لباسكال سيفيراك وأن سوفنيارغ
سعيد بوكرامي
عندما ندرك أن كتاب " سبينوزا –دولوز قراءات متقاطعة" الذي أشرف عليه الباحثان -باسكال سيفيراك وأن سوفنيارغ-هو أول مؤلف باللغة الفرنسية يخصص للعلاقة بين سبينوزا ( 1632- 1677 ) ودولوز( 1925- 1995 ) يبدو الأمر غريبا، لأن الشائع والمتعارف عليه أن دولوز كان قريبا جدا من الفلسفة السبينوزية. والأكثر استلهاما لفلسفتها وتعليقا عليها. لكن لا مؤلف حاول تسليط الضوء على هذا اللقاء الحاسم بين فيلسوفين عظيمين. حدث هذا اللقاء، لأن قراءة سبينوزا تغيرت تماما مع فلسفة دولوز وما عادت قراءة سبينوزا تتم بالطريقة نفسها. ويعتبر سينوزا من بين أكبر أساتذة دولوز، وأكثرهم أهمية، وبالتالي سنجد حتما سبينوزا متغلغلا في فلسفة دولوز ويقودها نحو فلسفة جديدة، وأقرب مثال لهذا اللقاء، نجده في فلسفة الرغبة عند المفكر الهولندي، كمصدر أساسي لفلسفته. وبناء على هذا، حاول دولوز البحث في الرغبة عن قوتها الإبداعية، لأنها لا تحيل على اندفاعات غريزية أو تطلعات فردية، ولا تتعقب الملذات عبثا. لأن الرغبة، التي هي في الآن ذاته، ميتافيزيقية وجماعية، تعين هذا المسار، الذي تتجاوز عبره الذات نفسها، وتتموضع وفق تدفقات أخرى للكثافة، ثم تجد نفسها مأخوذة ضمن تجريب ممكنات جديدة للتفكير والتجريب والحياة.
يقترح هذا الكتاب الجماعي سلسلة من الدراسات التي تبحث في تنوع العلاقة بين سبينوزا ودولوز. كما تبحث جميعها عن تأثير سبينوزا في المسار الفكري لدولوز وحول طريقة هذا الاخير في قراءة سبينوزا، ومن خلال دراسة الاختلافات بين هاذين الفيلسوفين، ومحاولة أيضا اكتشاف ما لم يتم استغلاله من طرف دولوز لدى سبينوزا.
تدور أغلب التحليلات حول إشكالية أثيرة لدى دولوز وهي محاولة تجاوز مفهوم النموذج من طرف فلسفة المحايثة immanence [1]، الأمر الذي يؤدي إلى مفهوم "الجسم بلا أعضاء"[2].كما تنفتح العديد من المساهمات على بعض الموضوعات والمفاهيم الجانبية مثل الديمقراطية، وتاريخ الفلسفة ومناهجها، وحول "الأنا" والصيرورة الحيوية، والغيرية، والفن. قام بتحرير الكتاب مجموعة من المتخصصين البارزين في فلسفة سبينوزا أو فلسفات العصر الكلاسيكي وهم: (سافيريو أنسلادي ، لوران بوف، شانتال جاكيه، كيم سانغ اونج فان كينغ ، تشارلز رامون وباسكال سيفيراك وارييل سوهامي)،بالإضافة إلى متخصصين اثنين في فلسفة " دولوز " هما (فانسون جاك وآن سوفانيارغ).
