لبوب نيون
محمود عبدالغفار *
غُلاف الكتاب يحمل بالفنط الصغير الأسود سطرًا هو "الراهب بوب نيون"، متبوعًا بعلامة الملكية أو النسبة التي تنسب كلمة "السعادة" بالفنط الأبيض الكبير إلى الراهب بوب نيون. حرفيًّا؛ السعادة عند الراهب بوب نيون. وتحت هذا العنوان صورة مرسومة لقدمين، وبعض وجه ويد يمنى، وسط ورود على هيئة قلب وتحتها ثلاثة أسطر، بالأسود؛ السطر الأول يقول: معلمي! من أَيْن تأتي السعادة المنقادة؟ ثم في السطرين باللون الأحمر: ما طبيعة الحياة التي تعيشها؟ فلكل إنسان الحق في أن يعيش سعيدًا. لكن لا تضع سعادتك على حساب سعادة الآخرين. الغلاف باختصار كاشف بوضوح عن طبيعة الكتاب، وهوية مُؤلفه بشكل يغني عن الكثير جدًّا من الوصف.
مقدمة الكتاب تتناول تطوافًا مُهمًّا بأسلوب مُمتع وبسيط، في الوقت نفسه، حول مفهوم "السعادة"، ولكنها تعرف أولاً بهوية الكاتب، فلربما يتساءل أحد القراء -وهذا حقه المشروع- مَن هذا الذي يحدثنا عن السعادة؟ ألديه من المؤهلات والخبرات ما يجعله قادرًا على الحديث إلينا حول قيمة نبحث عنها جميعًا؟ ثم بأي أسلوب يحدثنا؛ العارف المتعالم المُلم بكل شيء، أم الحكيم المتواضع الذي يمرر خبراته بمحبة لغيره؟ أيبدو عليه أنه سعيد ومتصالح مع نفسه على النحو الذي تعكسه عباراته في محاضراته وكتبه؟.. أسئلة كثيرة قد تتبادر إلى ذهن القارئ يُجاب عنها بدءًا من المقدمة، ولعل غلاف الكتاب نفسه قد أجاب عنها ولو نسبيًّا.
تنقَّل "بوب نيون" إلى بقاع بلاده ليلقي المحاضرات، ويتحدَّث إلى الناس لما يقرب من ثلاثين عامًا. كانوا يسألونه عادة عن كيفية القيام بالعمل على النحو الذي يحقق النجاح ويؤدي لرغد العيش، وعن كيفية اختيار شركاء الحياة عند الإقبال على الزواج، وكيفية تربية الأطفال، وكيفية التغلب على مشكلات الحياة في العمل والمنزل والمجتمع المحيط بشكل عام. يقول المؤلف: صحيح أنَّ الأسئلة متنوعة ومختلفة، لكنها تصب في مجرى واحد وهو: "كيف نكون سعداء؟"؛ لذا فقد اختار بعناية أهم تلك الأسئلة ليجيب عنها خلال هذه الصفحات، راسمًا صورة أو لنقل "دليلاً إرشاديًّا" لما نطلق عليه "السعادة".
