ثمة مخطئون في الانترنت: دراسات علمية في مسائل جدلية

Picture1.png

لآسيا كازانتسيفا

*فيكتوريا زاريتوفسكايا

تشهد الصحافة العلمية تطورا ملحوظا في وقتنا الراهن، وأصبحت المجلات العلمية تزاحم الدوريات الأدبية وسواها من المنشورات الورقية. وتدريجيا أخذ القرآء يعتادون على الصحافة العلمية وأصبحت لها شعبية متزايدة لا سيما في المدن والمراكز الحضرية، فخصصت لها المحاضرات وحظيت باهتمام البرامج التلفزيونية كما تقام لها المهرجانات الترويجية. وفي المتاحف يتم الترويج لها من خلال البرامج التفاعلية مع الجمهور والفعاليات المخصصة للأطفال، كما بدأت الجامعات بإنشاء أقسام تعليمية يتخرج منها الطلبة بمسمى "صحفي علمي".

وفي أوساط صحافة العلوم، وبين الصحفيين العلميين (أي أولئك الذين يكسبون معاشهم من كتابة المقالات الصحفية عن العلوم باختلافها وفي مقدمتها الطب) تتعايش وتتنافس مقاربتان اثنتان لكل منهما طريقته وصياغته الخاصة لمعالجة المعلومات ألا وهما صحافة الدراسات وصحافة الخبر. ولتوصيف كل من هذين المجالين ومن يعمل فيهما، نجد أن العاملين تحت مظلة صحافة الدراسات غير معنيين بالاحتكاك المباشر بالجمهور ولا يظهرون في أماكن الأحداث والوقائع، وجل عملهم يتركز على قراءة المنشورات العلمية، وغالبيتها من المجلات الطبية، ليصيغوا منها بعدئذ مقالاتهم المُبّسطة. وهذا على العكس من صحافة الخبر، فهناك لا يهتم الصحفي بالمقالات العلمية، ونادرا ما تستوجبه طبيعة عمله قراءتها، فأساس عمله يكمن في تسقّط الأخبار من مصادرها، فتراه يبحث عن هذا الطبيب أو ذاك العالم ليأخذ تصريحا مباشرا منه؛ وبهذا الإجراء، أي الإتيان بالمعلومة من مصدرها، يصيغ الصحفي خبره، غير عابئ بعدها إن كان الخبر مؤكدا أم أنه ضرب من المبالغة والترويج. ولا يهتم صحفي الخبر إن كانت المعلومة العلمية التي تحصّل عليها مستوفية للشروط المختبرية أو الإجرائية وهل تم الإجماع على صحتها في الأوساط العلمية. كل ذلك لا يدخل في إطار عمله، المهم أنها جاءت من المصدر وكأن الحقيقة، كل الحقيقة، تكمن في هذه الجزئية وحسب! علما بأن هذه الفئة من الصحفيين "العلميين" عادة ما تعوزهم المعرفة الكافية في المجالات العلمية التي يدبجون حولها أخبارهم، فيكتفون منها بما يساعدهم على إكمال أعمالهم (أو ما يظنونه اكتمالا) ليس إلا.

