لألان باديو
مُحمَّد الشيخ
لطالما فكر الفلاسفة -قدماؤهم ومحدثوهم- في موضوع "الحرب" من هرقليطس إلى ميخائيل فالتزر، فضلا عن أنَّهم فكروا في أجناس الحرب من "حرب أهلية" (من أفلاطون إلى أجامبن)، و"حرب مشروعة" (فيشته)، و"حرب عادلة" (من القديس أوغسطينوس إلى فالتزر مرورا بالفارابي وابن رشد...وغيرهم كثير). لكن، ما قد لا نجد فلاسفة فكروا فيه -اللهم إلا قلة معدودة على رؤوس الأصابع- هو موضوع "الإرهاب". ولئن كان بعض الفلاسفة المحدثين قد كتبوا عن الإرهاب، فإنهم اهتموا بالإرهاب السياسي الذي كان قد اجتاح أوروبا في السبعينيات من القرن الماضي (بادر ماينهوف في ألمانيا، والألوية الحمراء في إيطاليا...). وكان أن تفرَّد عندنا في العالم العربي أدونيس العكرة لما أنجز أطروحته حول الإرهاب السياسي.
واليوم، ومنذ أحداث 11 سبتمبر على الأكثر، راح الفلاسفة يفكرون في موضوع "الإرهاب"؛ فكان أن دار نقاش عميق قوي بين الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس والفيلسوف الفرنسي جاك دريدا حول موضوع "الإرهاب" ـ "مفهوم 11 سبتمبر" (2003) ـ وكان أن كتب فيه المفكر البريطاني تيري إيغلتون كتاب "الرعب المقدس" (2005). وأخيرا، طلع علينا الفيلسوف الفرنسي ألان باديو بكتاب عبارة عن تأملات في الإرهاب الذي شهدته فرنسا في أحداث 13 نوفبر التي أصابتها بمقتل تحت عنوان: "داؤنا يأتينا من بعيد" (2016).
والحقيقة أنَّه لا يتضح عنوان هذا الكتاب -الذي كان في الأصل محاضرة ألقاها الفيلسوف مباشرة بعد الأحداث- إلا عند نهاية الكتاب. وهو مستوحى من عبارة قالها أحد أبطال مأساة فيدر -مسرحية الكاتب المسرحي الفرنسي الشهير راسين- في لحظة بوحه بحبه الذي كان في نظره حبا مجرما: "دائي هذا يأتي من بعيد"، فكذلك يرى الفيلسوف اليوم أن الداء -داء الإرهاب- يأتي من بعيد. وما كانت "بعيد" هذه مكانية، حتى يُساء فهمها فيفهم منها أن داء الإرهاب الذي أصاب فرنسا أتى من بلدان بعيدة، وإنما هي "بعيد" زمانية؛ أي تعود إلى بداية ثمانينات القرن الماضي لما قررت الرأسمالية مصير العالم بعد أن فشل النموذج الشيوعي الذي كان يعارضها ويطرح أملا بديلا بالنسبة إلى الكثير.
