العلم والأخلاق وضرورة الاتفاق

محمد بن علي الكمزاري

قال العالم الألماني (بلانك) إننا معشر العلماء، نخطو خطوات عملاق على أرض صلبة، لكننا لا نعرف كم تميد الأرض تحت أقدام الآخرين. إنَّ ما نراه في الواقع هو أنَّ الناس يزدادون شراسة واستسلاماً للغرائز، كلما زدناهم معرفة. فمما لا يُمكن تجاهله أننا على أعتاب فرض واقع أخلاقي جديد. فما من عصر برزت فيه مشكلة الأخلاق والعلم مثل الذي نعيش فيه الآن. فقد أصبح باستطاعة الإنسان العادي الذي نال قسطاً بسيطاً من المعرفة أن يتساءل عن علاقة الاختراعات العلمية الحديثة والتقدم المدهش بمصير الحياة الإنسانية وما يؤمن به البشر من مُعتقدات توجه سلوكهم في الحياة. فعلى الرغم من أنَّ مشاغل الحياة اليومية، وضوضاء الأحداث السياسية، تصرف الإنسان المُعاصر عن التأملات النظرية التي كانت تتاح للقدامى، فإن تفكير الإنسان بمصيره قد أصبح من الأمور اليومية في عصرنا الحديث، وذلك بسبب المتناقضات الغريبة التي حملتها المدنية الحديثة إلى المُجتمعات البشرية وفي طليعتها الانهيار الأخلاقي وتحلل الشخصية الإنسانية وتقهقرها أمام الآلية الطاغية التي تغلغلت في المؤسسات الاجتماعية والمُنظمات الاقتصادية.

من هنا ينطلق الأكاديمي المصري مجدي الجزيري في مقاله المعنون بـ "القيم الأخلاقية ونسيج الفكر الغربي المعاصر" الذي تناول فيه المسألة الأخلاقية في عالمنا المعاصر وضرورة انطلاقها من نسيج الواقع الذي تشتبك به توجهات الفلسفة الغربية المعاصرة بالفعل. وهكذا فإنَّ منهج التناول لا يتسنى بغير وصل المسألة الأخلاقية بأبرز القضايا المعاصرة ولعل أهمها العلم والتكنولوجيا والحرية والثقافة والحضارة والسياسة.

فمن المسلم به أنَّ العلم والأخلاق معاً من أهم ركائز المجتمعات وعناصر نهضة الأمم والشعوب، فالعلم يبني الأفراد والمجتمعات، ويسهّل لهم أمور حياتهم، والأخلاق تحصن الفرد، وتقوي المُجتمعات، وتحميها، فالعلاقة بين العلم والأخلاق علاقة تكاملية، فلا علم له أثرٌ طيبٌ بدون أخلاقٍ، ولا أخلاقَ صحيحة من غير علمٍ يبصّر ويرشد، فالعلم العين المبصرة للأخلاق والقيم، والأخلاق والقيم الوعاء الحافظ والراعي للعلم.

ومن المفروض أن تكون الأخلاق أحد المعايير الضابطة للنشاط العلمي تماماً كالمعايير القانونية والمالية والموارد البشرية، فالأخلاق تُحدد الاشتراطات المتعلقة بالنشاط العلمي مثل الأهداف والمجال الذي يتم البحث فيه. وطريقة تنفيذ النشاط العلمي.

فمن غير الممكن أن يقبل البحث العلمي الأخلاقي شراء أشخاص من عصابات الاتجار بالبشر من أجل القيام بالتجارب العلمية عليهم أو أن ينظم عملية بيع الأعضاء البشرية أو زراعتها بشكل غير قانوني، كما أنّه من غير الممكن أن يكون هناك عالَمٌ أخلاقي يقبل تصنيع سلاح مُدمر للبشرية أو لتنفيذ عمليات إرهابية.

