لديريك روختوس
عبدالرحمن السليمان *
لا يزال الدور الذي تؤديه ألمانيا داخل أوروبا والاتحاد الأوروبي دورًا محوريًّا، يؤثر تأثيرًا مباشرًا على وضع السياسات في أوروبا عمومًا، والاتحاد الأوروبي خصوصًا. ولا تنفك دوائر تحليل السياسيات وخطاباتها تتابع عن كثب التطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في ألمانيا، خصوصًا تلك المتعلقة باستيعاب عدد كبير من اللاجئين. ولا تزال الكتب والدراسات التي تحاول استيعاب السياسة الألمانية، وسبر أغوارها، وتفسير ما استغلق منها، تصدر تباعًا. ومن هذه الكتب: "من الإمبراطورية إلى الجمهورية: نظرات في ألمانيا القديمة وألمانيا الحديثة"، لكاتبه الأستاذ الدكتور ديريك روختوس أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الألماني في جامعة لوفان في بلجيكا. يُعالج الكاتب في هذا الكتاب عددًا من المسائل السياسية والثقافية والاجتماعية الرئيسية في ألمانيا، والتي يتجاوز تأثيرها حدود ألمانيا ليشمل سائر دول الاتحاد الأوروبي، ويوظف في تحليله لتلك المسائل مقاربة يقارن فيها بين ألمانيا الإمبراطورية وألمانيا الجمهورية من جهة، ويخرج تلك المسائل المعالجة من سياقها الألماني ويضعها في سياق أوروبي أوسع من جهة أخرى.
ينطلقُ الكاتب من توصيفه للإعجاب الذي ميَّز نظرة العالم إلى "الرايخ" أو الإمبرطورية الألمانية إبان نشأتها في القرن الثامن عشر. يقول: "تعتبر القوة السياسية والاقتصادية التي ظهرت على الساحة ابتداء من سنة 1897 الأساس الذي بنيت عليه إمبرطورية ألمانية أعجب العالم بها وبفلسفتها وآدابها وعلومها وتكنولوجيتها المتطورة". إلى جانب هذا الإعجاب، أثار ظهور "الرايخ" أو الإمبرطورية الألمانية أيضًا شعورًا بالخوف والقلق في سائر دول أوروبا وممالكها آنذاك. لقد غيَّرت "الرايخ" معادلة القوى في القارة الأوروبية التي كانت تسيطر على العالم آنذاك؛ ذلك أنَّ القيصر ڤيلهلم الثاني (1859-1941) -وهو القيصر الألماني الذي زار القدس سنة 1889م تلبية لدعوة من السلطان العثماني عبدالحميد الثاني (1842-1918)، وزار ضريح صلاح الدين الأيوبي في دمشق وأهدى الضريح نعشًا من الرخام تقديرًا للملك الناصر- قد سعى في جعل ألمانيا قوة عالمية كبرى. "لقد كان هذا السعي لتحويل ألمانيا إلى قوة عظمى"، كما يذكر الكاتب، "من جملة الأسباب التي أدت إلى نشوب الحرب العالمية الأولى". ويرى أن ألمانيا دخلت في الحرب العالمية الأولى "من أجل تطوير حضارة عميقة بدلاً من الحضارة الفرنسية السطحية"، وكذلك "من أجل تحقيق حرية حقيقية بدلاً من الليبرالية ومن سائر الديمقراطيات الفارغة التي حققتها الدول الأوروبية الأخرى القوية وعلى الأخص ديمقراطية بريطانيا العظمى".
نشأت الجمهورية الألمانية بعدما وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها سنة 1918. لقد كانت الجمهورية الألمانية -أو "جمهورية وايمار" كما كان أعداؤها من محافظين وشيوعيين ونازيين يسمونها نسبة إلى مدينة وايمار التي كُتب دستور الجمهورية الألمانية فيها -"ديمقراطية بدون ديمقراطيين" كما يتهمهما أعداؤها. انتهت حقبة هذه الجمهورية سنة 1933 وقتما أصبح أدولف هتلر مستشارًا لألمانيا، وسقطت هذه الجمهورية "نتيجة للكراهية" كما يرى الكاتب: "كما أدت حروب هتلر التوسعية واضطهاده لليهود إلى القضاء على فكرة (الرايخ)" التي أطلقها النازيون بعد سقوط الجمهورية الألمانية، وحلّت محل ذلك كله ألمانيا الاتحادية التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية، وبالتحديد سنة 1949.
