لماريا فيل
أحمد الرحبي*
قد يبدو العنوان الذي وضعته الباحثة الروسية في العلوم الاجتماعية ماريا فيل لكتابها الجديد مألوفاً للقارئ بعد أن تمّ استهلاكه في عالم الكتب والصحافة والإعلام حتى فقد الكثير من بريقه. ولكن لا يُعرف الكتاب دائماً من عنوانه. فظاهرة مواقع التواصل الاجتماعي التي ترسخت في حياتنا وشارفت على أن تكون روتينًا نافذا فيها، رغم ذلك مازالت تستدعي الجدل في الصحافة ومازالت مواضيعها تتصدر جداول المؤتمرات وتجتذب الدراسات العلمية.
يرصد كتاب "مواقع التواصل الاجتماعي.. التكنولوجيا الجديدة لإدارة العالم" ظاهرة مواقع التواصل الاجتماعي بمنهجية تاريخية نفسية: يعود إلى منابع التواصل المجتمعي وينظر إلى آلياته ويجس نتائجه وتداعياته.
ومنذ الصفحات الأولى تحيطنا الكاتبة بطبيعة البحث الذي ترومه فتستشهد بحكاية شرقية شائقة تقول إنّ أميرا تسلّم فيلا كهدية، ولم يكن قد شوهِد مثل ذلك الحيوان في المملكة. قيد الأمير حيوانه العجيب في غرفة مُظلمة وجاء بأربعة من جلسائه ليخبروه عن الحيوان الطارئ. قال الأول بعد أن لمس قدم الفيل إنه عمود. وأفتى الثاني أن هذا الشيء حبل فقد أمسك بذيل الفيل. أما الثالث فقال إنه وجد سيفًا حين تعثر بناب الفيل، وقرر الأخير أن الشيء الذي أهدي للأمير ما هو إلا خزان كبير وذلك عندما وقعت يده على بطن الحيوان. النتيجة أن تصريحات الأربعة عن كنه ما وجدوه كان منطقياً وبالتالي حقيقيًا، بيد أنهم، وحينما كان حظهم من الحقيقية قسما منها وليس كلها فقد انكسر منطقهم وانحرفوا عن الصواب. وكما ترى الباحثة فالحال كذلك عند مناقشتنا لظاهرة الإنترنت التي تضيع جدواها وتعتل فحواها حين نُديرها بالتجزئة وهو الأمر الذي يحدث في غالب الأحيان.
يحيط الكتاب بمسألة مواقع التواصل الاجتماعي من مختلف جوانبها وبأسلوب منهجي. وقد ارتأت الباحثة تقسيمه إلى أربعة فصول، أو فلنقل أربع زوايا تمتد عبرها مناشط هذه المسألة التي تتضح تعقيداتها عند تظهيرها نظريا. الفصل الأول بعنوان "مواقع التواصل الاجتماعي في نظام العلاقات العامة" وتبحث فيه الكاتبة في أصول ونشأة شبكة الاتصال بين البشر التي تعود إلى قرون ماضية، وترسم لنا الشبكة بصفتها آلة لتلبية الاحتياجات النفسية لدى المجتمع الحديث كما تفضح أسطورة القرية العالمية. الفصل الثاني: "مواقع التواصل الاجتماعي، ظاهرا وباطنا" وتشاطرنا فيه المؤلفة أفكارها عن تصنيفات الشبكات الإلكترونية وأنواعها وعن خصائص عملية تشّكل وتغير جمهورها، بما في ذلك التغيرات غير المتوقعة أو الطارئة التي تحيق بها. في الفصل نفسه تضع الباحثة مقارباتها حول نشاط الحسابات الخاصة وتكنلوجية تعزيز المواقع وضخ المعلومات في شبكة التواصل الاجتماعي. الفصل الثالث: "سلوك الفرد في مواقع التواصل الاجتماعي" مُكرس لإستراتيجيات المشتركين في المواقع بما في ذلك القيام بحجب الهويات أو التستر خلف أسماء مستعارة، كما تناقش الكاتبة قضية الإدمان على الإنترنت واستفحال الضرر المترتب عليه. وتذهب الكاتبة في الفصل الأخير من كتابها والذي حمل عنوان "الهيمنة على الرأي العام في مواقع التواصل الاجتماعي" إلى المقارنة بين الإعلام التقليدي والحديث (الإلكتروني)، وفيه تتطرق إلى مخاطر التفكير المقطعي (سيأتي الحديث عنه لاحقًا) الذي ما برح يتوسع في فضاء الشبكة العنكبوتية. وفي هذا الفصل تناولت الكاتبة بشكل تحليلي مراحل تشكل الرأي العام في الإنترنت ودور مواقع التواصل الاجتماعي في بلورة المواقف السياسية، كما أوردت حالات مُختلفة لمنع استخدام المواقع والنتائج التي أفضت إليها مثل هذه الإجراءات.