والحقّ أن التقدم العلمي المُعاصر قد فرض مواجهات أخلاقية مع المتغيرات التي خلصت إليها الساحة العلمية، ولم يعد من الميسور إسقاط المواقف الأخلاقية والدعم الأخلاقي بل والديني تجاه المنجزات العلمية في عالمنا المعاصر. ولعل قضايا الإجهاض والاستنساخ ونقل وزراعة الأعضاء وما يسمى بإشكالية القتل الرحيم مثل قتل المرضى تخليصاً من الآلام المبرحة التي يعانون منها بعد إخفاق الطب في علاجهم أو قتل الأطفال المشوهين أو المُختلين عقلياً، كلّ هذه القضايا التي تثار بين الوقت والآخر، على الرغم من بُعدها العلمي، لكن بعدها الديني والأخلاقي لا يُمكن الاستعانة به، ومن هنا تتبدى دلالة المناقشات والمؤتمرات والندوات البحثية في تناول المشروعية الأخلاقية والدينية لمثل هذه المُتغيرات التي اتسمت بها الحياة العلمية، وهي متغيرات من شأنها أن تجعل حضور المسألة الأخلاقية في وقتنا الحاضر على نحو أكثر وضوحاً ودلالة مع كلّ تقدم جديد في مجال البحث العلمي أمراً ضرورياً لابد منه.

ولعلنا لو ألقينا نظرة عابرة على بيان أصحاب النزعة الإنسانية لوجدنا أنّهم منذ البداية يؤكّدون تمسكهم بالتَّكامل بين العلم والأخلاق من خلال الثقة الكاملة بأن الموجود البشري له من القوة والإمكانيات ما يجعله قادراً على حل مشكلاته بنجاح، وسبيله إلى ذلك عقله ومنطقه ومنهجه العلمي الذي يعمل على توسيع وتعميق معرفته بالكون، مع التطلع إلى قيم أخلاقية تحتوي كلّ القيم الإنسانية وتستهدف سعادة الإنسان وحريته وتقدمه الاقتصادي.

ولكن يبدو جلياً للمتأمل في واقع فكرنا العربي المعاصر أنَّ هناك بعضاً من تياراته تنطلق من فرضية القطيعة المطلقة بين العلم والفلسفة، وبين العلم والأخلاق، ولعل أبرزها تيار الفلسفة التحليلية وأصحاب الوضعية المنطقية الذي حدد مهمة الفلسفة في التحليل المنطقي للقضايا والعبارات وحدها. باعتبار قضايا العلم وحدها يمكن التحقق من صدقها أو كذبها بينما قضايا الفن والميتافيزيقا والأخلاق لا يمكن البرهنة عليها، إنها قضايا تخرج من نطاق العلم ولا تدعي شيئاً يمكن نقده أو إثباته، وهي أقرب إلى كونها مجرد تعبيرات عن مشاعر ذاتية خالصة، كما قال فنجشتين إنّ معظم القضايا والأسئلة التي كتبت عن موضوعات فلسفية ليست كاذبة فحسب ولكنها أيضاً عديمة المعنى.

ومع ذلك لا يمكننا تجاهل ما يستلزمه التقدم العلمي من متطلبات وشروط أخلاقية لا غنى عنها لكل مجتمع لعل أهمها حرية البحث العلمي ورعايته وتشجيع العاملين به وتحريره من كلّ العوائق التي تعوق انطلاقاته، فالتَّقدم العلمي يكرس مجموعة من القيم الأخلاقية التي لا غنى عنها لكل مُجتمع لعل أهمها الحرية والاستقلال والكرامة وإطلاق الطاقات الإبداعية الإنسانية وتحقيق الرفاهية والسلام والمُشاركة الفعالة في بناء الحضارة، والعلماء من ناحية أخرى عليهم التحلي بمجموعة من الخصائص الأخلاقية من أهمها التسامح والشجاعة البحثية التي تفرض عليهم قيودها أو توجهاتها أو شروطها، مع الإحساس بالمسؤولية المجتمعية تجاه المجتمع الإنساني الذي يعملون به.

ختاماً قد لا يختلف اثنان على ضرورة اتخاذ نظرية أخلاقية إلى الحضارة كما يرى آلبرت شفيتزر في فلسفته الحضارية، فالأعمال المبتكرة والفنية والعقلية والمادية لا تكشف عن آثارها الكاملة الحقيقية إلا إذا استندت في بقائها ونمائها إلى استعداد نفسي يكون أخلاقيًا حقًا. وقد يرى الفيلسوف أنَّ القيمة الوحيدة التي يمكن تناول الحضارة من خلالها تكمن في القيمة الدينية وحدها، وبالتالي ترتبط هذه القيمة بكلّ الدلالات الأخلاقية التي لا غنى عنها لتفهم العلم في العصر الحديث.

 

أخبار ذات صلة