وتأسيسًا عليه، يُعلن المؤلف أنَّ محاولته في عمله هذا عبارة عن رغبة في توضيح شامل لما حدث. وهي محاولة سوف يسعى من خلالها إلى معالجة هذا القتل الجماعي بحسبانه أحد الأعراض الحالية لداء خطير أصاب العالم المعاصر برمته، كما سوف يشير إلى السبل الممكنة لعلاج طويل الأمد لهذا الداء المستحكم الذي يعتبر تناسل أحداث من هذا القبيل في العالم عَرَضا خاصا شديد العنفية قوي الإثارة. وسوف يخصص الفقرات الأولى لتشخيص الوضع والفقرة الأخيرة لتوصيف علاج له:
1- بنية العالم المعاصر:
يمكن توصيف بنية هذا العالم المُوَلِّدة لمثل هذا الحدث حسب ثلاثة معالم متواشجة؛ هي:
· ما نشهد عليه منذ ثلاثة عقود هو انتصار الرأسمالية المعولمة. وتجليات ذلك بادية للعيان: عودة ضرب من الطاقة البدائية للرأسمالية باسم الليبرالية الجديدة. ذلك أن انتصار الرأسمالية المعولمة إنما هو نوع من الطاقة المتجددة والمقدرة المستعادة على المستوى العمومي الصريح وبلا خجل للسمات العامة لذلك النمط من تنظيم الإنتاج ومن المبادلات ومن الشركات بعامة، وكذلك ادعاؤها أنها السبيل الوحيد المعقول للمآل التاريخي للبشرية. وجديد هذه الرأسمالية التي ظهرت بإنجلترا نحو نهاية القرن 18 أنها تعولمت بحيث أمست بنية شمولية مهيمنة على العالم قاطبة. والأمارة على ذلك هذه السوق العالمية التي أضحت المرجع في كل شيء. ما إن تُمس بورصة شنجهاي بعطب حتى تتداعى لها سائر أسواق العالم. لقد بات الرأسمال لا يقبل أي حد، أي منطق آخر سوى منطقه، لا منطق مراقبة الدولة، ولا منطق التنازل للنقابات، ولا منطق الامتناع عن التمركزات الصناعية والبنكية، ولا منطق القوميات الجزئية، ولا منطق مقاومة الاحتكار، ولا منطق منح الحقوق الاجتماعية... كل هذه المحددات سائرة إلى أن تُلغى، وكل شيء سائر إلى الخصخصة، رغم أننا لا ننتبه إلى ما تشكله الخصخصة من آفات ـ ليس أقلها تصيير العمومي خصوصيا. والفيلسوف يعتبر أنَّ الانتصار الموضوعي للرأسمالية المعولمة بمثابة ممارسة مدمرة عدوانية أمام ضعف المقاومة وتحجيم دورها وتراجعها المستمر. لقد انطلق منطق الرأسمال من عقاله، وتحررت التحررية. وكان أن اتخذ هذا التحرر شكلين (التمدد والتركز): العولمة بما هي الانتشار الموصول للرأسمال في بلدان كاملة، مع تركز هذا الرأسمال في نفس الوقت بين أياد بعينها. وهكذا أمسى الحديث عن "وطن" شأن فرنسا -أمام شركة "طوطال" التي لم تعد تؤدي ضرائب للدولة- أمرا لا معنى له. وحدث أن رافق هذا الانتصار "الموضوعي" للرأسمالية انتصار "ذاتي" تمثل في الاقتلاع التام لفكرة طريق آخر كوني وشمولي ونسقي ممكن: الكل استسلم أو كاد، بما في ذلك "الشيوعية".
· ضعف الدول: وهذه نتيجة للأولى؛ فبالموازاة مع ما كانت توقعته الماركسية من أفول للدولة، ها هي الرأسمالية اليوم تشهد على عملية مَرَضية رأسمالية لأفول الدول. ها نحن أولاء رأسمالية تعلو فوق الدول وقد اتخذت شكل شركات عملاقة. وذلك حتى ما عادت الدولة سوى القهرمانة المحلية لهذه البنية العالمية الموسعة.
· أمستْ ثمة ممارسات "إمبراطورية" جديدة يجسدها الانتشار العالمي للرأسمالية، بما كان من أمره أن شكَّل وجوها جديدة من أوجه الإمبريالية؛ أي من أوجه غزو الكوكب. ذلك أن الإمبرياليات القديمة كانت تمارَس تحت شعار الدولة القومية التي كانت تتقاسم بقية العالم تقاسم كعكة، لكن صارت اليوم تمارَس باسم الحفاظ على مصالح الغرب وفرض الوصاية على دول، بله إضعاف دول أخرى وتركها نهبا للشركات العالمية. كلا، مَن قال إن فوضى الدول والفظاعات تسير في تناقض مع بنية العالم اليوم؟ ألم تعد داعش قوة تجارية ومشروعا تجاريا كفئا ومتعدد الأشكال؟ أنظرها ها هي تبيع البترول والتحف الفنية والكثير من القطن، وإنها لقوة إنتاج قطن ضخمة. على أية حال، ما كانت داعش هي من تبتاع من نفسها القطن! فلكي نبيع لا بد من وجود اثنين. هكذا أمست الممارسات الإمبراطورية الجديدة تقتضي تدمير الدول. وهكذا لجأ الرأسمال إلى "تقطيع" مناطق وجعلها بلا دول.