المؤلف "بوب نيون" ناشط اجتماعي وراهب بوذي يسعى لتثقيف الناس على المستوى العقائدي، ويناضل لأجل حقوق المرأة، بل وحقوق الإنسان بشكل عام، كما يَدْعَم الجهود الكورية والعالمية في سياق القضاء على الأوبئة وانتشار الأمراض. مُستفيدًا من خبرات خاصة لسنوات طويلة اكتسبها، بل ومارسها، من التعاليم البوذية المنضبطة، والتي انعكست بشكل واضح على أسلوبه في تدريب الناس للسيطرة على ذواتهم والتغلب ما يواجهونه من صعوبات، والعمل على تصفية أذهانهم وتنقية أرواحهم من أدران الصراعات المادية والحسية. بدأ "بوب" هذا المشروع الفكري منذ 1988م مستفيدًا من التعاليم البوذية في اتجاهين: اتجاه العقيدة نفسها؛ حيث علاقة الفرد الذاتية بما يؤمن به ويمارسه تجاه نفسه بشكل خاص. واتجاه الحراك الاجتماعي في إطار علاقة ذلك الفرد بغيره مما يشاركهم العيش في المكان والزمان. وهو ينتمي إلى اتجاه في الفكر البوذي يجمع بين العقيدة والاندماج في المجتمع لخدمته. فالبوذية عند هذا الاتجاه ليست رهبنة وانعزالاً عن المجتمع كما كان في الماضي؛ حيث كانت المعابد تبنى في قمم الجبال بعيدًا عن الناس. وبالتالي فالتعاليم والصلوات في هذا الاتجاه تهدف لإدماج الفرد الصالح في المجتمع. هذا الاتجاه الإصلاحي معني مثلاً بتحقيق الوحدة بين شطري كوريا شمالاً وجنوبًا، كما أن أعضاءه يقومون بأنشطة دولية في مجال المساعدات الإنسانية للعديد من بلدان العالم. ولهم منظمة في كوريا الجنوبية تقوم على عدة أسس أو مبادئ؛ هي: الأنشطة الدولية الفعالة، والأصدقاء الطيبون، وأصداء بوذا. وتعرف اختصارًا بمنظمة "جي.تي.إس". وقد فاز المؤلف بجائزة "رامون ما جسايساس" عام 2002م، والتي تعدُّ من أرفع الجوائز التكريمية في آسيا في إطار الارتقاء بالروح وتنمية مهارات الفرد للضبط والتأقلم والقيادة ونكران الذات وبذل الجهد لإيجاد حلول للتغلب على المشاكل المجتمعية والإنسانية بشكل عام.
الكتاب في هذا السياق واحد من سلسلة كُتب تتعلق بكيفية ترويض النفس والتغلب على المشكلات والصراعات الاجتماعية في العالم المعاصر الذي تلتهم قيمه المادية بشراسة إنسانية الإنسان. يبدأ المؤلف بالحديث عن "مصدر" السعادة، من أين تنبع وكيف يمكن استثمار وجودها؟ السعادة تنبثق باختصار من النقطة التي عندها يتم الارتقاء بالبصيرة، بحيث يستطيع المرء أنْ يرى الأشياء من منظور أكثر عمقًا. فإذا أردت أنْ تكونَ سعيدًا عليك أنْ تعرف أولاً لماذا تحسّ بالتعاسة. هذا أول الخيط الذي يرشدك لموضع السعادة، وهذا بالضبط ما يحاول الكتاب عمله عبر نقاط محددة وعناوين فرعية كثيرة يتم شرح كل منها بغاية السلاسة والهدوء مع ضرب الأمثلة من مصادر ثقافية ومعرفية متنوعة تثري أسلوب الكتاب وتزيد من متعة قراءته.
الخطورة المتعلقة بإحساس الفرد بالخواء وتناقص الإنسانية في عالمنا المادي المعاصر -كما يقول المؤلف- ليست أنك أمام مشكلة فردية، بل أمام مشكلة مجتمعية وعالمية؛ لأنَّ المجتمعات التي يتشكل منها العالم في النهاية هي مجرد أفراد. ثم يضيف قائلاً إنه ربما عبر رحلته الطويلة في التحدث إلى الناس قد أجاب عن الكثير من الأسئلة، ولكنه لا يزال يرى أن الطريق طويل. أول ما يبدأ به دليله الإرشادي للسعادة بعد أن حدد مصدرها هو أهمية النظر إلى الأمور من منظور مختلف يتجاوز أحادية الرؤية؛ فيقول: بالنسبة لمن ينظرون للأمام فحسب، ماذا عن الخلف؟ ولمن ينظرون إلى الخلف فحسب، ماذا عن الأمام؟ ومن ينظرون إلى السطح فقط، ماذا عن العمق؟ ولذا فإن تخليت -ولو مؤقتًا- عن اليقينية والموثوقية فيما تعرفه عن الأشياء، ربما قد تراها من منظور جديد يساعدك في التغلب على ما تسببه لك من مشكلات. وبالتالي؛ فعندما تكتسب الحكمة لترى الأشياء من كل الزوايا، سيكون باستطاعتك أنْ تدركَ أنّ معاناتك في طريقها إلى الزوال. لأنَّ الأمرَ أشبه تمامًا بغرفة مظلمة، لو تأملتها كلها جيدًا لوجدت مفتاح الإضاءة بمكان ما، وحالما ضغطته انقشع الظلام تمامًا. هذا الأمر متعلق أيضًا بالإحساس بالسعادة -الذي حسبما يعتقد المؤلف- مرتبط برؤية الأشياء من كل الجوانب الممكنة. ويتعلق به أيضًا تجاوز السور أو السياج المسمى "أنا"؛ لأجل تدريب الذات على توسيع مدى الرُّؤيا وأبعادها لتشمل الاتجاهات كلها. فالبقاء داخل سياج الأنا يجعل المرء متعصبًا لذاته ولرأيه الواحد. صحيح أنَّ سعادة الفرد ملك له وحده، وتحقيقها مرهون بيده وحده، لكن ذلك لا يتأتى ولا يتحقق أبدًا مع انعزال ذلك الفرد وراء ذاتيته فحسب.
