مريم العدوية
ناقش الكاتب السوري ميشيل كيلو عبر مقاله المنشور في صفحات التَّسامح تحت عنوان: "من أجل عولمة إنسانية"! إمكانية توجيه آيديولوجية العولمة نحو الكينونة الإنسانية.
فبينما يجد البعض صعوبة في إحداث توازن بين كفتيّ العولمة والإنسانية؛ كون العولمة تساوي الرأسمالية التي هي الأخرى تقوم على نظم بعيدة عن الإنسانية، نجد أنَّ العولمة ماضية في مسارها مختطفة كل الأضواء نحو عالم جديد ومختلف، تختلف قواعده الثقافية والسياسية والاقتصادية ...إلخ عما كانت عليه؛ ليغدو عالمنا بطراز جديد بكل المقاييس.
يكبر هنا التساؤل حول مدى إمكانية أنسنة العولمة في ظل عالم متكالب يقوم على مبدأ البقاء للأقوى، وتتصاعد فيه المشاكل الإنسانية بسرعة هائلة كالفقر والمرض والجوع، دون أن يشير الزمن نحو حلول نهائية لهذه المشكلات.
تبدو من جهة أخرى أنسنة العولمة فكرة مقبولة بل وقدراً يُؤطر العالم بأسره حيثُ سقط النموذج الاشتراكي في محاولاته ليكون بديلاً للرأسمالية بينما سيطرت الأخيرة على الوضع. ويمكننا الآن الحديث بهذا الخصوص بجوانبه المختلفة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في إطار الرأسمالية المعولمة، التي تقوم على مبدأين هما:
الأول: يجعل لرأس المال الأولوية، مثل: الولايات المُتحدة
الثاني: ما يجعل العمل مقدماً على أولوية رأس المال والتي تعمل بها بعض المجتمعات الأوروبية.
وعن السبيل إلى أنسنة العولمة حاول الكاتب النظر إلى الأمر من جانب قيم عصر النهضة، التي يرى بأنها ينبغي أن تسود وأنها صالحة دائماً، رغم أن البعض يعتبرها غير صالحة الآن وبأن زمنها توقف، وأن قيماً أخرى ستحل محلها.
وفي هذا الجانب يرى الكاتب أولاً أن لاحترام القيم دورا كبيرا في أنسنة العولمة؛ حيثُ إنه من غير العدل أن يحظى قسم صغير من العالم بالتحضر والثراء بينما يقبع الجزء الأكبر في العوز والفقر والجوع والمرض، بل لا بد من أن يتكاتف العالم ويتلاحم ويمد يد العون للآخر لكي يسود الخير والتقدم.
فلقد أثبت يوم الحادي عشر من أيلول بأنّ العالم كل لا يمكن تجزئته، وبأن العولمة جعلت كل الحدود والمسافات تتقلص حتى بات أمن جزء من العالم يشكل أمن العالم بأسره، وهذ ما ينبغي أن يعيه العالم المتقدم ولا ينسى أجزاءه القابعة تحت طائلة التخلف والجهل ويأخذ بيدها نحو التحضر والتقدم.
وهذا الدور الذي تديره المؤسسات التابعة لهيئة الأمم المتحدة والتي تسعى إلى أن تأخذ بيد العالم خاصة في الدول الفقيرة نحو حياة أفضل في جميع المجالات سواء الثقافية أو السياسية أو الاقتصادية والصحية.
وهو ما من شأنه أخذ العالم نحو التقارب وتجسير الهوة الحادثة بين الدول المتقدمة وتلك المتأخرة في الركب، كما يمكن له أن يكفل ثالوث العدالة والحرية والتقدم للعالم بأسره.
إن هذا التطرق لأنسنة العولمة الاقتصادية يجر لنا موضوعاً آخر مرتبطا به ارتباطا كبيرًا وهو أنسنة العولمة السياسية، والتي من شأنها جعل كل موارد العالم مطية للتقدم الإنساني. وعندما يتحقق هذا الأمر فمن الممكن إذابة أسباب الصراع بين أجزاء العالم وبلدانه وذلك على أساس الاتفاقيات الموثقة بين بلدانه المختلفة.
