إيسايا سالِز
عزالدين عناية
شكلت المافيا إحدى أبرز ظواهر شبكات الجريمة المنظمة في إيطاليا على مدى القرن الأخير. وقد بلغت الظاهرة مبلغا أن باتت جزءا لا يتجزأ من انشغالات الخطاب السياسي والقضائي والأمني، في التعبير عن أوضاع التوتر، أو الفساد، أو النفوذ غير المشروع. فقد ظهرت كلمة "مافيا" أوّل ما ظهرت سنة 1863، في كوميديا شعبية في صقلية بعنوان "مافيوزيو فيكاريا"، لاقى العرض حينها نجاحا منقطع النظير واستحسانا بين الناس. محاولة العثور عن أصل دلالي للكلمة باءت بالفشل إلى حدّ الراهن، رغم مساعي عدة لإعطاء المفردة تفسيرا مضبوطا ودقيقا. لكن وبشكل عام، تبقى كلمة مافيا متعددة الدلالة متغيرة المضمون، بحسب السياق والوضع ومقاصد الاستعمال. وهي على ما يوحي إيرادها في اللهجات العامية في جنوب إيطاليا شكلٌ من أشكال ممارسة القوة واستغلال النفوذ، وهي سلوكٌ سياسيٌّ مشين أيضا أو تكتّلٌ مصلحيّ فاسد، وبعبارة موجزة هي مظهر من مظاهر العمل غير القانوني واقتراف الجريمة بشكل منظّم. بات للكلمة حضور في الجدل السياسي، وفي التحقيقات القضائية، وفي العروض السينمائية أيضا، للحديث عن الأوساط المتنفذة في إيطاليا بشكل عام، وامتدّ ذلك إلى الولايات المتحدة منذ مقدم المهاجرين الإيطاليين.
كتاب "رهبان الكنيسة وأباطرة المافيا" هو من تأليف أستاذ علم الجريمة إيسايا سالِز، المتخصص في تاريخ المافيا. وهو يدرّس في جامعة سور أورسولا في نابولي، كما شغل عدة مناصب سياسية في حكومة رومانو برودي (1996-1998). سالِز له مجموعة من المؤلفات في مجال الجريمة منها: "عصابات الكامورّا" 1988، "الجنوب في زمن اليورو" 1998، "طرقات العنف" 2007 الفائز بجائزة الكتاب في نابولي. كُلّف المؤلف بصياغة عدة مواد تتعلّق بالجريمة المنظمة، وعلم الإجرام في موسوعة "تريكاني" الإيطالية. في كتابه الذي نتولى عرضه يركّز سالز بالخصوص في علاقة المافيا بمؤسسة الكنيسة، حيث يعالج موضوعا يبدو عنصراه الأساسيان (المافيا والكنيسة) على طرفي نقيض، بوصف الأولى تمثّل تجمّعا إجراميا لا يراعي حرمة للقانون، والثانية مؤسسة تختزن رصيدا خُلقيا، وتعدّ نفسها وصية على الميراث الروحي. يُشرّح المؤلِّف الصلات المصلحية الرابطة بين ظاهرة الجريمة، التي تمثّلها المافيا، ومؤسسة الدين التي تمثّلها الكنيسة الكاثوليكية. وإن يبدو الأمر على شيء من التباعد في المخيال الاجتماعي، بين قطب الجريمة المافيا، وما تختزنه من رمزية للفساد والعنف، وإرث الخُلق الديني المتلخص في الكنيسة، بوصفها أهم الوكالات التربوية للعموم، فإن الأمر ليس على تلك الشاكلة في الوسط الإيطالي، فلطالما تآلف المدنّس مع المقدّس وتكاملت الأدوار، كما يقول الباحث إيسايا سالِز (ص: 66).
يعتمد الكاتب في محاور الكتاب الخمسة (ما مبرر صمت الكنيسة المطبق على مدى سنوات؟؛ العقلية المافيوية وتواطؤ بعض رجالات الكنيسة؛ غياب تسليط عقوبة الحرمان على رجالات المافيا؛ أشداء في الخطيئة متسامحون مع المذنب) منهجَ التحليل الثقافي الاجتماعي لأجهزة الكنيسة في دعمها للتشكيلات المافيوية وفي مساندتها، وذلك من خلال تتبّع ظاهرة الجريمة في إيطاليا بوجه عام.