2- الآثار على الساكنة:
الأثر الأول المثير أنَّ ثمة تنمية غير متكافئة لم يشهد لها العالم من نظير؛ مما يؤثر على الديمقراطية: 1% من الساكنة العالمية يملك 46% من الموارد. 10% هذه الساكنة تملك 60% من الموارد. 50% منها لا تملك فتيلا -وهم المدعون "البرابرة" اليوم. والطبقة الوسطى -عصب الديمقراطية- تمثل 40% من الساكنة وتتقاسم 14% من الموارد العالمية. وهي توجد أساسا في الدول المتقدمة، وتشكل ما يسمى "المتحضرين" ويتشدق مفكروها بالقول: "نمط الحياة الغربي ليس يقبل التفاوض".
الأثر الثاني أنَّ ثمة حوالي أكثر من مليارين من البشر لا يعدون شيئا بالقياس إلى الرأسمال؛ أي لا يحظون بأية تنمية بنيوية. فهم في عداد اللا شيء، بل إن عدمهم أفضل من وجودهم. هم عند الرأسمال لا مستهلكون ولا قوة عمل، لأنه عند الرأسمال ثمة وجود فقط لفريقين: إما أن تكون مالكا للرأسمال -الأوليغارشية- أو تكون عاملا أجيرا، حتى تربح فتيلا من المال ثم تستهلك ما يصنعه الرأسمال. هويتك مُبَنينة بالرأسمال، وهي هوية مزدوجة: أجير ومستهلك. وملياران من البشر لا من هؤلاء ولا من أولئك. ولا يريد الرأسمال تأجيرهم لأنه لا يريد خفض ساعات العمل. ويشاع أنهم يريدون غزو أوربا المتحضرة، لذلك ينبغي حصرهم في مناطق عزلا بلا أية حماية، بلا دولة بعد أن دمرها المفترسون الغربيون، وتركهم يلقون حتفهم على يد عصابات وقطاع طرق من الصنف الفاشستي ذي اللون الديني على شاكلة داعش وأخواتها. وقد شكل الدين دوما دريئة يحتمي بها أمثال هؤلاء، ولا يشكل الإسلام بدعا من هذا، فقد تُوسلت المسيحية أيضا دريئة لفاشستية فرانكو ولمافيا إيطاليا المتدينة.
3- الذاتيات الانفعالية:
في ظل هذه الأوضاع يتخذ رد فعل الذاتية البشرية -أي ألوان الوجدان والاعتقاد والقناعة عند بني الإنسان- ثلاثة أشكال:
أ- الذاتية الغربية: هي ذاتية أولئك الذين يتقاسمون 14% التي تركتها الأوليغارشية المهيمنة لهم. إنها ذاتية الطبقة الوسطى المتمركزة أساسا في الدول الأكثر نموا. وهذه الذاتية تعيش ضربا من التناقض: من جهة هي راضية الرضا العظيم عن نفسها تقف خلفه عجرفة تاريخية (بقايا ماض استعماري)، ومن جهة أخرى يستبد بها خوف من أن تفقد امتيازاتها بسبب جشع الأوليغارشية وحروبها الموصولة. وما تعمل عليه الحكومات الديمقراطية هو فن تدبير هذا الخوف بإيهام هذه الطبقة أن الخطر قائم من جهة العمال الأجانب وأطفالهم واللاجئين وساكنة المدن الغميقة والمسلمين المتعصبين.
ب- ذاتية الرغبة في الغرب: هي ذات من يرغب في مشاطرة ما يُعد أنه الرخاء الغربي. يتعلق الأمر بمحاولة تبني سلوك الطبقة الوسطى الغربية القائم على الاستهلاك، ومن هنا هذا الإقبال على الغرب من لدن المهاجرين، أو تقليد نمط الحياة الغربية بوسائل بئيسة من لدن من بقي في بلده ولم يهاجر.
