هند الحضرمية
ظلال التاريخ وآثاره تبقى متجسدة على ملامح المُدن التي كان لها وزن له ثقله الكبير، وهنا سوف نلقي الضوء على أحد هذه المدن التي تداولت عليها الكثير من الحضارات الإنسانية وهي مدينة "بنزرت" التونسية، هذا التعاقب الحضاري طبع على المدينة لونًا مميزاً وقد تطرقت مديحة الجلاصي – باحثة تونسية – لهذا في مقالها المعنون بـ "مدينة بنزرت الإسلامية: الفسيفساء الحضارية ".
وإذا أردنا أن نتطرق لذكر أي مدينة بهذا الثقل لابد أن نشير بدايةً إلى الموقع الجغرافي الذي بدون شك يعد العامل الأساسي في إكساب المدينة أهميتها، إذ تقع مدينة بنزرت في أقصى شمال تونس، وتعد أقصى نقطة شمالية في كامل القارة الأفريقية، وكما ذكرت مديحه تقع بنزرت على الطريق التي تربط الجهة الشرقية بالجهة الغربية للبحر الأبيض المتوسط، الأمر الذي جعلها موقعا متميزا لمراقبة قواعد صقلية والمراكب التي كانت تعبر مضيقها عبر المحيط الأطلسي، كما مكنها هذا الموقع من تنشيط حركة الملاحة مع موانئ مهمة في المحيط الأطلسي مثل عنّابة في الجزائر ومرسيليا في فرنسا وبعض الموانئ في إيطاليا.
ومثل معظم المدن التاريخية كان لمدينة بنزرت الكثير من الأسماء التي تعاقبت عليها بتعاقب الحضارات، فهي "هيبو زاريتوس لدى اليونانيين، وبالفينيقية هيبو أكرا، وأطلق عليها يوليوس قيصر هيبو ديارتوس..وغيرها من المسميات" غير أن الرابط الذي جمع هذه الأسماء هو أنها تشير إلى المورد المائي الذي كانت تتمتع به بنزرت باعتبارها مدينة محاطة بالبحر الذي يتصل ببحر بنزرت وبحيرة قرعة، هذا بالإضافة إلى منسوب مياه الأمطار سنويا، بالإضافة إلى وفرة المياه الجوفية التي أدت إلى انتشار الآبار والعيون. وبحسب ما ذكرت مديحة فإن المساحة المائية لمدينة بنزرت تبلغ ثماني عشرة مرة ضعف مرسى جبل طارق، ونصف مرسى بيرل هاربر.
ولا يمكن لمدينة بهذا الموقع الإستراتيجي وبهذه الثروات الطبيعية أن تغيب عن الأنظار؛ لذا كانت ملتقى للحضارات التي قامت على البحر الأبيض المتوسط لأكثر من ثلاثين قرناً، ورغم التغيرات التي طرأت على ملامح هذه المدينة عبر القرون إلا أنها ما تزال تحمل الكثير من المعالم الأثرية التي بقيت لتشهد على عراقتها.
ولعل هذا الحديث كله يقودنا إلى نقطة محورية مهمة حول تاريخ هذه المدينة، رغم اختلاف المؤرخين في تحديد الفترة التي تم فيها تأسيس المدينة، فمنهم من يرى أن تاريخ تأسيسها يرجع إلى 1200 قبل الميلاد، في حين أرجعها البعض إلى القرنين التاسع والثامن قبل الميلاد حيث كانت تسمى "هيبو أكرا". وترى مديحة أن بالإمكان تجاوز هذا الاختلاف من خلال تقسيم المنطقة إلى ثلاث مراحل تاريخية وهي:
المرحلة الأولى: من العصور القديمة إلى حين ظهور الإسلام في المدينة
أبرز ما يمكن ذكره في هذه المرحلة هي "الحملة التي قام بها القائد الصقلي أغاطوكل على قرطاجنة والذي تولى أثناءها غزو هيبو بعد أن أبدت ولاءها لقرطاجنة أثناء الحروب البونية، وبانتصاره ضرب حصارًا على المدينة عنوة بعد مقاومة مستميتة دامت بضعة أشهر وجعل منها قاعدة للعمليات الموجهة ضد قرطاج.
المرحلة الثانية: من ظهور الإسلام حتى وصول العثمانيين للحكم
دخل الإسلام في المدينة بعد أن فتحها القائد العربي معاوية بن حديج سنة 41 للهجرة ولكن سرعان ما استرجع الروم هذه المدينة، ثم تمّ فتحها نهائيًّا على يد حسان بن النعمان بعد سبع سنوات، ويُنسب إلى العرب التسمية الحالية للمدينة (بنزرت).