ضمن إجابته عن سؤال: ما المافيا؟ الوارد في المحور الأول، وبعد تعريفها أنها تشكيل إجرامي خاضع إلى بناء هرمي لأشخاص يسعون بوسائل غير قانونية لبلوغ مآرب، يعتبر إيسايا سالِز أن حصول ازدواجية في الموقف من ظاهرة المافيا، من جانب المحلّلين والكتّاب الإيطاليين، هو ناتج عمّا ترسّخ من ضبابية تجاه ذلك التنظيم منذ بدايات نشوئه (ص: 87). ويعود الباحث إيسايا سالِز بازدواجية ذلك الحكم والنظر للمافيا إلى الكاتب الإيطالي الماركيزي روديني، سنة 1875، الذي ميّز بين مافيا شريرة وخسيسة، لا تراعي خُلقا في عملها، ومافيا نبيلة وشريفة تحتكم في أنشطتها إلى مرجعية معيارية، ليصلَ بنا إلى تصريح الفقيه القانوني الإيطالي فيتوريو إيمانويلي أولاندو، سنة 1925، في قوله: "أعلنُ أني مافيوزي وأنا فخور بذلك!"، على اعتبار أنّ جانبا نبيلا في المافيا لا ينبغي طمسه. وصحيح أن المافيا ثقافة ونمط عيش وليست تنظيما جامدا وثابتا، وهي أيضا شِلل صغيرة الحجم قوية الفعل، تميزها علاقات زبائنية في ممارسة الجريمة، تخلو، وبأي شكل، من الروابط الإثنية بعكس ما يُضفى عليها أحيانا. فالتنظيم المفترض ليس سوى بنية علاقات شبه عائلية مميزة للمجتمع التقليدي، وهي نوع من تجمع البزنس العائلي.
ويخفي التآلف الذي سعى إيسايا سالز إلى إبرازه في كتابه، بين المافيا والكنيسة، موقفا غير معلَن من كلتيهما تجاه الدولة، يبلغ أحيانا حدّ الخصومة مع المؤسسة الرسمية. وهو توترٌ في العلاقة ليس وليد الراهن، بل يضرب بجذوره في عمق فترة التوحيد وبناء إيطاليا الحديثة. وهو ما انعكس على تقليص نفوذ الكنيسة وحصَرَها داخل حيز ترابي في حاضرة الفاتيكان في مدينة روما. في هذا السياق جاء تشكيل لجنة برلمانية، سنة 1963، لتقصّي تحديات المافيا للدولة الإيطالية.
وضمن المحور الثاني من الكتاب، يبيّن الكاتب أن تحولاً حصل في خطاب الكنيسة الكاثوليكية تجاه المافيا منذ العام 2010. أصبح الموقف أكثر وضوحا وبدون إيماءات، أي بخلاف ما كان معهودا. كان مستهلُ ذلك التحول الوثيقةَ الصادرة عن المؤتمر الأسقفي الإيطالي حول الموضوع، التي ورد فيها: "على مدى العقدين الأخيرين، طورت التنظيمات المافيوية، التي رمت بجذورها في كامل التراب الإيطالي، مصالحَ اقتصادية.. نعود مجددا وبقوة إلى إدانة هذا "السرطان" المهين للكرامة البشرية.. فالمافيا هي التجلي الأكثر درامية للشرّ والخطيئة. وضمن هذا السياق يصعب تفسير الأمر كونه مجرد تعبير عن تديّنٍ مشوَّهٍ، ولكنه شكلٌ فظّ لرفض تعاليم الرب: المافيا هي بنية خطيئة".
يتضح في نطاق سياسة الكنيسة أنّه عادة ما يرد استعمال سلاحين متنوعين لتقريع المذنبين ومجازاة المحسنين: الحرمان كعقوبة تُصلَّت على العصاة ونقيضه التطويب، الذي يرتقي أحيانا إلى حدّ التقديس، أي رفع الشخص إلى مقام القداسة لفائدة الخيّرين والمحسنين. الأول يلحَق المرء في حياته والثاني يطاله بعد مماته. وفي ما يتعلّق بسلاح الحرمان الذي غالبا ما أشهرته الكنيسة في وجوه المنشقين والمناوئين، لم يثبت استعمال ذلك السلاح ضد أي من رجالات المافيا المعروفين، وأبطلت ذلك الإجراء على مدى عقود. لكن إضفاء التطويب حصل أن وظفته الكنيسة في ما يتعلق بالمافيا، ولأول مرة خلال العام 2013، عندما طوّبت أحد الضحايا، رجل الدين الكاهن بولييزي، واعتبرته شهيدا مكرَّماً. مع أنه سبق أن سقط جملة من رجال الدين ضحايا للمافيا، تغاضت الكنيسة عنهم خشية توتير علاقتها مع أباطرة المافيا المتنفذين على غرار ما حصل للراهب بيبينو ديانا.