تمثل الكاتبة الروسية آسيا كازانتسيفا صحافة الدراسات العلمية بامتياز، ولها باع طويل في هذا المجال، كما حازت جائزة "التنويري" الروسية للدراسات العلمية عام 2014 عن كتابها "من توقع هذا؟ كيف يدفعنا العقل إلى ارتكاب الأخطاء". تقول كازانتسيفا عن مقصدها لتأليف الكتاب الذي بين أيدينا: "ثمة أشياء قليلة جدا أستطيع الوثوق بها من دون تقصي مصادرها، ومن بينها ثقتي بأن الاعتياد على النشاط الذهني كفيل بتغيير أدمغتنا وتوجيه أفكارنا الجهة الصحيحة. إن الإبقاء على الذهن متقدا ونشطا يعد مولِّدا أساسيا للشبكات العصبية في الدماغ، والتي يندر بوجودها أن يكون الشخص غبيا، شرسا أو كئيبا، أو أن يقع ضحية الملل أو فريسة للخوف. ويمدنا النشاط الذهني برؤية واسعة عن العالم المحيط، رؤية قوامها الأمن والمتعة. إن الفرد الذي أدخل ضمن عاداته العمل باستقلالية والاعتماد على المراجع يبقى في مأمن من خطر التلاعبات الشائعة، أكانت ابتزازا عاطفيا أو دعاية سياسية، كما يمده ذلك بالثقة ويحصنه من القلق تجاه السيل العارم من المعلومات فهو قادر على هيكلة الأشياء المُشتتة: يحدد جوانبها المعروفة ويقارن الحقائق المتفرقة بنماذجها الأصلية، وعليه تصبح الحياة أكثر أمنا. إن قراءة المقالات والدراسات العلمية تتيح فرصة كبيرة للتقييم الموضوعي لمختلف التحديات التي تواجه الإنسان. كما يجعل الاستيعاب المتواصل للمعلومات العلمية من الإنسان، شخصا أكثر سعادة، حيث تتسع مداركه تجاه الحياة والزمن الذي يعيشه وتنمو أحاسيسه وتفاعلاته مع التقدم التكنولوجي الهائل" (ص 328).

 تضع المؤلفة نصب عينيها ثلاثة أهداف كبرى: الهدف الأول مناقشة السبب الذي يجعلنا ضحية الغرق في بحر المعلومات المتلاطم وكيفية حدوث ذلك. ويرتكز الهدف الثاني على إحاطة القارئ بالحقائق القارة في العلم وتوضيح ما أثاره بعضها من جدل. ثالث الأهداف ينصب على تقديم الإرشادات لمعالجة آلات البحث في الانترنت وتوفير آلية التعامل مع الفوضى المعلوماتية.

  ورد في مقدمة الكتاب تقييم نقدي لخصائص استيعابنا للمعطيات العلمية والطبية. وفيها (المقدمة) تصف الكاتبة طبيعة العوامل النفسية والاجتماعية لدى الأفراد وكيفية عملها في الوعي الجمعي كالتفريق الغريزي بين الخير والشر، وسُلطة المُثُل العليا على أفراد المجتمع، والإحساس الفطري بلحمة الفرد بالجماعة التي ينتمي إليها وبالتالي القبول، أو الرضوخ، لمنطقها، صائبا كان منطقها أو معوجّا وغير ذلك من القوانين الاجتماعية التي كفلت الرابطة المجتمعية وعززت الجانب النفسي لفكرة الجماعة. اليوم، ومع الانفتاح الكبير بين الجماعات والثقافات، تواجه الجماعة بصورتها التقليدية تحديات جمة لا سيما في الجانب المعرفي حيث لم تعد المحذورات مسيّجة ومحروسة كما كان الحال فيما مضى فقد قيض لسيل المعلومات العارم أن يدك أسوار المجتمعات ويعبث بصورتها القديمة.

وهكذا، وبعد أن وضعت المؤلفة توطئتها للكتاب وصممت عتباته، تحيلنا إلى فكرتها الرئيسية التي تتمحور على عالم المعلوماتية والأخبار العلمية المتواترة فيه، لا سيما الطبية منها؛ وما تمخض عن بحثها من كشف لأصول "لعبة" الصحافة العلمية، الورقية والإلكترونية، ووضع آلية للتمييز بين الجواهر والشوائب في بحر المعلومات.