واليوم، بعدما فتحت ألمانيا المستشارة أنجلينا ميركل أبوابها لاستقبال أكثر من مليون لاجئ في مبادرة فاجأت أوروبا والغرب والعالم بـ"كرمها"، تتغير ألمانيا جذريًا، على مستوى الأحزاب السياسية وعلى المستوى الديموغرافي. ويرصد الكاتب في كتابه أن "تلون" ألمانيا وتنوعها الديموغرافي يصطدمان بمقاومة من ألمان يحنون إلى زمان (الرايخ) وفكرة الوطن المؤسس على القومية الألمانية. ولكن الواقع يشير إلى ألمانيا أصبحت واحدة من أكثر الديمقراطيات ثباتًا واستقرارًا في العالم. "فمن جهة يرى معظم الألمان أن فكرة الوطن المؤسسة على القومية عنصرية لأنها تسببت في نشوء النازية؛ ومن جهة أخرى يرون أن من حقهم أن يراهم العالم بصورة إيجابية" بعدما رآهم بصورة سلبية في الحرب العالمية الثانية. من ثمة نزعتهم "لتحسين العالم" والتعامل بإيجابية كبيرة مع أزمات العالم الكبيرة ومنها أزمة اللاجئين. وفي بحثه الدؤوب عن تفسير لإشكالية النزوع نحو القومية، يرى الكاتب أن الحل الوحيد يكمن في استكمال الاندماج في الاتحاد الأوروبي، وتعميقه. فكلما اندمجت ألمانيا في أوروبا أكثر، كلما تقلصت فكرة الدولة الوطنية القومية. إذن، لا يكمن الحل في "أوروبا ألمانية" كما يرى القوميون الألمان الجدد، بل في "ألمانيا أوروبية" كما كان أول مستشار لألمانيا الاتحادية كونراد أديناور (1876-1967) يرى في اندماج ألمانيا الاتحادية التي نشأت عقب الحرب العالمية الثانية في المجموعة الأوروبية. كان هذا الاندماج يسمى (Westbindung) ويعني في حقيقة الأمر -وكما كان يفهم منه في حينه- "دمج ألمانيا الخطرة في المجموعة الأوروبية، وتغليفها جيدا درءًا لخطرها"، كما ينص الكاتب. ويراد من هذه العملية، في نهاية المطاف، دمج ألمانيا في كيان أوروبي أكبر يتجاوز حدود الوطن المكانية والزمانية إلى ما هو أكبر منه-الاتحاد الأوروبي.
ويتوقَّف الكاتب البلجيكي في محطة مهمة من محطات الكتاب، ليقارن بين جمهورية ألمانيا الاتحادية ومملكة بلجيكا الفيدرالية. "لقد كانت "الرايخ" أو الإمبرطورية الألمانية تتكون من خمس وعشرين ولاية أو مقاطعة. اثنتان وعشرون من هذه الولايات كانت ملكية، وثلاث منها جمهورية". أمَّا اليوم، فتتكون ألمانيا الاتحادية من ست عشرة ولاية تتحد مع بعضها لتكون معا ألمانيا الاتحادية. وهذه المقارنة ليست عرضية، لأن مملكة بلجيكا تتكون من ثلاث مقاطعات هي مقاطعة والونيا الناطقة بالفرنسية (ثلاثة ملايين ونصف المليون نسمة)، ومقاطعة الفلمنك الناطقة بالهولندية (سبعة ملايين نسمة ونيف) ومقاطعة أوبن الصغيرة الناطقة بالألمانية (تسعة عشر ألف نسمة). ويختلف البلجيكيون في نظرتهم إلى النظام الملكي في بلجيكا، ففي حين يفضل معظم الوالونيين الناطقين بالفرنسية النظام الملكي ويعتبرون ملك بلجيكا رمزًا لوحدة البلد، يفضل الفلمنكيون الناطقون بالهولندية النظام الجمهوري، ويطالب القوميون منهم بإلغاء الملكية كليًّا. ويرى الكاتب الذي ينتمي إلى الحزب القومي الفلمنكي أن الفيدرالية الألمانية التي تضم ولايات لبعضها نظام ملكي ولبعضها الآخر نظام جمهوري أنموذج صالح لبلجيكا، ويوحي بمقارنته هذه بأن مقاطعة والونيا قد تتحول إلى مملكة وأن مقاطعة الفلمنك قد تصبح جمهورية وأن المقاطعتين، إضافة إلى مقاطعة أوبن الصغيرة تكون معًا مملكة بلجيكا، وتصبح وظيفة الملك البلجيكي في مملكة اتحادية كهذه رمزية تقتصر على المراسيم والأعياد. وهذا -أي تجريد ملك بلجيكا من صلاحياته الواسعة- مطلب قديم من مطالب القوميين الفلمنكيين الذين يرون في صلاحيات الملك الدستورية وفي نفوذه السياسي عقبة في سبيل تحول مقاطعتهم إلى جمهورية. وعليه، فإنَّ الكاتب يقترح بمقارنته هذه تحويل مقاطعة الفلمنك إلى جمهورية داخل مملكة بلجيكا، والإبقاء على ملكها رمزًا لوحدة البلد ولكن بدون سلطات فعلية -كما هي الحال عليه في ألمانيا القوية والمزدهرة؛ حيث تقتصر صلاحيات الرئيس فيها على المراسيم والمناسبات الوطنية.