خلال العام 2014، وفي نطاق تحمّس البابا فرانسيس برغوليو، إبان توليه رئاسة كنيسة روما، سعى إلى تطهير حاضرة الفاتيكان ممن أطلق عليهم تسمية الغربان، أي كل من تورّط في الفساد الأخلاقي والمادي. وامتدت حملته حينها إلى حدّ تلويحه بتسليط الحرمان على رجالات المافيا في عظة ألقاها في كالابريا عاصمة المافيا الإيطالية في الراهن، في قوله: "لا تربط زعماء المافيا صلة بالرب، لأن سوط الحرمان مسلَّطٌ على رقابهم"، فكان فرانسيس برغوليو أول بابا يقطع شعرة معاوية مع جماعات المافيا، ويعلن عن إدانة الكنيسة الفساد صراحة. فلطالما تعامل اللاهوت المسيحي مع عناصر المافيا بشيء من التهوين والتبسيط والحذر، بوصفهم خراف الكنيسة الضالة الذين ينبغي ردّهم إلى القطيع. يتساءل الكاتب عقب عظة البابا تلك، هل تغير شيء في سياسة الكنيسة وفي فينومينولوجيا المافيا؟ فالكنيسة تعرض نفسها بوصفها مؤسسة تمقتُ الفساد وترفض العنف، لكنها تتغاضى دائما عن التنظيمات الإجرامية العنيفة.
والواقع أن ما حصل من ترابط وتشابك للمصالح بين بنية المافيا ومؤسسة الكنيسة يعود إلى فترة سالفة في السياسة الإيطالية، انطلقت مع حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية. ذلك أن التحول الفعلي الذي حدث مع سنوات الخمسينيات للمافيا، وهو تشكُّلُ نوع من الوفاق السياسي المصلحي بين أطراف سياسية مقرَّبة من الكنيسة وأرباب المصالح والأعمال، تركّز في باليرمو وامتد إلى مناطق أخرى في الجنوب. انجر عنه نوع من الغطاء السياسي الذي تمتّعت به المافيا من قِبل حزب الديمقراطية المسيحية المهيمن على الساحة السياسية، مما وفّر بيئة ملائمة لتفريخ العديد من الأصناف المافيوية: "كوزا نوسترا"، "إندرانغيتا"، "الكامورا"، "ساكرا كورونا أونيتا". حيث بقيت المافيا، على مدى عقود ولازالت، بنية خدمات، مفتوحة عبر عدة قنوات على عالم السلطة الرسمية. والكتاب لا يتّهم الكنيسة بمساندة المافيا أيديولوجيا، بل يتّهمها بمعاضدتها ماديا. فعلى ما يرصد سالز ثمة تناغم بين العقلية الجنوبية والسلوك المافيوي، ذلك أن الأقاليم الأكثر التصاقا بالتقاليد الكاثوليكية (الواقعة بين صقلية ونابولي) هي التي شهدت ميلاد أصناف المافيا الرئيسية في إيطاليا وتطورها، وقد تم ذلك الربط بين الثقافة والمكان أن مجمل المتهمين بالانتماء إلى الأوساط المافيوية غالبا ما كانوا يعلنون التزامهم بالتعاليم الكاثوليكية. لكن ينبغي ألا نغفل أن مجمل التحليلات التي ربطت بين الجنوب والدين والمافيا، وألحت على ذلك، قد وردت من كتّاب يساريين. نجد من بينهم ثلّة من الكتّاب المعروفين مثل سيموني غاتو، وميكيلي بانتاليوني، وليوناردو شاشا، يحفزهم في ذلك ربط التواطؤ الحاصل لحزب الديمقراطية المسيحية المهيمن في ذلك العهد بالمافيا. حولوا بمقتضاه الكنيسة وذراعها السياسية، حزب الديمقراطية المسيحية، إلى "مؤسسة خطيئة"، كما يقول لاهوت التحرير، ذلك ما يدور حوله تقريبا المحور الثالث من الكتاب.
