أم كلثوم الفارسي
يأخذنا البروفسور "هانز غاوبة" خلال مقاله الذي ناقش فيه الفنون الإسلامية والفنون الغربية في عرض سريع لتاريخ الفنون وعلائق الشرقي بالغربي عند المرحلة الحاسمة التي بدأت فيها الظروف تتغير بطريقةٍ راديكاليةٍ في العالمين العربي والإسلامي إذ إنّ لكلا الفنين نفس الأصول؛ فالفن الأوروبي الوسيط هو نتاج الكلاسيكية المُتأخرة والبحر المتوسط، وإلى حد أقل نتاج منطقة البحر الأسود. أما الفن الإسلامي فيجد جذوره في الفترة الكلاسيكية المتأخّرة على البحر المتوسط والمناطق المجاورة. وبسبب وحدة المصدر؛ فإنّ الفنين الشرقي والغربي توأمان. وهذه التوأمة لا تقتصر على الفنّ؛ بل تتناول الحضارة أيضاً؛ لأنّ الحضارتين لهما نفس الأصول.
وبالتَّعمق الفكري في مفهوم الفن نجد أنَّه قد يكون من الصعب على الباحث أن يقدم تعريفاً دقيقًا للفن؛ لسعة مجاله، وسرعة تطور حركته من جهة، ولتعدد المدارس الفنية من جهة أخرى. ولكن لابد من محاولة إعطاء تعريف يُجلي حقيقة الفن ويقرب فهمه إلى ذهن القارئ فالفن تعبير عن الجمال يمتاز بالتنظيم والتوازن المُحكمين، وهذا التعبير يمثل استجابة وتجسيدًا من الفنان لما ينفعل به انفعالاً وجدانياً عميقاً، فالفن على رأي الفيلسوف جود: هو النافذة التي يمكن أن نطل منها على حقيقة الجمال وهذا ليس تعريفاً لحقيقة الفن، وإنما هو بيان لوظيفته. وهو على رأي محمد قطب: محاولة البشر لتصوير حقائق الوجود وإنعكاسها في نفوسهم في صورة موجبة وجميلة. ولكن الفن أوسع مجالاً من تعريف محمد قطب؛ لأنّه لا يقتصر على تصوير حقائق الوجود فحسب، بل يتعدى ذلك إلى تجسيد انفعالات الفنان نفسه، والتعبير عن مشاعره وتصوراته وأحاسيسه، سواء أكانت صدى لحقائق الوجود، أم تعبيرا عن رؤى خيالية تجول في ذهن الفنان، وليس لها أيّ وجود في الخارج فالفنُّ هو نشاطٌ إنسانيُّ واعٍ، الغرضُ من ورائه تشكيل المحيط بطرائق جمالية ناطقة.
فالسؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقام ما دامت هذه حقيقة الفن وذلك جوهره؛ فهل من الحقيقة أن يُحارب الإسلام الفن أو يُعاديه؟ وللإجابة على هذا التساؤل نستعرض لمحة تاريخية عن الفنون الإسلامية وتأثرها بالفنون الغربية فليس هنالك أقوى حجة من التاريخ ليجيبنا على مثل هذه التساؤلات فكما ذكر البروفسور "هانز غاوبه" في مقاله أنّه وبعد القرن الثامن عشر سيطر الغرب الأوروبي على العالم، وفرض ثقافته وأذواقه ومشاربه وفنونه. بل وظهرت رسومُ (المستشرقين) التي تُعطي الشرق أبعاداً فانتازية وشهوانية تفتن أولئك الآتين من الغرب. وفي حين تأثر المسلمون بالكثير من ذلك وقلَّدوه؛ إلا أنه ظهرت بينهم أيضاً حركات أصالة تبحث عن هويةٍ جديدةٍ وناهضةٍ بعيداً عن التقليدية الكلاسيكية وعن تقليد الغرب. وفي القرن العشرين، انتشرت الصيحات الفنية الغربية الجديدة في الفنون مثل - الروكوكو، والكلاسيكية الجديدة والانطباعية والتعبيرية والتكعيبية وهذه جميعاً حركات للفن التجريدي، الذي يذكّرنا بالتجريد - الذي قوي أيام الصفويين والتيموريين. حيث جاء المسلمون إلى الشام ووجدوا الكنائس مليئةً بالتزيينات والصور التي تُقدّسُها العامة، وهذا يُخالف التوحيد الإسلامي مخالفةً صارمة. وربما أدى ذلك إلى صدور الأمر من الخليفة يزيد الثاني بمنع التصاوير. وربما قام المُسلمون بالنيل من الصُوَر في الكنائس أيضاً. والدليل على أنّ هذا المنع كان قاصراً على المباني الدينية أننا نجد في مباني الأُمويين غير الدينية رسوماً وتصاوير. وأقدم المباني المعروفة مبنى (قُصير عمرة) الذي كان حمّاماً، وفيه قاعة استقبال. وعلى حيطان القاعة هناك رسومٌ لعُمال البناء ولأشخاصٍ آخرين. وعلى الحائط أيضاً هناك صورة للخليفة جالساً وعلى يساره أربعة ملوك هم الذين أخضعهم!.