وفي الفصل الأول بعنوان "لماذا لا تسير حياتي على النحو الذي آمله؟"، يتناول عددًا من النقاط؛ أهمها: الاختيار وتناقض الذات. على سبيل المثال؛ لو أنّ راهبًا استأجر راعي أغنام لكي يرعى غنمه هو دون مشاركة ووعي بما يجري هناك، سوف يخسر هدفه أو أهدافه لفرط قناعته الشخصية التامة أنه أسند الأمر إلى أهله، وبالتالي صار واثقًا من أن الأمور كلها في أمان تام! لقد تخلّى عن واجباته ولهذا خسر تدريجيًّا معنى الحياة. صحيح أن الثقة والقناعات مهمان جدًّا للمرء، ولكن يجب توظيفهما في المكان والزمان المناسبين باستمرار. فعلى المرء أن يتأمل ذاته وأن يتساءل حول الأشياء الجيدة التي يعتقد الآخرون أنها جيدة بالنسبة لهم ومن منظورهم الخاص. لأن اكتشاف جودة هذه الأشياء من عدمه مرهون بعودة المرء إلى مكانه هو الخاص، لا بوقوفه في المكان الذي يقف فيه الآخرون.
لو تساءلت عن الواقع والخيال أو الحقيقة والمثال! يقول المؤلف لو تأمل الفرد ذاته وعمله وشعوره لأمكنه أنْ يجد ما يحبه ويعرف ما الذي يريده. أما بشأن المثال والواقع، فعلينا التخلي عن فكرة أنهما نقيضان. فالرغبة في القيام بشيء (مثال أو خيال) تتحول إلى (واقع أو حقيقة) عندما تدخل نطاق التنفيذ. ومن ثمّ تخيل وخطط ثم ضع قدمًا تلو الأخرى على أرض الواقعية وواصل المسير. في هذا السياق أيضًا على المرء أن يستعد للمستقبل بالعمل وحسن التدبير، لا أنْ يجلس في انتظاره دون حراك على اعتبار أنه آتٍ لا محالة. ومن ثم -يوجه حديثه للقارئ- ادرسْ وابحثْ وواجه التحديات، فهذه كلها خطوات نحو الانتقال الفعلي للمستقبل.
على المرء أيضًا أن يخرج من سجن الوعي الزائف أو الخطأ عن نفسه وعن الوجود من حوله، وأن يهتم بالتفاصيل الصغيرة، فالحياة والوجود ليست أشياء عظيمة فحسب، بل ليست لها أية معانٍ خاصة. فالوجود هو الوجود فحسب، فلا تنتقص منه ولا تمنحه ما يزيده. وهو باختصار مثل وجود الأشجار والأعشاب وغيرها من عناصر الطبيعة. وفيما بتعلق بسِرِّ السعادة؛ فمن الأسرار الواجب التعرف عليها بشأن النجاح، أحد المدخلات المهمة للإحساس بالسعادة، أن الأشياء لا تنجح بذاتها، بل عندما توضع في السياق الملائم الذي تتناغم داخله مع بقية العناصر الموجودة فيه. هذا إلى جانب الحفاظ على إيقاع الحركة باستمرار، فالأشياء المحيطة والظروف والعوامل في تغير مستمر؛ وبالتالي لو بقيت ثابتًا وأصررت على ذلك بعناد ستشعر بصعوبة بالغة. فعندما تتخلص من هواجسك اعلم أن معاناتك سترحل أيضًا. ثم يمضي الفصل عبر عرض عدد من النقاط في جمل بسيطة ومعبرة وشديدة الأهمية في الوقت نفسه. إنها أشبه بحكم أو نصائح صادرة عن خلاصة تجربة عميقة بالفعل: تخلص من الجشع واطلب ما تحتاجه فحسب. فالذين لديهم قوة الاكتفاء بطلب ما يحتاجون إليه فحسب، لن يتمتعوا بالإحساس بالقناعة فحسب، بل لن يعانوا من خيبة الأمل في الإحساس بالفشل، لأنهم حتى لو فشلوا سيعاودون الكرَّة وسيجدون طريقًا آخر لتحقيق هدفهم بالحصول على حاجاتهم؛ مما يؤكد بالفعل أنهم يمتلكون تلك القوة التي أشرنا إليها من قبل. صفِّ عقلك؛ بمعنى استخدم قدراتك وقوتك في السيطرة عليه وتغييره، وتخلص من الكراهية وابتعد عن الصراعات، واعلم أنّ الطمع سلوك متناقض.