المحور الرابع والأخير "أشداء في الخطيئة متسامحون مع المذنِب" يستعرض الكاتب من خلاله آراء متنوعة ذهبت في تحليلها لظاهرة الجريمة المافيوية، أن التنظيم قد وجد بيئته الاجتماعية المناسبة للتطور في الجنوب الإيطالي، لكونه تشكيلا إجراميا تقليديا. فالانضمام إلى المافيا يشبه الالتحاق بتنظيم ديني، يقتضي ولاء تاما وقسَماً، يماثل التعميد لدخول الكاثوليكية. ولذلك يرى الكاتب إيسايا سالِز مجافاة جملة من القراءات السوسيولوجية الصواب في تقييم ظاهرة المافيا والنظر إلى هذا التشكيل الإجرامي، كونه يسير نحو الانقراض بسير المجتمع نحو التحديث والعصرنة. وهو بخلاف ما يلاحظه سالِز من ازدياد تشعب شبكة المافيا وتمددها، حيث باتت تتواجد في قطاعات متنوعة وتعمل في مجالات متباعدة، كما تبدلت أشكال أنشطتها، أو لنقل استفادت من الحداثة أكثر مما تضررت. يدعم ذلك تقسيم المافيا إلى صنفين: تقليدية يتمحور هدفها في البحث عن الوفاق أكثر منه في جني الأرباح، وبالتالي فهي مافيا شرفية أكثر منها مافيا مصلحية؛ وهناك مافيا حديثة، أي مافيا أعمال، مهووسة بتكديس الثروة ومشغولة بالتوغل والتحكم في الأوساط التي يمكنها الإسهام في ذلك.
وعلى ما يرصد سالز يمتد عمر التنظيمات المافيوية في إيطاليا إلى حدود مئتي سنة، فهي متجذرة في صلب بناء إيطاليا الحديثة. ومن هذا الباب فإن اجتثاث الجريمة المنظَّمة في البلد هو أمر في غاية الصعوبة والتعقيد. فليست المافيا مجرد أنفار، بل هي ثقافة ومؤسسة لصنع الجريمة متكاملة الحلقات، ولذلك تعذرت هزيمتها وإن حصل تحجيم وتطويق لها عبر الزمن. فقد حصلت أشكال من الهدنة والمصالحة والتوبة أيضا. ويقدّر نسبة اقتصاد الجريمة، على غرار المتاجرة بالسلاح وصنعه، وترويج المخدرات، والمتاجرة بالبشر (مومسات) بنسبة تفوق العشرة بالمئة من الدخل الوطني الإيطالي (ص: 270). صحيح أن هناك خبراء في مقاومة المافيا وفي التصدي للجريمة المنظمة في إيطاليا، يعملون دائما على تفكيك تلك التجمعات وتفتيتها، ولكن سرعة تشكل التجمعات مجددا واستئناف أنشطتها، يكشف عن تواجد ثقافة سائدة وحاضنة اجتماعية مناسبة للجريمة في العقلية العامة. ويمثل السلوك المافيوي، وفق الكاتب، شكل حضور المجتمع الصقلي، على جميع الأصعدة.
يختتم الكاتب كتابه بتناول ما عُرف بتصدير المافيا، فقد نال التنظيم شيئا من الاهتمام من قِبل باحثين أمريكيين مع نهاية القرن التاسع عشر، نظروا فيه إلى المافيا بوصفها منظمة سرية على صلة بمؤامرة خارجية، لم تخل من كيل الاتهام للحكومة الإيطالية حينها الراغبة في التخلص من الأشرار الخطرين. كما رصدت بعض الأبحاث الطابع المافيوي والسلوك غير القانوني المستشري بين فئة المهاجرين الإيطاليين نحو أمريكا، لكن انتقادات توجهت إلى محاولة تجريم جالية بأسرها، كون السلوكات غير القانونية التي رافقت المهاجرين الأوائل إلى الولايات المتحدة هي تجاوزات معتادة للجاليات المهاجرة قبل الاندماج.
---------------------------------------------------------
الكتاب: رهبان الكنيسة وأباطرة المافيا: تاريخ علاقة المافيا بالكنيسة الكاثوليكية.
المؤلف: إيسايا سالِز
الناشر: روبتّينو (كاتنزارو-إيطاليا)
اللغة: الإيطالية
سنة النشر: 2016.
عدد الصفحات: 336ص.