بيد أنّ الفن الإسلامي لا يُمكن مقارنتُهُ بالفنون الغربية أو قياسه عليها بشكلٍ سطحي. فللفن الإسلامي قواعده ومجالاته، وهو يشمل كل مجالات الفن، بما في ذلك مجال التصوير. ولأنَّ الإسلام دين الفطرة السليمة التي تنجذب إلى الكون متناغمة معه، وإلى الوجود مستأنسة به، مستبطنة كل معاني الجمال، جامعة لجميع أشتاته في الكون والنفس، مؤلفة من ذلك نسقاً متجانساً، يتواءم مع الوجود الذي أبدعه الباري جلَّ وعلا. فالإسلام لا يُحارب الفن ولا يُعادي الجمال؛ لأنه -الإسلام- الدين الحق الذي أنزله خالق الكون ومصوره، وقد بلغ الإسلام المُنتهى في الكمال، وتجاوز المدى في الحسن، وبلغ نهاية الإعجاز في الجمال، شكلا وجوهرًا. وقد أشاد الإسلام بالجمال ونوه به في مواضع مُتعددة من القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة، فقد استنتج الفيلسوف روجيه جارودي أنَّ العامل المُحرك للفن الإسلامي هو المسجد وفن عمارته، ثم قال مقولته الرائعة: ""إن الفنون في الإسلام تفضي إلى المسجد، والمسجد يفضي إلى الصلاة"". وهذا يعني أنَّ الفن الإسلامي يجذب الإنسان جذبًا إلى الله تعالى، فيتوق إلى عبادته ويستلذ مناجاته؛ رغبة في التخلص من كل عبودية لسواه.
ولذا فإنّ الذهاب إلى أنّ التصوير مُحرَّمٌ في الإسلام يقف على أقدامٍ قصيرةٍ ومزعزعة. وليس في القرآن والحديث ما يُفيد على القطع بحرمة التصوير. وفي الآيات القرآنية هناك تحريمٌ لعبادة الأصنام والأوثان وليس للتصوير.
والجدير بالذكر أنَّ الفن الإسلامي لم يكن نتاج تمرد على العقيدة الإسلامية - كما يزعم بعض المغرضين – وإن الكلام حول تمرد الفنان المسلم على أوامر الإسلام، ومزاولة الفن رغم حظر الشريعة للاشتغال به، من خلال ابتكار فن جديد، فيه شيء من الاستقلالية مرده إلى التَّمرد على شريعة الإسلام. هذا كلام ساقط لا قيمة له، وليس لقائله سُلطان شرعي ولا دليل تاريخي أو حجة عقلية، أو سند فني، فالحقيقة أنَّ الفنان المسلم لما حرم الإسلام عليه بعض صيغ التعبير الفني -لما فيها من مخالفة للعقيدة الإسلامية والآداب الشرعية- استجاب لأمر الله أولاً، ثم بحث عن صيغ جديدة للتعبير الفني لا تصادم الشريعة، فأبدع فناً إسلامياً يستنير بشريعة الإسلام ويلتزم بعقيدته، له مميزات علمية دقيقة، وخصائص فنية جميلة، يقول روجيه جارودي: إن جمالية الفن الإسلامي لا تعتبر مطلقاً حيلاً للالتفاف على محرمات القرآن والحديث، بل تعبيراً عن رؤيا نابعة من العقيدة الإسلامية.
ولا يخفى على أي باحث البون الشاسع بين التمرد على العقيدة الإسلامية وبين استلهام روحها لذا فإنّ للفن الإسلامي أشكالا كثيرة، وصورا عديدة، جاءت ملبية لرغبات المسلم الجمالية والروحية، ومؤسسة لفن إسلامي أصيل يتناغم مع حاجات العصر، ويتفق مع الفطرة الإنسانية السليمة ويملأ الإحساس والوجدان بمحبة الله.