تشير الباحثة إلى الحجم المتضخم للمعلومات العلمية والوتيرة السريعة التي تصدر بها، وذلك إلى جانب بطء البرامج المدرسية لاستيعاب المجرى المعلوماتي وبالتالي عجزها عن صنع آلية مكتملة لاحتواء التغيرات المتسارعة و "فلترتها". وحسب تقديرها فإن مخرجات التعليم المدرسي متأخرة عن مجريات المعلوماتية بعشرين عاما، الأمر الذي يخل برؤية الطلبة المتخرجين إلى العالم ويحرّف الصورة التي يشكلونها عنه. وفي هذا الإطار تشتكي آسيا كازانتسيفا من النقص الكبير للكتب التي تناقش قضايا العلم الزائف وتفند محتوياته المتراكمة (وهنا توصي المؤلفة بمطالعة كتابين بارزين: "عالم تسكنه الشياطين" لكارل ساغان وكتاب "العلم الزائف وادعاء الخوارق" لجوناثان سي سميث). كما تتهم القنوات التلفزيونية بقلة اهتمامها بالأخبار الطبية والعلمية المبهجة وذلك في مقابل ما تبثه، على مدار الساعة، من أخبار الحروب والكوارث. وتذيل كازانتسيفا صفحة قنوطها بالكسل الذي يمتهنه السواد الأعظم من ساكنة الفضاء المعلوماتي، وتعتبرهم ضحية أنفسهم قبل أن يكونوا ضحية للمعلومات الخاطئة ومن يروّج لها. فعلى سبيل المثال يؤدي التكاسل عن فهم مرض نقص المناعة إلى الاتكال على مضادات غير فعّالة للمرض وتكون النتائج كارثية. فها هي الجنوب إفريقية "نوزيفو بينغو" تقع ضحية ما يمكن تسميته بالتواكل المعلوماتي وتلقى حتفها وهي في الثانية والثلاثين من عمرها. فبعد إصابتها بمرض نقص المناعة، وبعد أن ظلت تداوم على خطة علاجية في السنوات الأولى من المرض، قررت أن تستبدل العلاج الطبي بوصفات شعبية. كانت تتناول الثوم والزنجبيل للقضاء على العدوى، وعصير الليمون والشمندر وغيرهما من المنقوعات الشعبية لإزالة السموم من جسمها. ولم تُقدِم هذه المرأة على قرارها بدافع شخصي ولا بعزيمة فردية أو من منطلق المسؤولية الراسخة، لقد أقدمت على ذلك تحت تأثير الدعاية الرسمية التي أطلقتها الدولة ممثلة بشخص رئيسها. ففي فترة رئاسته التي امتدت بين أعوام 1999 و 2008 صرح الرئيس تابو إمبيكي في أكثر من مناسبة عن عجز المصل المضاد لمرض نقص المناعة المكتسبة، وأن نقص المناعة المكتسبة لدى الإنسان لا يؤدي بالضرورة إلى الإصابة بمرض الإيدز. وحسب تقرير أعدته مدرسة هارفرد للصحة العامة، ونشرته مجلة "متلازمة نقص المناعة المكتسبة" في ديسمبر من عام 2008 (ص 410 – 415) فقد أدت سياسة تابو إمبيكي إلى حالات وفاة مبكرة لأكثر من ثلث مليون إنسان.

فضلا عن الحالة المذكورة للسيدة الجنوب إفريقية، تناثرت في جنبات الكتاب الكثير من الحالات والمسائل الاجتماعية والطبية التي تكرس لها الكاتبة اهتماما بالغا وتضعها في صميم عملها، ليس لأنها ناتجة عن خلل وقصور في معالجة المعلومات وحسب، ولكن – أيضا – لأهمية هذه الظاهرة والخطورة الكامنة وراء انتشارها واتساع رقعتها بين مستهلكي المعلومات. ومن بين المعتقدات الخاطئة التي توردها الباحثة الروسية وتتأملها تحت مجهرها النقدي والتحليلي الدقيق نذكر الآتي (ونترجم هنا العناوين كما وردت في الكتاب مع إيضاح للمقاصد التي يحملها العنوان): ليس للعلاج المثلي آثار جانبية (والعلاج المثلي تقليد طبي يؤرخ للفراعنة ومازال معمولا به؛ مفاده أن الدواء من طبيعة الداء، كأن نداوي لدغات العقارب بسمها، والكاتبة هنا تستبعد أن يكون للعلاج المثلي آثارا جانبية، حيث لا وجود لعناصر مكملة في أدويته). التطعيم مسبب لمرض التوحد (مع خلو البرهان العلمي لهذه المقولة فستظل ضربا من التخرصات حتى وإن تكاثر المؤمنون بها). لا يؤدي نقص المناعة المكتسبة إلى الإصابة بمرض الإيدز (نعم، ولكن فقط في حالة الالتزام بالخطة العلاجية الطبية). الوخز بالإبر طريقة موثوقة للعلاج (بعض العلاج كتسكين الآلام والشفاء من الغثيان وليس العلاج بالمطلق). حان الوقت لإلغاء التجارب على الحيوانات (نعم، ولكن فقط إذا انتفت حاجتنا لاختراع تقنيات علاجية جديدة وتطوير الأدوية). اللحم مضر بالصحة (إنه مضر عند تناول السجق والنقانق). يجب أن نأكل طبيعيا (ليس كل شيء). الرجل أذكى من المرأة (البعض منهم أذكى.. بكل تأكيد). إن كنت ملحدا حق لك أن تفعل ما تريد (ربما من المتعين علينا أن نضع السبب مكان النتيجة!).