يعتبر دولوز أحد الكتاب الأوائل الذين أحيوا الدراسات السبينوزية في فرنسا منذ عام 1960. ولذلك يحتل مكانة مركزية في السبينوزية الفرنسية وبالتالي مارس نفوذا على جميع المفسرين الذين جاءوا بعد ذلك. يقول ارييل سوهامي: " يتمتع دولوز بنوع من الحصانة الملكية والعصمة البابوية، وبفضل هذا لا يمكنني الدنو منه إلا بعمل طويل ومضن "(ص. 72). الكتاب إذن فرصة للمؤلفين لتسوية حساباتهم مع قدسية دولوز، بما في ذلك البحث عن مصادر مناهجه في القراءة والمقاربة لمفاهيم سبينوزا. وفي هذا السياق يشير ارييل سوهامي كيف أن دولوز يلحم بعض "اقتباسات" سبينوزا ثم يعلق عليها فيما بعد بهدف البناء الفوري والمناسب لمفهوم جديد. وهذا الإجراء يسمح باستغلال تاريخ الفلسفة على أنها حرب بين مختلف "العائلات" الفلسفية، والاستفادة من الطاقة من مقامها الجدلي. أما تشارلز رامون فيبين أن باستخدام دولوز المتكرر للصيغ الزجرية والمنعية( التي هي موضوع دراسة منهجية، مفيدة جدا للذين يشتغلون عليها)، والتي تمارس "نشاطا وقائيا" (ص 109) من طرف القارئ ضد التفسيرات التي قد تقوده إلى الجانب الخاطئ من تاريخ الفلسفة. الحال أننا بعيدون عن أي نوع من الخيانة، وحسب شانتال جاكيه فإن حرية السبينوزية لدى دولوز هي نتيجة الانتظام الكبير الذي تختص به كتابات سبينوزا، التي تشتغل كرياح، وعصف يهب على القارئ المتخصص أو غيره – موجها إياه أيان لا يرغب، أو هي شبيهة بـ"مكنسة الساحرة" التي يمتطيها القارئ بذهول وتحمله أيان لا يشاء. (ص 85).
يظهر دولوز قوة ومرونة في امتلاك فلسفة سبينوزا التي مهدت له الطريق لصياغة أدوات منهجية للإجابة على قضايا مركزية في منعطفه الفكري. وأثناء محاولته تجاوز مفاهيم الشكل والتمثل المرتبطين بالتمييز بين القوة والفعل التي يستدعيهما دولوز من خلال فلسفة سبينوزا. إن الحفر في هذه الإشكالية يصنع فرادة قراءة دولوز كما يشير إلى ذلك فانسان جاك ويتجلى ذلك في أن دولوز يبحث عن المؤثرات والمفاهيم الهامشية في الفلسفة عامة وفلسفة سبينوزا خاصة. وهكذا يعيد دولوز قراءة مفهوم الفرد ليس كمظهر ولكن كمركب من العلاقات. يمكن رصد الفردانية في تفاوت قدرة الجسم على التأثير والتأثر، والتغيرات في قوة هذا الفرد. لم يعد الفرد يحصر في شكله بمعنى الفئة التي يصنف ضمنها، ولكنه كنه يميز عن غيره من الأفراد وفقا للطريقة والدرجة التي تلاحظ من تأثره وتأثيره.
أما دراسة أنطونيو نيغري فتبين كيف شكلت فلسفة سبينوزا كايروس حقيقي في التفكير الدولوزي:
للخروج في الوقت المناسب من البنيوية، وانغلاقها أمام الصيرورة، كي تنفتح على فلسفة التعبير عن الذات، وعلى الفكر الجمعي المبني على المشترك لخلق دينامية ديمقراطية "المطلقة على الاطلاق"، حسب تعبير سبينوزا. "هنا: أصاب السهم المرميّ من طرف سبينوزا إلى دولوز. عندما يحدث لقاء من هذا النوع، يصبح هذا الكايروس اسم قدر مشترك، فتتضاعف إمكانية الوجود".( ص 45)
ثم نصل إلى مساهمتي كيم سانغ اونج فان كونغ وسافيريو أنسلادي اللذين يبرزان كيف أن دولوز غير دفة تفكيره نحو "أخلاقيات الاختلاف" (ص 56)، والتحولات، مبتعدا عمّا كشفت عنه اليوم الدراسات السبينوزية حول ما يطلق عليه "أخلاقيات النسبة" (ص. 57). في حين يعتمد سبينوزا في مشروعه الأخلاقي على المحفاظة وتقوية شكله، المصمم كمركب من العلاقات، وهذا يعني الحفاظ على النسبة نفسها، شجع دولوز في أعماله المتأخرة، بما في ذلك كتابه "ألف هضبة"، الذي حاول فيه تغيير العلاقات التكوينية للجسم، بمعنى آخر، تحديد تغييرات الشكل التي تحدث من خلال التجريب الذاتي. بينما بين باسكال سيفيراك الاختلافات الحاصلة بين مفاهيم سبينوزا ودولوز ولكن أيضا وضح التقارب الوثيق بين مفهوم الجسم دون أعضاء الدولوزي و "والصيرورة النشطة" لدى سبينوزا. يفصل دولوز الجسم البيولوجي عن الجسم كمركب عاطفي ويفكر في أخلاق من التدمير والتحول الدائم للجسم العاطفي، التي لا تترك سليما غير الجسم البيولوجي: وهذا هو المثل الأعلى لل[3] CsO الجسم بلا أعضاء. إن القرابة مع الصيرورة النشطة تكمن في محاولة التدمير للمنظمات العاطفية المستقطبة التي تحد من قدرتنا على التأثر بعدد وافر من التصرفات. إن ظهور CsO هو إعادة اكتشاف أجسامنا من خلال التجريب الذاتي، والتغييرات المستمرة في جسمنا العاطفي لكن سبينوزا لا يذهب بعيدا ويتجلى ذلك من خلال مثال للشاعر الإسباني الذي ينسى خرافاته الخاصة، مبرزا أن التدمير أو التحول جذري في الجسم العاطفي وهو شكل من أشكال الموت، وهذا الانحدار لا يمكن أن يكون مرغوبا فيه من الناحية الأخلاقية.