لكل شيء يحدث أسباب وراء حدوثه، وموقف أو سياق يحيط بذلك الذي يحدث ويلعب دورًا في إتمام حدوثه من عدمه، ويترتب على ذلك نتائج تعقبها مكافآت التحقق أو قد يتبعها العقاب. وليس حتمًا أن تتحقق النتائج وتأتي المكافآت فورًا ومباشرةً عقب وقوع الأفعال. فعلى سبيل المثال قد يخطئ البعض -هذا حدث له أسبابه وسياقه أيضًا- ثم تتأخر النتائج ويقع العقاب لاحقًا، بل قد يقع بعد زوالنا نحن. الأمر نفسه ينطبق على الأشياء الجيدة. لذا؛ فعندما تفعل شيئًا لا تنتظر النتائج مباشرة، بل لا تفعلها من أجل النتائج والمكافآت، افعلها لأنك تحب أن تفعلها وتريد أن تفعلها فحسب. لا تعتقد أن قيامك بالأفعال الجيدة فيه تفضُّل منك. بل عليك أن تفكر في أن تلك الأشياء الجيدة قد تكون تسديدًا لديون قديمة متعلقة بأخطاء وقعتَ فيها بقصد أو حتى دون أن تعرف بها أصلاً.
وفي الفصل الثاني بعنوان "العاطفة عادة مصنوعة"، يتناول عدة نقاط بالغة الحساسية والأهمية وبصياغات أقرب للغة الشعر، فيرى أن "الألم محتوم، لكن المعاناة اختيار". وفي هذا السياق من المحبذ أن يحرر المرء نفسه من المشاعر جيدها ورديئها كي يحتفظ بصفاء عقله ويعرف ماذا سيختار وما يترتب على اختياره من عواقب. كما يرى أيضًا أنّ الغضب ليس شيئًا يأتينا من الآخرين، بل شيء قابع في رؤوسنا وعلينا أن نتعلم كيف نتعرف عليه وكيف نجد موضعه تمامًا مثلما نحاول أن نفعل مع "السعادة". الفكرة هنا باختصار أن كل المشاعر يتم تصنيعها في رؤوسنا وبإرادة منا؛ لذلك علينا أنْ نتعلم كيف تتم عملية التصنيع تلك، ومتى يمكن إيقافها أو ضبطها. وعلينا أنْ لا ننسى دائمًا وضع الأحداث في إطار العناصر الأربعة الأخرى المصاحبة لها، والتي تمَّ ذكرها من قبل: الأسباب، والسياق، والنتائج، والمكافآت أو العقاب. فعند الغضب مثلاً، ربما لو تأملنا السياق جيدًا توقفنا عن فورة الرغبة في القيام بأفعال شريرة؛ لأننا سنكون قد وصلنا إلى مكانه وتعرفنا على وقت تشكله وحدوثه.