يبرز في أسلوب المؤلفة مقدرتها على تبسيط المسائل العلمية المعقدة من غير المساس بأصولها الصارمة. ميزة أخرى توفرت في هذا الكتاب وهي حرية التنقل بين فصوله، فبإمكان القارئ أن يبدأ من حيث أراد، وأن يتعمق في فهم مسألة من المسائل بمعزل عن بقية الصفحات. وانطلاقا من خبرتها في مجال الصحافة العلمية، أهملت آسيا كازانتسيفا عن سابق قصد الصيغ الكيميائية والرياضية في بعض المسائل العلمية، فبرأيها ستبدو للقارئ معقدة وباعثة للملل علاوة على أنها ليست بذي جدوى للعلماء والمتخصصين. كما حرصت الكاتبة على التعريف بنتائج البحوث العلمية الحديثة (لا سيما الطبية منها) والحاصلة على إجماع المجتمع العلمي. ويعزز الكتاب من قناعة القارئ في الاعتماد على الدراسات العلمية كمصدر موثوق به للمعلومات التي ما كفت تزيد من وتيرتها وتملأ الفضاء بضجيجها. ولا تتوانى الكاتبة عن طمأنة قارئها على نجاعة المختبرات العلمية في التوصل إلى أضمن النتائج وأوفرها حظا للنجاج.

في خاتمة الكتاب المعنونة بـ "مرشد موجز للبحث عن الحقيقة" توافينا الكاتبة بتوصيات للطرق المثلى للحصول على المعلومة الصحيحة في الإنترنت، وما هي الإشارات التي تدل على المقالات الجادة، وكيف نفرق بين التجارب العلمية والزائفة. وتؤكد المؤلفة على إمكانية التحلي بعقلية نقدية لكل فرد يستخدم الانترنت وليس فقط للمختصين، أمّا المفتاح إلى تحقيق ذلك فيكمن في التعود على النهج التحليلي لقراءة المعلومة والوعي العميق بأن الانترنت سوق بلا أبواب ولا حرّاس، وهو أرض مشاع يرتادها العالم والمدعي والمشعوذ. ولكل منهم وشمه الظاهر والمتخفي. ولعل أفضل تقييم لكتاب آسيا كازانتسيفا ما جاء في كلمة رئيس لجنة محاربة العلم الزائف بأكاديمية العلوم الروسية يفغيني ألكسندروف: "إنه كتاب جريء. لم تتردد الكتابة في الانضمام إلى الحرب على الخرافات التي تأصلت في وعي المجتمع. وقد عززت خلفية الكاتبة العلمية من صدقية محتوى الكتاب حتى لتشعر أن خلف كل جملة ثمة دراسة جادة. عدا ذلك، يُقرأ الكتاب كسلسلة أحداث مثيرة وشيقة، ساحرة ونقية".               

   ---------------------------------------------------------

الكتاب: ثمة مخطئون في الإنترنت، دراسات علمية في مسائل جدلية

المؤلف: آسيا كازانتسيفا

دار النشر: أ.س. موسكو 2016

اللغة: الروسية

عدد الصفحات: 376

 

*أكاديمية ومستعربة روسية

أخبار ذات صلة