وتدريجيا نصل أخيرا إلى دراستين انسلختا عن اهتمامات الدارسين السابقين إذ اهتمتا بالمفاهيم الأقل مركزية في فلسفة سبينوزا ودولوز، لكنهما انفتحتا كثيرا على البعد السياسي. وإذا نظرنا إلى مساهمة آن سوفنيارغ نستكشف نتائج المحايثة لأجل فلسفة للفن، والتفكير في العلامات لا أن تكون تأويلا وإنما كخبرات: العلامة هي مؤثر. وبما أنها مؤثر ، فالعلامة تغير قدرتنا على التأثير والتأثر بما "يعرض من تقارير الذاتية الحقيقية" (ص 171)، وهذا يعني، أن الكشف عن بعض تقارير التصنع بين الشيء وجسمنا، والذي كان من قبل غير مرئي (ولكن كان حقيقة فعلية). ومن هنا شرح دولوز أن الفن الذي يعرف بأنه شبكة من العلامات، فإنه في الواقع مادة إكلينيكية، تتشكل من "أعراض" عن العلاقات العاطفية ولكنها أيضا نقد، وهذا يعني أنه "تفسير لآليات الانقياد" لأنها "تسمح لنا أن نشعر، ونفكر ونضحك من المعايير المعقدة التي تجعلنا غير موضوعيين " (ص. 171) .
بينما يتساءل الباحث لوران بوف : لماذا لم يستخدم دولوز سبينوزا للتفكير في "بنية الآخر"، أي الآخر الذي يؤثر فينا ويحددنا. وذلك من خلال الاشتغال على قصة "آدم" التوراتية. يحدد دولوز لدى سبينوزا ثلاث طرق لبنية الأخر التي تحددنا من خلال محاكاة المؤثرات التي تحتاج الى قوة لمقاومة الهيمنة والخضوع وأخيرا، محاولة للتمايز عن الآخر، التي تعتبر شرطا حالة لتميز الفرد ومظهرا لفرادة الذات. وبهذا يتبين أنه على الرغم من براعة قراءة دولوز لسبينوزا إلا أنه لا يستغل بالكامل الثراء المفاهيمي للسبينوزية، هذا الثراء الذي أصبح اليوم في المتناول بفضل حيوية الدراسات السبينوزية المعاصرة.