ت- ذاتية العدمية: وهي الناجمة عن رغبة في الانتقام والتدمير لهذه الحياة الغربية مزاوجة بالرغبة في المغادرة وفي التقليد المستلبين. وهذه الرغبة العنيفة في الانتقام من الطبيعي أن تعبر عن نفسها في أساطير رد فعل، في نزعات تقليدية تمتهن الحياة الغربية، ماسكة السلاح في يدها. وإنها لعدمية إنسان ما عادت حياته تساوي شيئا. وخلف هذه الرغبة في تدمير الغرب تثوي رغبة في تقليده. فمخافة السقوط في غواية الغرب، يقاتل العدمي هذا الغرب نفسه.
4- الفاشستية المعاصرة:
الفاشستية هي ذاتية ردة الفعل. وهي خيبة أمل في الغرب وقد استحالت له عدوة؛ وذلك لأنَّ رغبتها في الغرب لم تُرْضَ. وهي تتخذ شكل نزوع إلى الموت، وقد تبنى لغة هوياتية. والدين هو المكون الذي تستثمره، وإن كان منها براء. وتتوسل عمليا صبغة منطق عصابات وقطاع طرق مجرمين، مع غزو دائم للأراضي التي تحضنها وتمارس فيها أعمالها وتجارتها، مثلما يتصرف بائع المخدرات في منطقة نفوذه. ولكي تبقى صامدة في مغزاها تحتاج إلى فرض فرجة القسوة (جز الرؤوس)، وإلى إعمال السلب والنهب، وإلى إعادة تدوير الأشياء داخل السوق العالمية، مثلما تفعل المافيا. إنما داعش شركة تجارية كبرى ما تفتأ تبيع البترول والتحف الفنية والقطن بل وحتى الأسلحة وأشياء أخرى، ومرتزقتها أُجَراء مع امتيازات إضافية ناتجة عن النهب وعن استعباد الأسرى والأسيرات. فإذن هذا النمط من الوجود يبقى داخل حدود البنية الرأسمالية المعولمة. وهو يشكل إغراء لأبناء الهجرة، لشباب يعتبرون أنفسهم بلا أفق، وبلا مكانة في المكان. وما تقترح عليهم الفاشستية مزجة من البطولية التضحوية الإجرامية وإرضاء الحياة الاستهلاكية على النمط الغربي: أجور أفضل، نساء، سيارات... وما كانت الأسلمة هنا سوى خاتمة، وليست البداية. فالفاشستية هي التي تتأسلم، وليس الإسلام هو الذي يتفشست.
5- من هم القتلة؟
إنَّهم كأي شباب فاشستي من أصحاب شعار: "فلتحيى الموت!" جمعوا بين القسوة، والسعي إلى جني الفوائد الصغرى، وإرادة عيش حياة الملاهي والسيارات الجميلة والمال والبنات... قتلة اليوم هم الذاتية الفاشستية المنفصمة، نتاج رغبة في الغرب عانت الحرمان، يتصورون أن ما يحركهم هو هوى معاداة الغرب، ولكنهم ما كانوا سوى أحد الأعراض العدمية للفراغ الأعمى الذي خلقته الرأسمالية المعولمة.
وما كان عملهم ضربا من العمل المنظم مثلما كانت تعمل حركات مقاومة النازية أو الفاشية، وإنما هو يهدف إلى البهرجة. اعتبر أصحابه أن حياتهم لا تعد، ولأنها لا تعد فلا تعد حياة الآخرين أيضا. وها هم يحرقون حياتهم في بطولية سخيفة ومصطنعة وإجرامية. وإنه لقتل جماعي فظيع ينضوي فيه القاتل نفسه؛ أي يَنْقَتِل. وإنه لنازع الموت إذ يعبر عن نفسه، فما يعود ثمة شيء، لا ضحايا ولا قتلة.
لكن، هل يمكن أن نسمي فاعليه "برابرة"؟ الذي عند المؤلف أن الغربيين أنفسهم قد مارسوا وما زالوا يمارسون أعمالا بربرية. وذلك شأن القتل الجماعي بطائرات بلا طيار، والتقتيل الجماعي في صراعات العراق وأفغانستان أكبر من أن يعد، وقتلى غزة بلا حسيب.