ثم يتطرَّق الكتاب إلى قضية المهاجرين واللاجئين التي طالما أصبحت تأخذ حيزًا كبيرًا من اهتمام المحللين والمراقبين والسياسيين والمواطنين على السواء، ويذكِّر القراء بأن "ألمانيا الاتحادية بُنِيَت بعد الحرب العالمية الثانية بعرق ملايين اللاجئين والمطرودين من المناطق الألمانية التي خسرتها ألمانيا في الحرب العالمية الثانية"، وكذلك -وابتداء من الستينيات من القرن الماضي- "بعرق ملايين العمال الأجانب خصوصا الأتراك منهم". لقد أدى مجيء مهاجرين من خارج أوروبا إلى ألمانيا إلى نشوء مجتمعات متعددة الثقافات. ويرى الكاتب أنه في بعض الأحيان يستحيل تعدد الثقافات هذا إلى نشوء مجتمعات متوازية تعيش إلى جانب بعضها بعض بدلاً من أن تعيش مع بعضها بعض. وفي الحقيقة، يَرَى الكاتب ومعه جميع المراقبين أنَّ نظرة الألمانيين إلى هذه الظاهرة تتمحور اليوم خلف وجهتي نظر اثنتين واحدة تقدمية تتسامح مع ظاهرة التكتلات الثقافية داخل المجتمع، وأخرى محافظة تنتقد هذه الظاهرة على الدوام. وعلى الرَّغم من غالبية الألمان يفهمون عبارة المستشارة الألمانية أنجلينا ميركل (wir schaffen das)، التي أطلقتها في بداية استقبال ألمانيا للاجئين، على أنها تعني "بمقدورنا استيعاب اللاجئين ودمجهم في المجتمع الألماني"، فإنَّ ثمة أقلية ألمانية تفهمها كالتالي (wir schaffen Deutschland ab) "نلغي ألمانيا". وهذه العبارة الأخيرة إشارة إلى عنوان كتاب لأحد محافظي بلديات برلين الذي صدر مؤخرًا بعنوان (Deutschland schafft sich ab) "ألمانيا تلغي نفسها" أي تفكك وتدمر نفسها. ويَرَى الكاتب أنَّ تيارًا ألمانيا قوميا يحن إلى زمن "الرايخ" يتساءل: كيف ستغير ثقافة الترحيب باللاجئين هذه وجه ألمانيا ووجه أوروبا معها، خصوصًا بعدما تركت أوروبا زمام المبادرة لألمانيا فيما يتعلق بقضية اللاجئين؟ ويَرَى الكاتب أيضًا أنَّ أنجلينا ميركل -التي منحتها أهم جامعتين بلجيكيتين؛ هما: جامعة لوفان وجامعة غاند الدكتوراه الفخرية، بتاريخ 12 يناير 2017، تقديراً لجهودها الكبيرة في تحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي في أوروبا، وكذلك عن موقفها من أزمة اللاجئين- تواجه في ألمانيا انتقادًا من المحافظين الذين يرون في هجرة أعداد كبيرة من المسلمين إلى ألمانيا تهديدًا للهوية الألمانية التي يدعون إلى الحفاظ عليها ودمج ألمانيا في أوروبا مسيحية.