يعتبر الكتاب الذي تناولناه بالمراجعة بوابة مثالية للدخول إلى فكر دولوز لمن يعرف بالفعل سبينوزا أو الدخول إلى فكر سبينوزا لمن يعرف بالفعل دولوز. ومما لا شك فيه أن السبينوزيين أو الدولوزيين سيحتفون بالمجموعة الكبيرة والمتنوعة من نقاط المواجهة، والتقاطع التي اشتغل عليها الباحثون القادمون من الفلسفة الكلاسيكية أو الفلسفة الحديثة ليعقدوا لقاء مشتركا فلسفيا و تاريخيا بين فلسفتين متقاربتين ومتعاكستين ومنتجتين لأهم المفاهيم الفلسفية. وأخيرا، لا بد من الإشارة إلى أن هناك بعض المساهمات التي سعت إلى تفسير التناقض المتواجد في سبينوزية دولوز، من خلال دراسة الحلقات الصوتية لمحاضرات دولوز عن سبينوزا. وللتذكير، فإنها غير منشورة ولكنها متوفرة على اليوتوب. هذه المقاربات الأخيرة تخلص إلى اكتشاف تماسك عجيب في المشروع الفلسفي لدولوز رغم تنوعه وشذريته. وهذا ما يجعل من الكتاب باقة معرفية عميقة من الأفكار الفلسفية عن تاريخ الفلسفة، التي تسمح بقياس أهمية دولوز في الدراسات السبينوزية وفي الحين نفسه تسمح بكسر قدسيته أو بمعنى آخر محاولة القيام بخطوة أولى ضرورية نحو انتقاد مثمر لفلسفة دولوز وتجاوزها بنجاح.
إن معظم الدراسات عن جيل دولوز، أحالت بشكل مباشر إلى ما وضعه من مفاهيم مختلفة جعلته يتجاوز الفلسفة و"معرفة المبادئ الأولى"، إلى إبداع جهاز مفاهيمي، غير مسبوق، وبالتالي وضع حد نهائي للتعريف الأرسطي، وبهذا رسم صورة مثيرة عن فيلسوف الاختلاف. هذا الاختلاف الذي انعكس على فكره وحياته. يعتبر دولوز الفلسفة إبداعا متواصلا للمفاهيم وحركة إيجابية تهتم بما يرغبه الإنسان، ولا تحاول محاربة ما يرفضه. وقد أحالت الدراسات أيضا على منجز دولوز الذي لم يتناول سبينوزا بالقراءة والتحليل نذكر منها: كتاب"نيتشه والفلسفة" (1962)، و"فلسفة كانط النقدية" (1963)، و"البرغوسنية" (1966)، و"الاختلاف والمعاودة" (1968)، و"منطق المعنى" (1963)، وألف مع فليكس غتاري كتاب "ما الفلسفة" (1991) وغيرها.
في الختم، يمكن القول أن كتاب دولوز وسبينوزا جسد بعمق فكر دولوز الذي سعى طوال مشواره الفلسفي لجعل العالم فريدا من مستويات الإدراك والإحساس. وكان دائما بالنسبة إليه تجسيدا لرغبة ملحة تهدف إلى التخلص من المعايير والهويات القائمة مسبقا، بغية تكثيف الوجود. دولوز، مؤرخ أصيل للفلسفة، ومفجر للفكر المعاصر، لم يتوقف عن اتباع مسارات للانفلات عن الفلسفة الكلاسيكية والمعاصرة ضاربا عرض الحائط بقيود التفكير الأرسطي. ورغم تعدد اهتماماته، فإن الفلسفة تبقى الحقل النوعي بامتياز حسب دولوز، باعتباره :«النشاط الذي يخلق المفاهيم» التي تتوخى معانقة الواقع في تعدديته، لرصده في سياقه واستنباط العناصر الغير متجانسة، التي تفتح ممكنات نحو مغامرات فكرية لانهائية.
----------------------------------------------------------
الكتاب: سبينوزا ودولوز: قراءات متقاطعة.
تأليف: مؤلف جماعي تحت إشراف: باسكال سيفيراك و أن سوفنيارغ.
الناشر: منشورات المدرسة العليا للأساتذة ليون فرنسا. سلسلة "ملتقى الطرق".
اللغة: الفرنسية
سنة النشر: 2016.
عدد الصفحات: 192 ص
يعرفه دولوز ب" كل غير محدود يجمع المفاهيم الفلسفية كلها في مستوى واحد".
[3] يسمي دولوز هذه الآلات الراغبة بالأجساد اللاأعضاء -Les CSO- وهذه الأجساد” هي الرغبة، نرغب فيها وبها(..) إن الجسد البلاأعضاء يشكل حقل المحايثة للرغبة(…) فهناك الرغبة حيثما هناك الجسد البلاأعضاء(..) ولا يتعلق الأمر بمسألة إيديولوجية ولكن بمادة خالصة، بظاهرة لمادة طبيعية، بيولوجية، نفسية اجتماعية أو كونية.