6- رد فعل الدولة.. "فرنسا" و"الحرب":
أعلنتْ الدولة الفرنسية "الحرب على الإرهاب" مدغدغة بذلك عواطف الطبقة الوسطى. ويرى المؤلف أن لفظ "الحرب" استعمل في غير محله، كما يبالغ في إثارة النعرة القومية. إنما "فرنسا" أمست اليوم دالا من غير مدلول. ما هي "فرنسا" اليوم؟ ممثل من الدرجة الثانية في بنية العالم القائم. وما "القيم" التي يتشدق بها بعض مثقفي الطبقة الوسطى؟ لئن كانت لها من قيم فهي قيمة إرثها الثوري. لكن كل شيء انتهى منذ الثمانينيات. فما عادت فرنسا تمثل قيم الثورة. إنما من يمثل اليوم فرنسا هم مثقفون يجمدون على الهوية جمودا ينتهي إلى اضطهاد الغير، وقوانين تمييزية ضد فقراء صنعتهم فرنسا نفسها (قانون منع ارتداء الحجاب في الأماكن العمومية) بعد أن استقدمت آباءهم إليها وما عادت تحتاج إليهم اليوم. أما عن "الحرب" فليس "البرابرة" هم من أعلن الحرب، وإنما الدولة الفرنسية هي التي ذهبت إلى الحرب لمساعدة الشركات الكبرى مدمرة ممزقة خالقة لمناطق بلا دول.
7- شرائط عودة سياسة تحرر بمعزل عن خطاطة العالم المعاصر:
يتساءل ألان باديو في الختام: كيف يمكننا في ظل مثل هذه الظروف أن نحاول بناء "فكر مختلف؟ بل كيف يمكننا أن نخرج من هذا الوضع؟ والذي عنده أنه يجب، أولا، الخروج من الفضاء الخاص -فرنسا- إلى فضاء أرحب-العالم؛ أي إيجاد طريقة تفكير كونية تكون في مستوى تحدي العولمة الرأسمالية. فلا سبيل إلى بقاء الفرنسيين منكفئين على أنفسهم يعيشون في عزلة عيش عداء لمن هم بين ظهرانيهم. ومن هنا، يدعو إلى ضرب من العصيان المدني -عدم التصويت، عدم الالتفات إلى ما يقوله الحكام-نكاية في دولة أمست مجرد خادمة للرأسمال المعولم.
ذلك أنَّه لا يتعلق الوضع حقيقة بصراع بين الخير والشر والحضارة والهمجية، وإنما بجزء من الغرب انقلب على الغرب نفسه. لقد عجز الغرب عن خلق فضاء ذاتي قابل لسكن مجمل شباب العالم. وليس هذا يعني تسويغ أية جريمة فاشستية، فالفاشستية بكل أشكالها فظاعة. لكن ينبغي فهم هذا التناقض: التناقض بين عدمية الفاشستية القاتلة وبين تطور الرأسمالية المعولمة الإمبراطوري المدمر. ولا ينبغي أن نبقى "منفعلين" في هذا العالم، وإنما المطلوب سياسة جديدة تكون بمعزل عن احتواء هذه الرأسمالية لها. الغياب هو مُنشئ الشبيبة الفاشستية والنزعة النهبية والهلوسات الدينية. هو هذا الداء الذي أتانا من بعيد، وليس من الهجرة، أو من الإسلام، أو من الشرق الأوسط، أو من إفريقيا المنتهَبة.
ويبقى المفكر الفرنسي ألان باديو، كما صرح بذلك في آخر الكتاب، صاحب نزعة تفاؤلية لا هوادة فيها، لكنه يصرخ وكأننا في مسرحية وقد أوشكت آخر فصولها على الانتهاء: الوقت يزحم، الوقت يزحم.
----------------------------
- الكتاب: "داؤنا يأتينا من بعيد (التفكير في مقاتل 13 نوفمبر)".
- المؤلف: ألان باديو.
- الناشر: "فايار"، باريس، 2016م.
- اللغة: الفرنسية.