إنَّ أكثر ما اتسمت به دراسة ماريا فيل وميز إطارها العام هو عمقها النفسي. فحينما تقوم بالتصدي لمسألة الشعبية الواسعة لمواقع التواصل الاجتماعي، لا تقرن ذلك بظهورالأجهزة الإلكترونية المتطورة أو البرامج المتقدمة وإنما بعامل نفسي ورغبات كامنة لدى مستهلكي الإنترنت تدفعهم إلى الركون إلى الإنترنت لإشباع تلك الرغبات. بعبارة أخرى تضع الباحثة الإنترنت في مرتبة ثانوية من المشكلة وذلك على الرغم من إمكانياتها الهائلة وطبيعتها المتطورة.
تؤكد الكاتبة أنّ الطفرة العلمية الكبيرة التي شهدها المجتمع الحديث طبعت أثرها العميق على الأفراد وأخرجت إلى الوجود شخصية عامة جديدة لم تكن متعينة في السابق إلا في أوساط النخب وعلية القوم. فها هي الحاجات الفيزيولوجية والمادية لدى غالبية البشر، وبفضل التطور العلمي، قد تم إشباعها، ولم يتبق شيء لتحقيقه سوى الرغبات العليا كالمعرفة والنجاح ونيل الاحترام والانسجام والجمال والخصوصية وغيرها من المتطلبات التي كانت في الماضي حكراً على النخبة وحدها. وفي هذا الشق من القضية تحدد ماريا فيل مسار فصلها بطرح السؤال التالي: هل بإمكان الإنترنت تلبية كل تلك الرغبات العليا؟ تقول في هذا الصدد: "تجوز المقارنة بين مقدرة الجمهور على تلبية حاجته في التعبير عن الذات (عبر الإنترنت) وبين المجاعات الجماعية. في بداية ومنتصف القرن العشرين واجهت البشرية شبح المجاعات الكبرى، وكان السؤال المُلح آنذاك أن تُطعم الأفواه بما تيسر من طعام وذلك بصرف النظر عن طبيعة الطعام ونوعيته. أدى ذلك الوضع إلى ابتكار الوجبات السريعة والأطعمة المعدلة وراثيًا واستبدال جزء من الطعام بالهرمونات والبروتينات المصنّعة. ومع كل ما طرأ من تغيرات في عادات التغذية إلا أنَّ الإنسان استطاع أن يكسب معركته مع الجوع. اليوم، وبعد أن أُطعمت وكسيت غالبية البشر فقد حان الوقت لجوقة الروح أن تصدح وتعبر عن نفسها. وحتى الأمس القريب كان على الفرد امتلاك موهبة خاصة وطاقة وافرة لإظهار شخصيته وإثبات فرادته، علاوة على ضرورة توفر الظروف المناسبة والفرص السانحة لتحقيق المرغوب فيه. بيد أنه، ومع توفر الموارد الإلكترونية، أصبح الطريق لتحقيق هذا الهدف معبدا وسهلا وأكثر ضمانة ناهيك عن كلفته المتدنية وقلة الموانع الأخلاقية. أما الفارق بين الوسيلة الحديثة للتعبير عن النفس وبديله التقليدي العتيق فيشبه الفرق بين الطعام الطبيعي والآخر المُصّنع" (ص 25 – 26)
تعتقد الباحثة ألا دور إيجابيا واضحا لمواقع التواصل الاجتماعي ولا فضل لها في صحة الحياة النفسية لمستخدميها، فهي (تلك المواقع) وبرغم تلبيتها لجوانب من الضرورات المعنوية لدى الناس، إلا أنّها لا تقوم بذلك مجانًا، وبحسب وصف الكاتبة فإنَّ العلاقة بين المُشترِك والشبكة شبيهة بالتمارين التي تخضع لها بعض الحيوانات، فإن هي نفذت ما يُطلب منها نالت قطعة السكر وإن لم تفعل