وفي إجابة عن تساؤل حول السبيل لتطبيب جروح الذات، يقول المؤلف إنَّ الألم ليس شيئًا سيئًا في المطلق، بل قد يكون فيه من الإيجابيات ما يحمل للمرء السعادة فيما بعد. ثم يعود من جديد للعناصر المتعلقة بالأحداث وأسبابها وسياقاتها ليقول إن ألم أو حزن اللحظة الراهنة ليس بالضرورة نتيجة لموقف آني، بل قد يكون بسبب استدعاء موقف من الماضي عبر الذاكرة؛ وبالتالي لو تفهم المرء أن سبب حزنه الآن موقف مُستدعَى من الماضي لربما تعلَّم أن الماضي قد انتهى وأنه يعيش اللحظة الراهنة، ومن ثم يكتسب مهارة التغلب على الألم. أما عن الألم المتولد عن الإحساس بالندم فيرى المؤلف أن الخطأ خطأ دونما جدال، لكن مواصلة الإحساس بالندم بسبب خطأ تم ارتكابه من قبل يعني أن المرء ما زال ملتصقًا بذلك الخطأ رغم أن وقته وسياقه قد انتهيا، وهذا الالتصاق لا نفع فيه على الإطلاق. وفي إطار الحديث عن الألم لأسباب متعددة، يأتي ذكر الألم الذي يتسبب فيه الخوف المتولد من الهواجس المتعلقة بالمستقبل الذي لما يأتِ بعد. صحيح أنه قادم لا محالة، ولكن لماذا الهواجس نحو شيء لم يقع حتى الآن؟ المشكلة هنا أن استدعاء الماضي وما يسببه من حزن، والهواجس من المستقبل وما تسببه من قلق تتم جميعها على حساب اللحظة الراهنة. إنَّ الإحساس بالسعادة مرتبط باللحظة الراهنة، وبالتالي على المرء أن يعيش لحظته وأن يقدم كل ما في وسعه خلالها، هذا هو السبيل الواضح لتحقق السعادة في المستقبل أيضًا.
ينتقل بعد ذلك لنقطة مهمة تتعلق بمسألة الإحساس بالدونية أو الوضاعة مقابل الإحساس بالتعالي والتسامي. ويَرَى أنَّ الصفتين من جذر واحد هو الآخرون. فالمرء يحس بالدونية أو بالتعالي؛ لأنه يضع معايير الآخرين في حسبانه، بل والأدهى من ذلك أنه يجعلها معايير حياته هو. يتعلق بهذه النقطة مسألة الإحساس بالثقة الذي ينبغي أن يكون مصدره التفكير الإيجابي في الذات وموقفها وموقعها مما يحدث لها أو تشارك في حدوثه لا من خلال معايير الآخرين، كما أشار من قبل. إنَّ أحد أهم القوانين في الحياة أن كل ما في الوجود يمر بمراحل الميلاد، ثم النمو والنضج ثم الذبول والموت. هذا لا يسري على الموجودات فحسب، بل وعلى المشاعر والأحاسيس أيضًا. فهي تولد وتنمو وتنضج وتذبل وقد تموت في حركة تشبه حركة الأمواج في لحظتي المد والجزر. هذا الصفات كلها يمكن للمرء أن يحولها إلى عادات، لقد أشار المؤلف من قبل إلى صناعة العادات داخلنا بأيدينا. وبالتالي فإن ما نصنعه بأنفسنا بوعي وإدراك كاملين يظل قابعًا فينا، ومن هنا على المرء أن يصنع العادات الإيجابية التي يعيها حتى تتحول تتدريجيًّا إلى عادات تحدث دونما وعي.
وفي الفصل الثالث -بعنوان "كيف يعيش المرء مع آخرين يفكرون بطريقة مختلفة عنه"- يرى المؤلف أنَّ الصراعات تبدأ من نقطة التشبث بالاختلاف بين المرء وغيره. صحيح أن هذا طبيعي في مواقف كثيرة، ولكن البقاء خلف سياج الذات، كما أشار من قبل، يحرم المرء من التعرف على الزوايا المختلفة التي تكسبه رؤية أو حكمة وثيقة الصلة بإحساسه بالرضا ومن ثم بالسعادة. يرتبط بهذا الأمر ما يتعلق برؤية الآخرين باعتبارهم أخيارًا أو أشرارًا في المطلق، وهذا تقسيم بالغ الخطورة والخطأ. فالإنسان، وكل إنسان، فيه الخير والشر اللذان يصدران عنه حسب المواقف المختلفة، مع التأكيد على أن أفضل الذين نراهم ونتعامل معهم لن يكونوا على ما يرام طوال الوقت. وفي هذا السياق، يؤكد المؤلف ثانية على ضرورة أن يعيش المرء حياته بالطريقة التي يراها لا على نحو ما يراه الآخرون. كما يقول في عبارة موجزة ومهمة إن الأخذ والعطاء المتبادل بين الأشخاص ليس علاقات إنسانية وإنما تجارة، هذا يأتي ضمن حديثه عن الاستعداد أو القابلية للعيش مع شريك الحياة، حيث يركز على أمور مهمة مثل التخلص من الأنانية الفردية والتصرف على النحو الأمثل في المواقف المختلفة، وضرورة الاستمتاع بالحياة من خلال قيام المرء بعمل ما يحبه لأن الحياة بمنطق المسؤوليات وحدها يجعل المرء خاويًا تمامًا. مشاركة الحياة مع شخص آخر تعني ضرورة الوضع في الاعتبار أنك لم تعد منعزلاً، بل لم يعد يحق لك أن تكون كذلك. فضلاً عن أهمية الانشغال بالحياة الخاصة مع ذلك الشريك دون تضييع الوقت والجهد في الانشغال بالآخرين. أهم ما يمكن الختام به في هذا الفصل هو أنَّ التناغم أو التآلف يعتبران أهم قيم بناء أسرة أو حياة ناحجة؛ فالغابة ما هي إلا أشجار تجمعت وتآلفت معًا.