كما تبرز هنا ضرورة بناء نظام إدارة وأمن شامل، تشارك فيه جميع الدول، يحل محل مجلس الأمن الدولي، أو يضفي طابعًا تشاركياً وديمقراطياً على عمله؛ ليحول بين الدول العظمى وبين استخدامه لتحقيق أغراض ومصالح قد تتعارض مع رغبات ومصالح بقية دول العالم.
وفيما لو تمَّ عمل مؤسسة تعنى بهذا تنبثق عن الأمم المتحدة فمن الممكن إيجاد حل لقضايا فلسطين والعراق على سبيل المثال. حيثُ يترتب على هذه المؤسسة المنبثقة عن الأمم المتحدة أن تستعين بالقيم التي اكتسبتها الإنسانية في السنوات الماضية؛ لتجعلها نصب عينيها ومنهجاً تمشي عليه، لكن للأسف البشرية لم تتوصل لهذا بعد.
ومن هذه القيم والأسس:
1. مبدأ عدم التدخل في شؤون الغير إلا بقرار دولي جامع
2.عدم استخدام القوة أو العنف لحل النزاعات بين الدول
3. عدم التخلي عن التفاوض والوسائل السلمية في العلاقات الدولية
4.إقامة علاقات الدول والأمم على الندية والمساواة في الحقوق والتضامن
5.نبذ ما من شأنه تعكير صفو العلاقات الدولية أو إثارة الصراعات بين الدول
وإنه لم الصعب التمسك بهذه الأسس ما لم يتم إعادة تهيئة المؤسسة المنبثقة عن الأمم المتحدة والمعنية بالأمر وصبغها بطابع العولمة الجديدة، التي تعيد مفهوم الديمقراطية والمواطنة؛ بحيث يصبح الإنسان مؤمناً بأنَّ العالم بيته الكبير بغض النظر عن انتماءاته وهويته الفردية.
وقد يبدو حلم _ أنسنة العولمة _ بعيد المنال؛ فهو يتطلب إعادة جدولة الدول الكبرى وأدوارها الحالية، فأنسنة العولمة تفرض إطارا من الديمقراطية مع بقاء الدول الكبرى والصغرى في الأرض المشتركة بالتنافس والعمل، ولكن من أجل الإنسان وتقدمه هذه المرة.
ولأنسنة العولمة مستلزمات ثقافية لا يُمكن تجاهلها ومنها:
1-الإيمان بوحدة الثقافة العالمية وتكامل أجزائها
2- التخلي عن أطروحات صراع الحضارات
وما يتبعهُ من صراع الحضارات الثلاث، التي صنعت واقع البشر:
أ. الغربية: اليهودية/المسيحية
ب. الشرقية: الشنتوية/البوذية
ج. الوسيطة: العربية/الإسلامية
التي يقال: إنها ستظل تتصارع إلى أن يتقرر مصير العالم النهائي.
ولكي تتمكن الثقافة من لعب دورها في مجال أنسنة العولمة فمن المهم أن تكون ثقافة إنسانية وأن تقوم على ما ابتكرته الفلسفة من النزعات الإنسانية بدءا من سقراط إلى اليوم. وهو ما يعني أنّ العولمة لن تتأنسن دون ثقافة ليبرالية وديموقراطية، كونية الطابع، عقلانية المضمون والنهج.
وفيما تبدو العولمة معادية للأنسنة إلا أنها ستدفع بالبشرية بنفسها نحو الأنسنة، فحين تجد البشرية بأن العولمة هي قدرها الذي لا مفر منه، سيتصاعد صوت المقهورين ليصم آذان المتجاهلين الذين يرفلون في النعيم.
ولذا فإنَّ عملية أنسنة العولمة لن تحدث بين ليلة وضحاها بل ستتطلب جهدا مضنياً من أقلية ستواجه الكثير وتحارب من أجل الوصول. أقلية تؤمن بأن الإنسان أنبل كائن في الوجود ومعيار لكل شيء كما قال برمنيدس أحد فلاسفة اليونان.