حُرمت من المكافأة. وتشرح ماريا فيل فكرتها هذه بمثال صميمي من عالم مواقع التواصل، ففي حالات كثيرة يصاب المُشترك بخيبة أمل عندما لا يتلقى الاستجابة المرجوة لمنشورهِ، فتساوره الظنون أن ما كتبه عديم القيمة أو أنه محض غباء. وقد ساقت الكاتبة في بحثها وقائع كثيرة من حالات الانهيار العصبي والجنون التي تعرض لها المشتركون في الشبكة نتيجة المبالغة المرضية في التفاعل معها. هاكم الفتاة الصربية "سنيجانا" التي أسعفت إلى مستشفى تخصصي للأمراض النفسية عام 2013 وذلك بعد أن حُرمت من أي تعليق من قبل أصدقائها على منشورها في الشبكة، وقد أدخل الطب النفسي مصطلحا علمياً جديدًا للتعبير عن هذه الحالة المرضية.
لا تخلو من أهمية ملاحظات الكاتبة عن كيفية تأثير مواقع التواصل الاجتماعي على طريقة تفكيرنا وتحفيز ما يسمى بالأسلوب المقطعي في التفكير، وهو أسلوب لا تنتفي فائدته في حالات التمحيص السريع لكمية كبيرة من المعلومات وذلك لاستيعاب مضمونها العام. بيد أن اتخاذ القرارات الجادة كالاشتراك في مظاهرة سياسية أو شراء بضاعة غالية الثمن فإن التفكير التقليدي هو العلاج المضمون وربما الوحيد. ويكمن خطر التفكير المقطعي في فتح الباب واسعاً أمام التأثير على المشاعر والتلاعب بعواطف الناس وانفعالاتهم. تختار الكاتبة لشرح مقولتها هذه مثال الإستراتيجية المعلوماتية لتنظيم داعش وتقول: "وضع التنظيم في اعتباره أن الأعمال الإرهابية التقليدية، ومع أنها تحصد عددا كبيرا من الضحايا، إلا أنها لا تترك الانطباع المرجو لدى المُشاهد الذي لم يزل بعيدا عن موقع الحدث، جسدا ووجدانا. في كل يوم تقع الكثير من المآسي التي تلتقطها كاميرات وكالات الأنباء. لقد اعتاد المشاهدون على رؤيتها ولم تعد مبعثاً للخوف أو الترهيب. ولكن الأمر مختلف كلية حين يجد الشخص الغربي نفسه شاهدا - وإلى حد ما مشتركا - في إعدام أحد مواطنيه ويعايش الحدث عبر البث المباشر. لقد كان التنظيم واعياً لأدق التفاصيل: القيمة العالية للحياة في المجتمع الغربي، الفضول الطبيعي واللاواعي للمناظر الدموية، التطابق بين الضحية والمُشاهد في مختلف الأوجه والصفات" (ص 120 – 121)
ميزة أخرى تضمنها الكتاب حين احتوى على بحث دقيق عن التضخيم المتعمد والمخطط له لدور مواقع التواصل الاجتماعي في تغيير الأنظمة السياسية في بلدان ما عرف بالربيع العربي. لقد حاولت الباحثة، اعتمادا على البيانات الإحصائية والمؤشرات النفسية أن تثبت فرضية أن مواقع التواصل الاجتماعي قامت باختراع وإثبات واقعية لم تكن موجودة أصلا. تتسائل الكاتبة عن أحقية أن نسمي الثورة المصرية التي أطاحت بنظام مبارك عام 2011 بثورة تويتر، وتكتب في هذا الصدد: "تشير الإحصاءات أن مواقع التواصل الاجتماعي لم تكن منتشرة في العالم العربي (آنذاك) بسبب قلتها نتيجة الفقر والتمسك بالنمط التقليدي للحياة. ثمة البلدان المصدرة