وقد تكون أزمة اللاجئين، كما يراها الكثيرون، موجة من موجات حركة الرحيل البشري الكبير الذي بدأ في النصف الثاني للقرن التاسع عشر، والذي كان يرى في القارة الأمريكية وجهة نهائية له. يتوقع الكاتب أن هذا التنقل البشري الكبير سيدوم قرنًا من الزمان على الأقل. وعليه فإن الحديث عن التنوع الإثني والثقافي داخل المجتمعات الأوروبية سيطول وسيطرح فكرة الدولة المؤسسة على أسس قومية من جديد. وهذا الطرح مرتبط بطرح آخر هو مستقبل الاتحاد الأوروبي. ففي حين يرى الكاتب أن الاتحاد الأوروبي مؤسس على أقاليم أوروبية، نشهد اليوم نشوء دول قومية داخل الاتحاد الأوروبي تقف بمواجهة الأقاليم. في هذا السياق يرى الكاتب أن أوروبا ذات الأقاليم -إن صح التعبير- لم تعد حلًّا مناسبًا لتحديات اليوم، فهو يؤمن بأوروبا ذات دول وطنية قومية قوية. وبإسقاط هذا الكلام على ألمانيا التي تؤدي دورًا أساسيًا في الاتحاد الأوروبي، يستخلص الكاتب أن ألمانيا القومية ذات الهوية الواحدة أفضل من ألمانيا الاتحادية ذات الأقاليم المختلفة، وأفيد منها للقارة العجوز.
الدولة القومية بديلاً عن الدول الاتحادية؟ للإجابة عن هذا السؤال يُستحضر أن النظرية القومية تتأسس على واحد من ثلاثة أسس؛ هي: 1-العرق (كالقومية الألمانية النازية ونظام الفصل العنصري السابق في جنوب إفريقيا). 2- اللغة والثقافة (كالقومية العربية والقومية التركية والقومية الفلمنكية في بلجيكا). 3- الدين (كالقومية الإيرلندية المؤسسة على الديانة المسيحية الكاثوليكية، والقومية الصربية المؤسسة على الديانة المسيحية الأرثوذكسية). وتنفرد الصهيونية بصفتها حركة قومية مؤسسة على العرق اليهودي -مهما كان تعريفه- والدين (الديانة اليهودية) معًا. وغني عن القول أنَّ القومية المؤسسة على اللغة والثقافة تتيح مجالاً واسعا لاندماج مجموعات كثيرة من المهاجرين واللاجئين في المجتمع الألماني ومن ورائه المجتمعات الأوروبية. كما تتيح المظلة الأوروبية -وهذا هو الأهم بالنسبة للكثيرين من الأوروبيين- مجالاً واسعًا للغات المجموعات والشعوب الأوروبية الصغيرة (كالأقلية الكتالانية والباسكية والشعب الإسكوتلندي وغيره)، وثقافاتها المحلية كي تحتفظ بتلك اللغات وتلك الثقافات وتطورها، فتندمج في المجموعة الأوروبية بالاحتفاظ بهويتها الوطنية بدلاً من انصهارها كليًّا في البوتقة الأوروبية كما يرى الكاتب. وهذا هو رهان الغالبية العظمى من المواطنين الألمان، ومن ورائهم مواطني غرب أوروبا، لأن أوروبا ليست بمعزل عما يجري في ألمانيا. وهذا أيضًا رهان القوميين الذين يؤسسون قوميتهم على اللغة والثقافة خصوصًا إذا كان يقف اقتصاد قوي خلف لغة ما وثقافتها، مهما كان عدد المتحدثين بها قليلاً. فهذه اللغة الهولندية التي يتحدث بها ثلاثة وعشرون مليون شخص (منهم سبعة ملايين ونيف في بلجيكا)، والباقي في هولندا وبعض مستعمراتها السابقة، حاضرة بقوة في المحتوى الرقمي، وتسبق العربية في المحتوى الرقمي بأشواط كثيرة؛ لأنَّ وراءها اقتصادًا قويًّا يدعم حضورها وانتشارها خارج الحدود عبر المحتوى الرقمي؛ فالثقافة لا تعرف الحدود السياسية التي تفصل الأقاليم والدول عن بعضها، وتتجاوزها لتتفاعل مع ما يوجد خلف الحدود المكانية أو الحدود الافتراضية. وهذا رهان ألمانيا أيضًا حسب الكتاب.
------------------------------
- الكتاب: "من الإمبراطورية إلى الجمهورية: نظرات في ألمانيا القديمة وألمانيا الحديثة".
- المؤلف: ديريك روختوس.
- الناشر: منشورات دوربراك، بلجيكا، 2016م، باللغة الهولندية.
- عدد الصفحات: 208 صفحات.
* أستاذ الترجمة بجامعة لوفان، ورئيس المجموعة البحثية "تكنولوجيا الترجمة" - بلجيكا