وفي الفصل الرابع بعنوان "لا تبنِ سعادتك على تعاسة الآخرين وسوء بختهم"، فيه أنَّ النجاح الحقيقي ليس الذي نحققه على حساب ذواتنا في صفائها، وعلى حساب الآخرين في إيذائهم. النجاح الحقيقي أن نظل على طبيعتنا المثلى وألا نجرح أحدًا أو ندمره في طريقنا. وعلى المرء هنا أن يكون حذرًا من حدود رغباته في النجاح، لأن الرغبة عادة قد تشعل نيرانًا لا يمكن إخمادها دون خسائر فادحة. المشكلة الأكبر أن الرغبات يعقبها عادة طمع يجرف كل ما في طريقه دون هوادة. وهنا يضرب مثالاً باثنين من الصيادين تمكنا من الإمساك بثلاثة أرانب، فكيف سيتم تقسيمها بينهما؟ أهم النقاط التي يمكن أن نختتم بها هذا الفصل هي النقطة التي ذكرها من قبل بشكل آخر؛ الانشغال بالذات لا بالآخرين، وبالتالي فقبل أن تنتقد غيرك، عليك أن تتأمل نفسك وأحوالك ومواقفك، بل والأفضل لك أن تدخر طاقتك لتحسين الصورة التي أنت عليها، لا بتبديدها في النيل من الآخرين.
ويختتم الكتاب بفصل بعنوان "تدريبات لمواصلة العيش في سعادة منذ الأمس وحتى اليوم". بغض النظر عن الأمس المنقضي واللحظة الراهنة، بإمكاننا أن نكون سعداء، بل بتعبير دقيق، أن نختار أن نكون سعداء، وهنا مبرر الجمع بين الأمس واليوم في عبارته السابقة. يرتبط بهذا عدم تضييع الوقت فيما لا طائل من ورائه. واكتساب حكمة أو بصيرة أن ترى الأشياء وسط غبش معاناة العيش وصراعات العالم من حولنا. وهذا يتطلب قدرًا كبيرًا من ترويض الذات على الهدوء الذي يمنح المرء القدرة على التمييز بين الصواب والخطأ. هذا الهدوء هو المرتكز الذي يدعم اتخاذ القرارات السليمة، فهل يزج المرء بنفسه في صراعات منهكة أم يبحث وينشغل بأخذ المزيد من المزايا في تحسين ذاته وتنميتها؟ هذه القدرة في حاجة إلى هدوء وبصيرة واختيار واعٍ، وكلها في النهاية تشيد جسرًا يمكن تسميته "الاستمتاع" بما نفعله. هذا كله لا يجب أنْ يشغلنا عن مواساة الآخرين وقت حاجتهم إلينا. فمثل تلك المواساة تمنحنا مكافآت مستقبلاً، وتهبنا أفعالاً طيبة نكمل بها مسيرة إصلاح ذواتنا في هذا العالم المادي الذي يصارع فينا إنسانيتنا بكل قسوة، فضلاً عن دورها في رد بعض الديون التي يكفر بها المرء عن أخطاء الماضي.
--------------------------------
- الكتاب: "السعادة".
- المؤلف: بوب نيون.
- الناشر: نامو ييه مائم، كوريا الجنوبية، 2016م.
- اللغة: الكورية.
* مدرس الأدب الحديث والمقارن بكلية الآداب - جامعة القاهرة