وقد أشارت مديحة إلى الفترة التي بقيت فيها مدينة بنزرت في عزلة عن الأحداث وذلك لسببين:
1- موقع المدينة: شكل عائقاً جغرافياً نظرًا لبعده عن مركز السلطة التي تمركزت في وسط البلاد تحديداً في القيروان، ثم فيما بعد عن العاصمة الفاطمية بالمهديّة.
2- خط التجارة: نشطت التجارة البرية والعلاقات بين الدول الإسلامية المتجاورة الأمر الذي غير من خطوط التجارة الساحلية الشمالية، واتجهت خطوط التجارة نحو الداخل وبهذا أصبحت بنزرت بعيدة عن النشاط التجاري.
ورغم هذا فقد أسهمت هذه العزلة في تحقيق الاستقرار الداخلي للمدينة وعم الازدهار والرخاء فيها.
الفترة الثانية: إمارة بني الورد (1050م-1159م)
لم يدم الاستقرار الذي نعمت به بنزرت طويلا، فرغم العزلة التي خلقها الموقع الجغرافي للمدينة إلا أنها تأثَرت بالأحداث السياسية التي طرأت في البلاد، ومن أهم هذه الأحداث "الزحف الهلالي الذي أرسل من الخلافة الفاطمية في مصر تأديبًا للعصيان الذي أعلنه حاكم المهدية بانفصاله التام عنها، وأدّى هجوم هذه القبائل إلى انحلال الحكم الصنهاجي، وتخريب البلاد وانتشار الفوضى، فانقسمت البلاد إلى دويلات منفصلة، حينها أقام أحد ملوك الطوائف - وهو القائد الورد اللخمي- ببنزَرت دولة بني الورد وقد دام حكم بني الورد حوالي قرن ونصف، واتسم بانتشار الاستقرار والأمن، حيث غدت المدينة بذلك في مأمن من غارات أهل البادية، وتمكنت -بفضل حصونها المتينة- من صد الهجمات والغارات التي كانت موجهة إليها."
الفترة الثالثة: الحكم الموحدي والمرادي (1152م-1236م)
وصل الموحدون للسلطة سنة 554 هـ وسيطروا على الدويلات التونسية، وبعد فترة عم الاضطراب والفوضى في البلاد نتيجة للفراغ السياسي الذي حدث بعد موت أحد ملوك الموحدين، فقام يحيى بن غانية وهو أحد المراديين بالاستيلاء على بنزرت والعديد من الثغور الساحليّة الإفريقية.
الفترة الرابعة: الحكم الحفصي (1228م-1574م)
عندما وصل الحفصيون للحكم نجحوا في وضع حدٍ للغارات المستمرة لذا عمّ الاستقرار، ولأن استتباب الأمن عامل مهم في جذب السكان فقد كثرت هجرات الأندلسيين إلى البلاد التونسية، وكان للجاليات الأندلسية دور في نشر الثقافة الدينية التي تقوم على الإصلاح في الأرض وتقديس العمل وضرورة إتقانه.
الفترة الخامسة: الحكم العثماني
كان لموقع البلاد التونسية دور في اتسام فترة الحكم العثماني بالرخاء الاقتصادي والعمراني. وقد ذكرت مديحة في مقالها بأن أحد أهم العوامل التي حققت الرخاء الاقتصادي هو تشجيع السلطة للقرصنة أو ما يسمى (الجهاد البحري)، لكن بعد صدور قرار مؤتمر (إكس شابل) سنة 1818م القاضي بمنع هذا النشاط كليًّا تدهورت أوضاع المدينة وانحدرت تدريجيا نحو الاستعمار.
المرحلة الثالثة: من الاستعمار الفرنسي إلى الاستقلال التام
ولأن مدينة بنزرت هي أقرب المدن الساحلية لفرنسا فقد كانت أول محطات الاستعمار الفرنسي الذي جاء إلى الدول العربية تحت قناع " نظام الحماية " ونزلت هذه القوات إلى المدينة بتاريخ 1 مايو 1881م وقد تمكن الفرنسيون خلال 75 سنة من نشر الثقافة الأوروبية المسيحيّة، فانتشرت الكنائس والمدارس الفرنسية إلى جانب تركيز مؤسساته العلمانية، واصطدموا في تلك الأثناء بمقاومة كبيرة فكريّة وعسكرية، إلى أن خرجت آخر القوات الفرنسية يوم 15 أكتوبر 1963م من المدينة.
وقد استعرضت مديحة بعد هذا العرض التاريخي للمدينة أهم المساجد الأثرية التي توجد في بنزرت والتي شكلت تمازجاً حضارياً للفن المعماري الهندسي، ومن بينها جامع القصبة الذي بني كما أشار بعض المؤرخين في فترة حكم بني الورد، وجامع الأندلسيين الذي ينسب إلى المهاجرين الأندلسيين الذين طُردوا من إسبانيا في القرن الخامس عشر.