للنفط من كانت على رأس قائمة المشتركين في مواقع التواصل الاجتماعي، حيث مستوى الحياة فيها أعلى بكثير من غيرها من البلدان العربية. استنادا إلى هذا تبدو العلاقة مريبة بين انتشار استخدام الشبكة والتطورات السياسية (في بلدان الربيع العربي) التي كانت وجهتها إحلال الديموقراطية. وبالمقابل (وهنا تكمن المفارقة) نجد أن شعبية مواقع التواصل الاجتماعي كانت أكثر اتساعا في البلدان ذات النظم الملكية التي لم تزمع لأي تغييرات سياسية. وبحسب معطيات التقرير العربي للإعلام فقد بلغ عدد مستخدمي تويتر في مصر عام 2011 حوالي مئة وعشرين ألف مستخدم وذلك في بلد يفوق تعداده أكثر من خمسة وثمانين مليون نسمة. والحال كذلك، واستنادا إلى هذه الأرقام، فهل يليق التحدث عن تأثير شبكات الانترنت على الجمهور؟ إن الحد الأقصى الذي بلغه تأثير الشبكة لا يتعدى أوساط النخب في كل من القاهرة والإسكندرية" (ص 139). انطلاقا من هذا التحليل تفترض المؤلفة أن دور مواقع التواصل الاجتماعي في سير أحداث الربيع العربي منحصرة في ثلاث نقاط: خلق صورة إعلامية برّاقة للانتفاضة الشعبية، التبشير بفاعلية مواقع التواصل الاجتماعي في التغيير السياسي، وأخيرا رفع رصيد هذه المواقع وتهيئتها للانتشار الشعبي ... الأمر الذي حدث لاحقا.
بعد معالجة البيانات الإحصائية تتوصل الباحثة إلى استنتاج يوضح ويبرر الصورة الضبابية لمواقع التواصل الاجتماعي، فتقرر أنَّ الوقت كفيل بوضع الأمور في نصابها، وأن الجدل الدائر حول هذه المواقع لا شك سيخفت ويفقد حدته وسوف تحتل مواقع التواصل الاجتماعي مكانها الطبيعي في مجال الإعلام والاتصالات العامة، حالها في ذلك من حال التليفزيون الذي تنبأ الخبراءُ عند ظهوره باختفاء الإذاعة والسينما والمسرح ... وهو ما لم يحدث. وتعزز ماريا فيل استنتاجها هذا بالبيانات التي تشير إلى تراجع أعداد مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي، مؤكدة أن نموها الانفجاري أصبح خلفنا.
وتورد الباحثة الروسية نتائج لدراسة أجرتها شركة "يوغوف" عام 2014 التي بموجبها انخفض اهتمام خمسة وخمسين بالمائة من مستخدمي شبكة الإنترنت بمواقع التواصل الاجتماعي. كما أعلن أكثر من ربع المشاركين ممن شملتهم الدراسة عن رغبتهم في حجب حياتهم الشخصية عن الآخرين وإلغاء حساباتهم الخاصة.
يساعدنا هذا الكتاب على صياغة رؤية جذرية ورصينة لشبكة الإنترنت عموما ومواقع التواصل الاجتماعي بوجه خاص. كما ينبه إلى تقنية التلاعب بالرأي العام من خلال بث الأفكار والدعاية المغرضة، ويرسم للقارئ خارطة الألغام المفخخة في الواقع الافتراضي وكيفية تجنب مضارها.
-------------------------------
الكتاب: مواقع التواصل الاجتماعي: التكنولوجيا الجديدة لإدارة العالم.
المؤلف: ماريا فيل.
الناشر: جامعة سينيرجيا، موسكو 2016
اللغة: الروسية.
عدد الصفحات: 192 صفحة.
*كاتب عماني
