهداية التي تحملها رسالتهم وهم القادرون على القراءة الراشدة للمشهد العام وكيفية مجابهته.
للأسف لا يذكر الكاتب أي دور للعلم والنهوض الاقتصادي لمواجهة خطر التدافع الحضاري الذي يراه. على الرغم من أن القوة السياسية والاقتصادية هي المحرك لأي تدافع حضاري في أي زمان ومكان. فهل كنّا لنفتح البلدان ونعمم ثقافتنا عليها لولا حنكة المال وقوة الإيمان. ثم إن كانت القيم إنسانية وإن كنُّا في مركب واحد كما قال فكيف لا نغرق وكل فئة تحاول تغليب الحق لديها على غيرها.
